لا يصح – ابتداء – أن نسعى للتنصل من المسؤولية، ولا يصح كذلك أن نمارس جلد الذات جلدا يشغلنا عن الدراسة الحقيقية لحدود المسؤولية وآثارها وما يترتب عليها، لكن الذي يصح – بل يجب وجوبا عينيا – أن نقوم بدراسة نازلة الانقلاب بكل مكوناتها: الأسباب والنتائج، والعوامل الفاعلة، والمؤثرات الجانبية، وأطراف الصراع ودوافعهم، وما سبقها وما تلاها من أحداث، وغير ذلك مما يترتب على فهمه ودراسته الخروج برؤية متكاملة وتقويم شامل، تقويما لما كان، ورؤية لما يجب أن يكون في المستقبل، وبين التقويم والرؤية تتضح المسؤولية .. المسؤولية عمّا جرى.
ولست أعني بذلك المسؤولية القانونية أو الجنائية أو الحكمية، تلك التي يترتب عليها الضمان قانونا أو شرعا؛ فتلك واقعة – بما لا يصح التردد أو الارتياب فيه – على النظام الانقلابيّ وكل من عاونه بالتحريض أو التزيين أو غير ذلك؛ فهم الذين باشروا القتل العمد العدوان، ومارسوا الانتهاك الصريح لكل حقوق الإنسان، دونما مسوغ ممن وقع عليهم الظلم ولا ممن دعاهم إلى المواقف التي جلبت عليهم ما حل بهم من مظالم.
وإنّه لمن قبيل التلاطم المهووس والتقاذف الممسوس أن تشيع الاتهامات والتدافعات بين أنصار الشرعية بهذه الصورة العبثية التي كادت تصرف القلوب والمشاعر والهمم عن ملاحقة القتلة المجرمين وأعوانهم، حتى صرنا نترقب بشغف يشوبه التوتر – بل والتربص – لقاء المشايخ الثلاثة الذين توعدوا بأن يكشفوا عمّا أسموه بالحقائق التي غابت عن الناس!
وما هي الحقائق التي غابت عن الناس والتي سيترتب عليها دفع التهمة عن السفاح وإلصاقها بهذا أو ذاك؟! وهب أنّ المشايخ هؤلاء صدقوا فيما قالوا – وهم غير صادقين في الحقيقة – وأنّ قيادات الإخوان وأعضاء التحالف رفضوا عرض السفاح الذي جاء به هؤلاء المشايخ الوسطاء – لأيّ سبب من الأسباب المتعلقة بالسعي في تحصيل المقصود من الاعتصام – فهل يعد هذا في عرف الصراع غدرا أو نكثا؟! وهل كان المعتصمون ينتظرون حقن دمائهم وحسب حتى ولو ذهبت مقاصد الاعتصام جملة؟!
ولو – فرضا – عاد بنا الزمان إلى الوراء فرأينا قيادات التحالف تخرج على الناس من الغرفة التي احتوشتهم مع المشايخ الوسطاء لتعلن على رؤوس الأشهاد: أيها الناس إنّ السيسي قد وعد بألا يفض الاعتصام بالقوة؛ ولكن عليكم فقط أن تفتحوا الميدان وألا تخرجوا بالمظاهرات إلى الشوارع، ولكم في المقابل أن ترقدوا هنا على الأرصفة ما حلا لكم الرقاد.. فبأيّ جلدة آدمية كلحاء كانوا سيتلقون بصق الناس عليهم، إننا بسبب الحالة المرضية التي نمر بها يستدعي كل واحد منا جزءا مبتسرا من المشهد ويحاول أن يفسر النازلة كلها وفق إيحاءت هذا الجزء الذي مات بسبب البتر.
فالمسألة في حقيقتها أكبر بكثير مما نعالجه، وإنها – لعمر الحق – تضامنية بين الكبار والشباب، وما كان يؤمن به الكبار هو ذاته ما كان يؤمن به الشباب، سوى بعض الاجتهادات التي يختلف فيها الناس فيصيبون ويخطؤون، وإنّ العوامل التي حكمت المسار متعددة تعدد التصورات والأفكار، وما العامل المتعلق بالقرارات – أيا كانت – إلا كالفسيلة العاقر وسط غابة كثيفة متشابكة، فالمسألة متعلقة بثقافة أجيال متتابعة، وبتاريخ أمّة واسعة، وبتركيبة مجتمع شديدة التعقيد والتداخل، وبتدافعات إقليمية ودولية عظيمة الأثر، وبحصاد عمل إسلامي ووطنيّ امتد لعقود طويلة، له ما له وعليه ما عليه.
إنّ العسكر ومن عاونهم ومالأهم من أعداء الدين والوطن هم وحدهم من يتحمل المسؤولية القانونية والشرعية والتاريخية، وهم وحدهم من يقع تحت طائلة المؤاخذة الشرعية بالقصاص والضمان، لكن هذا لا يعني انعتاق الكبار من الإسلاميين من العهدة أمام الله تعالى عمّا جرى، فما مدى مسؤوليتهم عن ذلك، وقبله عن ضياع مكتسبات الدعوة ثم مكتسبات الثورة.
والذي أعنيه هو المسؤولية الأخلاقية، التي هي من قبيل النصح والرعاية والتوجيه والفتوى، المسؤولية التي تلقى على كاهل الكبار تجاه من يتبعونهم ويثقون بهم، وهي مسؤولية غير قانونية ولا حكمية، وإنما هي ديانة بين العبد وربه، قد تدخل في دائرة العفو، وقد يقع صاحبها تحت طائلة المسؤولية الأخروية إذا كان قد داخله الهوى، ومن ثَمّ فلا يصح التعلل بها لتبرئة من ارتكب الجرائم أو – حتى – لتخفيف العقوبة عنه، لا سيما وقد قامت الأدلة الواقعية على أنّ نيتهم في الإجرام سابقة على ارتكابهم له.
إنّ على أهل الحل والعقد في الأمة الإسلامية كلها – ويتقدمهم العلماء – مسؤولية كبيرة تجاه الدماء التي أريقت، وتجاه الحقوق والحرمات التي انتهكت وتجاه المكتسبات التي تبددت بعد تحصيلها بتراكم الجهود وبذل المهج والأرواح، ولا يصح هنا أن نتهم القدر ونستسلم لتلك المقولات الانهزامية التسويغية التي لا تمت للإيمان بالقضاء والقدر أو التسليم له بأدنى صلة؛ لكونها محض استسلام للواقع وانسحاق تحت معطياته وتحدياته، من مثل قولهم: “ليس لها من دون الله كاشفة” وهي الجملة التي اقتبسوها من كتاب الله تعالى وأسقطوها على غير ما وردت فيه.
من المسؤول عما جرى؟ سؤال لا يصح الهروب منه ولا التجافي عنه، على من تقع المسؤولية التاريخية والأخلاقية والدينية؟ والسؤال منطقيّ؛ لأنّ الأمة لم تكن يوما من الأيام سدى بلا قيادة ولا مرشد، فرغم شغور الزمان من السلطان الشرعي، ورغم خلوه من الهيئة الجامعة لأهل الحل والعقد؛ إلا أنّ الأمة لم يخل يوم من أيامها – من لدن سقوط الخلافة إلى سقوط أول دولة للإسلاميين في مصر – من المتبوعين المطاعين كالعلماء والدعاة والمصلحين وقادة الدعوة والحركة، ولأنّ الطاعة لهم من الأجيال قائمة بالشكل الذي يزعج الأنظمة ويجعلها دائما تشعر بالقلق من ولاء الأجيال لعلماء الأمة ودعاتها، ولأنّ حراك الإسلاميين والوطنيين لم يأت عفويا دون ترتيب أو توجيه.
فلنكن شجعانا بالقدر الذي يضمن الإجابة الصحيحة على هذه الإسئلة الملحّة والخطيرة، ويميط عن كاهل الحركة الإسلامية حالة التواكل والتدافع المستمرة، فلعلنا إن توصلنا إلى تحديد المسؤولية وحجمها وتبعاتها، ثم تعيين الإجراءات التي كانت سببا فيما جرى؛ أن نصل إلى رؤية صحيحة للخروج من الأزمة، ولعلنا نسلم من المؤاخذة في الآخرة بين يدي الله تعالى، وتلك هي منصة الإنطلاق، إن أخطأناها أو تجاوزناها فسوف يظل الانطلاق الصحيح خارج حيز الإمكان.
وقد يظنّ البعض – ممن لا يفرقون بين الأمور المتشابهة ظاهرا رغم اختلافها في الواقع – أننا نعيد طرح الإشكال الذي طرحه من قبل أولئك الذين ألقوا بأنفسهم في أحضان المجرمين ومالؤوا معهم، ممن انتسبوا إلى العمل الإسلاميّ بصورة ما؛ لذا نقول: إنّ دعوتنا هذه ليست للوصول إلى ما دعوا إليه من الركون للعسكر والاستسلام لحكمهم، وإنما لاختيار الطريق الأصح والأقوم لمقاومتهم ودفع عدوانهم على الأمة وعلى دينها، أيّا كان هذا الطريق وأيا كانت أدواته وآلياته والاستراتيجيات المتبعة لسلوكه، وإنّه لمن المعلوم من الواقع البشريّ بالضرورة أنّ التقويم الذاتيّ الداخليّ لا يعني دائما صحة ما يقال عنه بالخارج.
فهل نحن على استعداد للإجابة على هذه الأسئلة؟ وهل نحن قادرون على تحمل المسؤولية؟ هذا هو السؤال الذي تعد الإجابة عليه منصة الانطلاق الوحيدة