متى يعي المسلمون هذه الحقيقة البسيطة: أنَّ إدارة الاختلاف معيار النجاح، وأنَّ فشلهم في إدارة الاختلاف كان هو السبب الأكبر والأول في الإخفاقات المتوالية التي مُنِيَتْ بها أغلب مشاريع التغيير؟!
إنَّ في حياة الناس حقيقة لا تقل رسوخا عن حقيقة الوجود الإنسانيِّ ذاته، وهي اختلاف العقول في طرائق التفكير وأساليب التعقل وأوجه التعاطي مع ما يعرض لها في هذه الحياة من معطيات؛ لذلك – ولأنَّ الإسلام دين الفطرة – جاءت بمحاذاة هذه الحقيقة الواقعية حقيقة قرآنية وهي أنَّ هناك قدرا من الاختلاف مقدرا على العباد يتجاوب مع حكمة الله عزَّ وجلَّ في الابتلاء، قال سبحانه: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) أي: “للاختلاف خلقهم” (الاعتصام للشاطبيِّ 3/88).
هذه هي الطبيعة البشرية، التي تمضي بمحاذاتها طبيعة النصوص القرآنية، فنصوص الكتاب لم تأت كلها محكمةً لا تحتمل في الفهم إلا وجهاً واحداً، وإنما جاء أغلبها حمّالَ أَوْجُهٍ، قال تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنَّ أمُّ الكتاب وأخر متشابهات)؛ ومن ثَمَّ فإننا نستطيع القول بأنَّ طبيعة النصوص جاءت ملبية للطبيعة البشرية، ومحققة لمصالح العباد المتجددة وحاجاتهم المتغيرة.
فلا ريب أنَّ إدارة الاختلاف تنبثق عندنا من بيئة ثقافية أصولها تؤسس لفقه الاختلاف وآدابه؛ فلا مبرر – إذاً – للاضطراب الذي ينشأ عندنا وفي واقع حياتنا المعاصرة وفي أنشطتنا العلمية والسياسية والدعوية والحركية والجهادية، ولا تفسير لهذا الاضطراب إلا بالقدح في الفهم أو التجرد؛ إذ لا يمكن – والأمر هكذا – أن تنتج النصوص ولا الحقائق المنبثقة عنها اضطرابا أو اختلالا.
وإذا كان الإيمان بالحقيقة التي أسلفناها هو قاعدة الانطلاق إلى إدارة رشيدة للاختلاف تحقق الحدَّ الأدنى للوحدة الإسلامية الواجبة وتنهي حالة الاحتراب بين الأصحاب والأحباب؛ فإنَّ هذا الإيمان وحده لا يفي بالغرض إلا بقدر ما تفي قواعد البنيان بأغراض الساكنين، ولا يحقق لنا ما نرجو من الائتلاف إلا بقدر ما يحققه طقطقة الشفاه وطأطأة الرؤوس لدى سماع آية من الآيات التي تدعو إلى الوحدة وتفرضها على المسلمين.
يجب أولا وقبل كل شيء أن نجدد إيماننا تجديدا يحيي الإخلاص والتجرد ويزيل من القلوب ما علق فيها من دخن الشهوات الخفية؛ وذلك لأنَّ مصالح العمل العام تلتبس وتشتبك – مع طول الأمد وكثرة العوارض – بالمصالح الحزبية الضيقة، تلك التي لا تنفصل غالبا عن المصالح الشخصية التي تتَّحد – شاء الإنسان أو أبى – مع مصالح الطائفة أو الجماعة أو الحزب؛ ومن هنا جاءت النصوص القرآنية تحوط المؤمنين بتوجيهاتها لدى الانخراط في العمل العام، ففي بداية فرض الجهاد سأل بعض الناس عن الأنفال – وهي الغنيمة والفيء – فجاء الجواب على هذا النحو الذي يمنع من استشراف المغنم: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول؛ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله)، فبرغم أن الأنفال أرزاق ساقها الله للمؤمنين وقسمها بينهم بحكمه جاء هذا الجواب ليفصل بين الغايات التي يجب أن نستصحبها وبين النتائج التي يجب أن نتركها لله تعالى يحكم فيها بحكمه قدريا كان أو شرعيا.
ويجب ثانيا أن نفرق تفريقا حاسماً بين الثوابت والمتغيرات؛ بما يحقق الرشد والتوازن في التعاطي مع الأمور، فإنَّه من الملاحظ أنَّ كثيرا من الخلط يقع من جهة عدم التمييز بين الثوابت التي لا يُخْتَلَف عليها وبين الأمور الاجتهادية التي يسوغ فيها الاختلاف، وهنا يأتي دور العلماء الربانيين مع أهل الخبرة والتجربة في (بَلْوَرة) الثوابت وإشاعة العلم بها، مع تحريرها من كثير مما علق بها وتلبس بها بفعل الجاهلين أو المغرضين.
كما يجب – إلحاقا بالعنصر السابق- أن توضع جملة من الضوابط للتعامل مع المتغيرات وموارد الاجتهاد، ضوابط علمية وضوابط أخلاقية؛ حتى تحقق الحكمة من الاختلاف بإثراء الساحة بالآراء المتنوعة التي تلبي تنوع الحاجات وتعدد الأغراض، وحتى نتلافى ما يترتب على اختلاف الآراء من ردود أفعال سلوكية واجتماعية.
وكما يجب التفريق بين الثوابت والمتغيرات يجب كذلك التفريق بين ما هو من قبيل الأحكام الشرعية وبين ما يُعَدُّ من قبيل الآليات والأدوات والأمور الدنيوية، فأمَّا الأحكام فتعرف من مصادر الشرع وأمَّا الأخرى فمصدرها العقل والتجربة الإنسانية؛ لذلك كان الصحابة حريصين على التفريق بينهما في مورد الشورى واتخاذ القرارات، وأقرب الأمثلة على ذلك قول الحباب بن المنذر للنبيّ صلى الله عليه وسلم في بدر:
“أرأيتك هذا المنزل، أهو منزل أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدم أو نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟”، وكذلك فعل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة يوم الأحزاب، ولا ريب أن الخلط بينهما يضفي قداسة وعصمة على أمور دنيوية ويعري كثيرا من الأمور الشرعية عن خاصيتها الحجية ويوقع في الالتباس والإبلاس.
ويجب كذلك التفريق بين موقفنا من الرأي وموقفنا من صاحبه، فقد يكون الرأي منكرا دون أن يكون صاحبه من أهل المنكر، وقد يقتضي الرأي تفنيدا وإبطالاً دون أن يستدعي ذلك بالضرورة إفساد العلاقة مع صاحب هذا الرأي، بل إنَّه من المقطوع به أنَّ القول قد يكون كفرا ولا يلزم من ذلك بالضرورة تكفير قائله؛ هذا التفريق يسهم في منع التعدي الذي يقع بذريعة المخالفة في الرأي.
والأهم من كل ما سبق أن تكون هناك خطوطا حمراء بارزة لا يصح تجاوزها مهما كانت درجة الاختلاف، فمثلا التحالف مع أعداء الإسلام ضد المخالفين من أهل الإسلام خط أحمر، وما أكثر ما وقعت الكوارث للأمة في تاريخها كله بسبب ذلك، ولا يزال كثيرون ممن ينتسبون للعمل الإسلاميّ بل والجهاديّ يستحلون هذا الحرام.
ومن الأمور التي يجب مراعاتها بهذا الصدد أن نسعى لتعظيم المشتركات وتوسيع دائرتها وتأكيد احترامها، وقد علمنا القرآن الكريم ذلك، فبرغم الصراع الذي كان محتدماً على كافَّة الأصعدة مع أهل الكتاب رأينا القرأن الكريم يؤكد في أكثر من سورة على المشتركات التي يجب الانطلاق منها بغية الوصول إلى أمر رشيد، فها هو يؤكد على إيمان المؤمنين بجميع الرسل: (قولوا آمنا بالله وما إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) هذا المشترك يتم تقريره وتعظيمه لعله يكون منطلقاً للمأمول في قول الله تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله)، وإذا كان القرآن يعلمنا هذا السلوك مع أهل الكتاب فكيف بأهل الإسلام ؟!.
ويأتي دور الحوار البناء الذي ينطلق من المشتركات الواضحة: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) فالمشترك الذي يُطْلَبُ إحياؤه بتصحيح إيمان أهل الكتاب بربهم وكتبهم منطلق للمجادلة بالتي هي أحسن، وهي الحوار في صورته الحضارية الرَّاقية، وهو وثيق الصلة بالدعوة الحكيمة: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).
ثم تأتي الشورى التي تؤسس على رشد ووعي وتوضع لها الآليات التي تحقق استقامة الأداء وتضمن سلامة المنتج، إنَّ الشورى هي الضمانة الكبرى لإحراز الصواب في القرارات، وتحصين الجماعة من التنازع والتدافع، والحيلولة دون شيوع المسئولية المفضي إلى التواكل والإهمال، والأمر القرآني الذي نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بتطبيقه غاية في الوضوح: (وشاورهم في الأمر) (وأمرهم شورى بينهم).
وفي الختام تأتي المؤسسية والعمل المؤسسيّ لتجعل الاختلاف في الرأي مجرد مرحلة في سلسلة الإجراءات التي تنتهي باتخاذ القرار، وتضع لكل قول ورأي مساراً لا يلتبس بغيره ولا يخرج عن فلكه، ومن المؤكد أنَّ هذا العنصر يحتاج منَّا إلى مقال خاص؛ لذلك نكتفي بالإشارة إليه كأحد مقومات إدارة الاختلاف.
إنَّنا أمام تحدٍّ كبير، وأمام تهديدات قد تكفي لإهلاكنا ألف مرة إذا لم ننجح في هذا الباب الكبير الخطير، وإننا لمقبلون على تحول حضاريّ كبير سيقلب الدنيا ويدير دفة الكون، فالذي يلاحظه الكافَّة ولا يختلفون فيه هو أنَّ الغلاف البشريّ للكوكب الأرضي يمور ويضطرب؛ بما ينذر ويبشر بتحولات هائلة، وفي مثل هذه الظروف يكون الأخذ بأدوات التحضر والتقدم والتمكين واجب اللحظة، وعلى رأس هذه الأدوات إدارة الاختلاف.