ذكرى أم تذكرة؟.. هل هي ذكرى نحتفي بها ونحييها على نحو من الأنحاء؟ أم هي تذكرة نتعظ بها ونأخذ منها الدرس والعبرة؟ الواقع أنّ 25 يناير ذكرى وتذكرة، ذكرى يجب أن تظل حية في ضمير الأمة وفي حسِّ الأجيال؛ لتبقى على الدوام مصدر بعث ومنبع حياة، وتذكرة لا يصح أن نتجاهلها أو نتغافل عنها؛ فَنُحْرَمَ الهدى والرشاد ونُمْنَعَ الاستقامة والسداد.
ومن الواضح أنَّ الكلمتين تتعانقان لفظا ومعنى؛ فالذكرى والتذكرة مادتهما اللفظية واحدة، وأصلهما المعنوي واحد كذلك، فهما تتطابقان في بعض معانيهما، فتأتيان بمعنى اقتباس الدرس والعبرة، قال تعالى: “إنَّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب” وقال عزّ وجل: “كلا إنها تذكرة” وتستقل الذكرى بمعنى الاحتفال بمرور فترة معينة على الحادث، بينما تستقل التذكرة بمعاني أخرى، ثم إنّ إحياء الذكرى والاحتفال بها سبب لتحصيل التذكرة والاعتبار؛ وبذلك يقع بين الكلمتين تعاون وتعاضد.
وهكذا يجب أن يقع التعاون والتعاضد في نفوسنا بين الأثرين الكبيرين؛ لتتحول 25 يناير إلى طاقة دافقة دافعة، تستحيل في ضمير الأمّة قوة لا يفسرها ولايكشف عن كنهها إلا التغيير الجذريِّ الممزوج بنكهة الإعجاز، والمثير للإعجاب والتعجب معا.
فيا أيها المصريون، بل يا أيها العرب ويا أيها المسلمون؛ إنَّنا لعلى موعد كبير وخطير مع الذكرى السادسة لبلوغ الموجة الأولى للربيع العربيّ ذروتها على ضفاف النيل العظيم، وإننا لنقف الآن على رأس منعطف كبير في حياة الأمة كلها – إن لم يكن في حياة البشرية جمعاء – ننظر وراءنا إلى ماض نتجاهله ولا نستصحبه، وأمامنا وإلى مستقبل نجهله ولا نستشرفه؛ بسبب حاضر جثم على صدورنا بما يموج به من جهل وجهالة، بل إن شئت فقل: وجاهلية.
بإمكاننا – إن شئنا – أن نستصحب الماضي ونستشرف المستقبل، بمقدورنا – إن توفرت لدينا الإرادة والعزيمة والهمَّة العالية مع الثقة بالنفس وحسن الظن بالله – أن نتجاوب مع حركة الكون الذي يتجه برمته نحو تغير جذريِّ يقلب أعالي العالم أسافله، نحن نملك القدرة على أنَّ نجعل من 25 يناير 2011 منطلقاً أول، ومن 14 آب/ أغسطس 2013 منطلقا ثانيا، نحن نقدر على إعادة كتابة التاريخ من جديد، وعلى استعادة المسار وردِّ الناس إليه، أجل.. نملك ذلك كله، ونقدر على ذلك كله، إن نوينا وعزمنا وتقدمنا، وبنفس القدر وبنفس المنطق نفقد ذلك كله إذا أعرضنا وانصرفنا.
إنَّ ثورة الشعب في الخامس والعشرين من يناير لم تمت ولن تموت، ولئن كانت مكاسبها اللحظية قد ذهبت جملة، فإنَّ أثرها المعنويّ والعقديّ الذي حفرته الأحداث الكبار في ضمير الأمّة لا يزال كما هو لم يتبدد، بل إنَّه ازداد عمقا ووضوحا بما تلاه من أحداث صبت كلها في وعي الجيل، كل ما في الأمر أنّ تكاثف الظلمات مع غياب صوت الحادي الأمين يفرض الحيرة على السائرين، ولكن إلى حين.
لا يليق بنا أن نتعلل، ولا ينبغي لمثلنا أن يتلمس المخارج ويتحسس النوافذ للهروب من المسؤولية، فالحقيقة التي تدفعنا آلاف الدوافع لإغضاء الطرف عنها هي أنّ كل مقومات الاستمرار والالتزام بالمسار موجودة وموفورة، والخيار لنا، وليس فيه جبر، لأنّه يأتي على سنة الابتلاء والامتحان، ولكن في النهاية السنة الإلهية ماضية، والتغيير الكبير قادم، ولن يقف الحق باكيا على أبوابنا يناشدنا الخروج، لأنّه ظافر بنا أو بغيرنا، فالغنم لنا إن أقدمنا والغرم علينا إن أحجمنا، “وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم” هكذا قضى الله، ولا رادَّ لقضائه وحكمه.
ونحن إن قمنا بمراجعة أدائنا – بدلا من مراجعة عقائدنا وثوابت ديننا!- سوف نكتشف أن الخطوة الأولى التي لا يصح أن تُسْبَقَ بقيد شعرة هي أن نضع استراتيجيتنا في التغيير، وأن تلتقي كلمتنا عليها، وألا تكون مفصولة عن أحكام ديننا وعن سنة الإسلام في التغيير وفي بلوغ التمكين، ومع ذلك فإنّ التصحيح لا يزال في حيز الإمكان، أمّا إن استمر هذا التخبط الناشيء عن ردود الأفعال الوقتية وعن الإصرار على الأخطاء القديمة فسوف يخرج الخطر عن كل حدود السيطرة وقيود التحكم.
إنَّ أخطر ما نعانيه – بعد تفرق الكلمة وإعلاء المصالح الحزبية على الحق – هو الإصرار غير المفهوم وغير المبرر على الأخطاء القديمة: انتظار الحلول من عدونا.. الجمود على المسار التقليدي مع مصادرة اجتهادات الناس والحجر على إبداعهم.. التفريط في الهوية.. الخضوع للابتزاز.. وغير ذلك مما تبين للصبيان أنَّه عبث لا يليق.
ها هو 25 يناير ذكرى وتذكرة.. فهل من مُدِّكِرْ؟