لست متابعا لما يكتبه (ناجح إبراهيم) وأضرابه؛ لأنَّه إمَّا أن تحمل نفسك على ما ينفعها، أو تخلي بينها وبين ما يحل من متع الحياة، ولو بالاسترسال في نوم لذيذ، لكنني – وبينما كنت أتهيأ لقيلولة تتوق لها نفسي – دفعني فضول ما قبل النوم للنظر في رسائل (الواتس آب)، فإذا أحد الفضلاء يسألني عن رأيي في (مقال!) لناجح، وما إن طالعت بعض سطوره حتى طار النوم تاركاً نفسي كَعُشٍّ مهجور فوق شجرة جرداء، ووجدتني أحمل نفسي على ما تكره.
المقال من أوله إلى ما قبل آخره سرد موجز لثورة ابن الأشعث ونتائجها، وبغض النظر عن مدى دقة ما ورد في السياق من أرقام وأحداث؛ فليس في هذا السرد بذاته جديد مفيد، غير أنَّ الجديد في هذا الطرح هو التنزيل الغريب والتخريج المريب، فالأمَّة لم تجن من الثورات العربية المعاصرة إلا مثل ما جنته من ثورة ابن الأشعث: قتل وسجن الآلاف من أبناء الأمَّة بلا فائدة؛ فيا ليت الأمَّة الآن تصبر؛ لينالها بقدر الله ما نال الأوائل بحكم عمر ابن عبد العزيز الذي جاء بغير ثورة ولا جهاد ولا سفك للدماء.
هذا هو عين ما يريده الطغاة من رجال ينتسبون إلى العلم الشرعيّ: غرس عقيدة التسليم لحتمية الواقع؛ أملاً في تغيير يقع بقدر حتميِّ أيضاً، وبهذه العين نظر العاجزون إلى قول الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5-6] فأوعزوا إلى الأتباع أنَّ التمكين مِنَّةٌ محضةٌ تهطل كالغيث على المستضعفين دون سعي منهم، وقطعوا الآية عن سياقها الذي يتدفق إيجابية، إلى حدِّ أنَّ صندوق (النجاة) سعى بموسى إلى قصر فرعون؛ (ليكون لهم عدواً وحزنا).
ومع أنَّني أكثر ميلا إلى مذهب القائلين باعتزال الفتنة وعدم القتال فيها – وهو مذهب ابن عمر ومحمد ابن مسلمة وأسامة بن زيد وغيرهم من الصحابة – وأراه بميزان المصلحة هو الراجح، رغم أنَّه ليس رأي الجمهور، أرفض بشدة تحميل نتائج ما جرى على الذين خرجوا، سواء منهم العلماء أو الدهماء؛ لأنَّه – وبقطع النظر عن ابن الأشعث في ذاته – لا عهدة على طالب حق، إنما تقع العهدة على المستبد الذي أجبر الناس باستبداده وظلمه وبغيه على أن يقتحموا بأنفسهم وبالناس المهالك؛ ولذلك وجدنا السلف والخلف يكرهون ما جرى، ويترحمون على سعيد ابن جبير، ومن قبله على الحسين وابن الزبير، ويلعنون الحجاج وابن زياد.
إنَّ التلبيس الذي يمارسه كل من يستشهد بأحداث التاريخ الإسلاميّ على الواقع المعاصر يسلك سبيلاً واحداً، ألا وهو سوء التنزيل والتخريج، تماماً كاستشهادهم بنصوص صحيحة من القرآن والسنة بعد نقلها عن مواضعها، وهو مسلك من مسالك التزوير والخداع لا يقل بشاعة وشناعة عن وضع الأحاديث واختلاق الروايات؛ فلا تعجب إذا وجدت الحق ينطق به الشباب، ووجدت الشيوخ قد جانبهم الصواب.
وإذا كان العلماء قديماً قد دعو إلى ترك الخروج على الحاكم؛ فذلك لأنَّ الحكام – على جورهم – أقاموا في الناس كتاب الله، وأمضوا الجهاد في سبيل الله، وما وقعوا في الولاء لأعداء الأمَّة ولا تمالئوا معهم على دين الله، ولأنَّهم لم يظهر في حكمهم كفر بواح ولا تعطيل للصلاة ولا لحدٍّ من حدود الله، وإنَّما الذي وقع منهم هو الأثرة بالحكم وما يتبعه من أموال الأمَّة وحقوقها، وهو أمر إذا وضع في مقابل سفك الدماء وحمل المسلم سيفه على أخيه المسلم فلا ريب أنَّه سيكون موضع اجتهاد ومجال أخذ وردّ.
أمَّا الآن فهل بعدما جرى يشك عاقل في أنَّ هؤلاء الحكام لا يمثلون شعوبهم إلا بقدر ما كان يمثلها أيام الاحتلال المندوب السامي؛ فهم بإجماع العقلاء الجيل الرابع في سلسلة تطور الاحتلال الأجنبيّ لبلاد المسلمين؛ فكيف يقاس الحاضر على الماضي ؟ بل كيف يقال من حيث الأصل إنَّهم حكام.
إنَّ الشعوب لم تأثم بثورتها ولم تذنب، وإنَّ ثورات الربيع العربيّ لا تتحمل مسئولية ما جرى وما يجري مهما بلغ وتفحش، وإنَّما يتحملها فقط الذين حملوا الناس بظلمهم على أن يثوروا، ثم حملوهم بقمعهم على أن يتحولوا في ثورتهم من نمط مسالم إلى نمط غير مسالم، وإذا كان هناك من يتحمل المسئولية مع هؤلاء الظلمة فهم العلماء الذين تأخروا عن دورهم؛ حتى ارتجل الشباب ما استطاعوه من الوسائل، بغير رؤية واضحة ولا مشروع بَيِّن.
ولو ظللنا بهذا المنهج المنحرف نلقي باللائمة على كل طالب حقّ فسوف ينتهي بنا هذا الخرف إلى إدانة الإسلام نفسه؛ إذ سلك سبيل الجهاد لإخراج العباد من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد، ولو طردنا القاعدة التي يمضي عليها هؤلاء فلسوف يأتي اليوم الذي نلوم فيه الصحابة على خروجهم من المدينة وقتالهم أهل الردة وفتحهم لفارس والروم؛ لكون تلك المعارك أدت إلى وفاة كثير من العرب!
ولا يزال في السطور القليلة التي برزت فيها شخصية (الكاتب!) الكثير والكثير من المغالطات والترهات، لكنني مضطر إلى الاكتفاء والوقوف عند هذا الحدِّ من المخالفة لمنهجي الذي ارتضيته لنفسي، وأستغفر الله من كل ذنب.