بغير رؤية تحيط بالأحداث من خارجها لن نبصر طريقنا، وبغير قوة خارجية جاذبة سنظل رهن صندوق الحدث نمارس ردود أفعال متعاكسة كتلك التي يعانيها الفأر إذا وقع في (المصيدة)، والتاريخ وما يحويه من سنن ونواميس هو الفلك الخارجيّ الذي يجذبنا، لنخرج من الصندوق، ونرى الحدث ومقدماته ونتائجه رؤية دقيقة عميقة.
وبرغم أنَّ تاريخنا لا سيما الصدر الأول منه، مليء بالأحداث مترع بالعبر والدروس، نبقى في حاجة للاستفادة من التجارب الإنسانية، فالحكمة ضالة المؤمن، الذين خالفونا في الدين لم يتمحضوا للشر المطلق؛ فما ذهبوا إليه من خير وصلاح فنحن أولى به، ولاسيما الشعوب الغربية التي عرفت -رغم ما فيها من همجية وعدوان- بخلال وخصال اعترف بها الأوائل المنصفون.
فقد روى مسلم عن الْمُسْتَوْرِدُ الْقُرَشِيُّ، أنَّه قال عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: “تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ”، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَبْصِرْ مَا تَقُولُ، قَالَ: أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالًا أَرْبَعًا: إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ.
ولكي تتحقق لنا الاستفادة المطلوبة يجب أن نتخلص من الشعور بالأسر؛ فإنَّ كثيرا ممن يتحررون من الأسر يبقون غير قادرين على التحرر من الشعور بالأسر، فنحن واقعون في أسر الحدث الآنيّ غير قادرين على التحليق بفكرنا وشعورنا خارج إطاره المحكم.
يجب أن ننظر إلى السياق كله حتى يصح القياس على سياقات كاملة؛ لأنَّ القياس بين السياقات أكثر أماناً من القياس بين الأحداث الجزئية؛ إذ ربما يقع التداخل فلا يقاس الحدث بنظيره، فيكون قياسا مع الفارق وهو باطل باتفاق العقلاء.
والسياق الذي يشكل الحدث الآنيُّ جزء منه هو سياق التحول الحضاريّ وبدء النهضة الإسلامية الجديدة الوليدة، هذه هي الحقيقة التي يدعمها استقراء ما وراء الأحداث من أسباب ودوافع قبل أن تدعمها النصوص التي تبشر في عبارات صريحة بعودة هذه الأمَّة لموقعها الرياديّ ومكانها القياديّ، ولسنا بصدد الاستطراد في هذا البيان، إذ ليس هذا موضعه، ونحن إنَّما نخاطب بالأساس المؤمنين به الواثقين بحتميته.
هذا السياق الذي يمثل عندنا فجر الثورة والنهضة، ويشعل في أوساطنا الفكرية والحركية شرارة التحول الحضاريّ هو ذلك الذي بدأ ببزوغ شمس الصحوة الإسلامية المعاصرة ولم ينته بعد، أمَّا السياق الذي نريد القياس عليه فهو فجر النهضة الأوربية الذي بدأ في المدن الإيطالية التي أعلت مثال الحرية وناضلت من أجل تحرير الإنسان -جنس الإنسان- من الظلم والاستبداد والطغيان.
هذه هي حقيقة الانطلاقة الأولى -بقطع النظر عمَّا طرأ بعد ذلك من انحراف أو قصور عن بلوغ الغاية- فعندما أعلن الطاغية (جانغالياتسو) الحرب على فلورنسا كتب (سالوتاتي) رسالة جاء فيها: “الآن سوف نحمل السلاح للدفاع عن حريتنا وحريات الآخرين…”.
وامتدح (ليوناردو بروني) شعب فلورنسا على جهاده ضد الطغاة فقال: “مواطنونا يبتهجون ابتهاجا عظيماً بحرية جميع الشعوب، لذا فهم الأعداء المطلقون لجميع الطغاة”.
وإذا كانت (الديرية) التي أسسها بعض المتحررين من رجال الكنيسة قد نجحت في تربية جيل كبير على الفكر المستنير أو الذي ينشد الاستنارة؛ فإنَّ المحاضن الدعوية التي انتشرت في طول وعرض البلاد العربية قد نجحت في تربية جيل مستنير وقادر على استلهام مزيد من الاستنارة.
وإذا كانت جامعات بولونيا وباريس وأكسفورد وغيرها قد وفرت المناخ للتحرر الفكري والتحرك الإنسانيّ؛ فإنَّ التعليم الجامعيِّ في ديارنا قد أتاح الفرصة لحركات طلابية أن تؤسس للتحرر الفكريّ والثقافي والتحرك الدعويّ، وإذا كان أمثال دانتي وتوما الإكويني ومارسيليو بادوا وبترارك وغيرهم قد أشرقت في أكفهم شمس النهضة الأوربية؛ فإنَّه -ومع فارق التشبيه- قد وجد في سياق تجربتنا أمثال سيد قطب والبنا والمودودي وغيرهم ممن أشرقت على أيديهم شمس الصحوة الإسلامية.
لذلك، يتوجب علينا أن ننظر في تجربتهم، وأن نستفيد منها، ولا يشترط أن نقلدها “حذو القذة بالقذة”، ولكن يكفي أن نستلهم منها ما يصلح لنا في السياق الحركيّ والإطار التنظيميّ وفي وضع الرؤى والاستراتيجيات، وهذا ما يدعونا للقياس ويحدونا للاقتباس؛ فما هي حقيقة هذه التجربة الرائدة.
والحقيقة أنَّ النظر إلى التجربة الإيطالية في عصر النهضة -التي تعد رائدة كل الثورات التي وقعت في أوربا بعد ذلك- من خلال كتب التاريخ وحدها لا يفي بالغرض؛ لأَنَّ المؤرخين اعتادوا أن يكتبوا تاريخ الدول والقوى والأسر الحاكمة، وتعرضهم لتاريخ الفكر والأدب والثقافة والتحولات الحضارية ضعيف.
ومن ثم، فلا بد من مطالعة كتب الفكر السياسي والكتب المعنية بتطور الفكر والثقافة ومراحل النمو الحضاريّ، أمّا الاكتفاء بكتب التاريخ فإنَّه يخرج الأحداث على أنَّها صراع بين الإمبراطورية والجمهوريات، أو بين الكنيسة والسلطة الزمنية، والحقيقة أنَّ هذه الصراعات لم تكن -رغم ضخامتها- إلا آثار الأحداث الكبار.
فما حقيقة ما حدث؟ هذا ما سوف نتعرض له في مقالنا القادم، لكننا قبل أن نبرح نؤكد على مبدأ القياس الذي يعتمد على وحدة السنن وحيادية النواميس الإلهية، فإذا أبيح لرجل مثل هارولد لاسكي -وهو انجليزيّ- أن يقيس معطيات ومقدمات الثورة البلشفية على الثورة الفرنسية رغم ما بينهما من تباعد في الأيديولوجيات.
فيقول: “تمثل الثورة الروسية في علاقتها التاريخية بالقرن العشرين نفس وضع الثورة الفرنسية بالنسبة للقرن التاسع عشر، فكل منهما سبقه إعداد طويل من التحليل الأيديولوجي، لم يستطع فيه أنصار من بيدهم مقاليد القوة أن يردوا فيه على تحدي أولئك الذين أنكروا سلامة الطريقة التي تعمل بها القوة، وكان كل منهما نتاج حقبة طويلة من سوء الحكم، كان عدم كفاءة الحكام فيه يكاد يكون أكثر بروزا حتى من روح الاضطهاد السائدة فيها، كما بدأ كل منهما بروح من التفاؤل والنشوة بدا أنَّها تفتح آفاقا واسعة من الحرية”.
أقول إذا ساغ هذا -وهو سائغ كما ترى من السياق- أفلا يسوغ لنا القياس ونحن أصحاب عقيدة تمكنها هيمنتها ووسطيتها من الاعتراف بأي حق في أي صقع وبأي خير مع أي قطيع من الخلق؟