لا يختلف اثنان في أنّ مناسبة 25 يناير المقبلة تمثل رأسا لمنعطف حاد في مسيرة الصراع بين المعسكرين المتصارعين في مصر، فكلاهما يتطلع إليها ويطمع في أن تكون النهاية لمتاعبه، فهي في طموح العسكر وحلفائهم المحطة الأخيرة للحراك المناهض للانقلاب، إن مرت بسلام فقد حكمت طبيعة الأمور قبل معطيات الأوضاع على هذا الحراك بالتوقف وعلى مسيرة التغيير بالتراجع، وفي طموح الثورة والثوار تعد الأمل الأخير في إشعال موجة ثورية عالية المد، إن أحدثت جديدا يختلف عن النمط السابق فسيكون لها من الشأن ما يخشاه جميع المتآمرين.
إلا أن الخلاف الحقيقيّ الذي يبعثر أنظار الجميع في متاهات التوقعات والتخمينات يتمثل فيما وراء هذه الرأس المحدبة من المجهول الغارق في الإبهام والضبابية؛ فجميع المعطيات الواقعية تشير إلى فوه بركان هائل، تسبح فوقه كتلة اليابسة القابعة في شمال شرق القارة السوداء، لا يمنعه من الانفجار إلا قشرة رقيقة من التوجس والتخوف، قد تنهار مع أول صيحة قوية صادقة لثورة شعبية عارمة، وقد تبقى وتشتد وتتماسك إذا نزل الثلج خلف الأكمة المحدبة، وجميع المعطيات الواقعية أيضا تظهر معسكر الثورة خافت الضوء، لا يرى فيه غبار ولا نار، وإن كان يسمع فيه همهمة وحمحمة.
وإذا اقتربنا من الواقع أكثر وجدنا هناك على أرض مصر حقيقة ذات شقين، كل منهما يمثل طرفا في الدائرة العويصة، الشقّ الأول من هذه الحقيقة الملموسة المحسوسة هو أنّ العسكر وعلى رأسهم “سِيسِيّهم” فشلوا في إدارة الدولة وفي تسيير أمورها الداخلية والخارجية، والشقّ الثاني منها هو أنّهم نجحوا نجاحا كبيرا في إحكام سيطرتهم وتقوية قبضتهم الأمنية على البلاد. فأمّا الشقّ الأول فقد وفر بارتياح شديد الطرف السالب في الدائرة، وأمّا الشقّ الثاني فقد أعاق بارتياح أشدّ الطرف الموجب الذي لا يمكن أن تكتمل الدائرة وتشعتل الحركة بدونه.
إنّ الشعب يشعر الآن – بحاسّته الفطرية وبما ركب فيه من استشعار لما يهدد حياته – أنّ البلاد قد وضعت على منحدر زلق، لا مصدّ فيه قبل الهاوية السحيقة، ويدرك أنّ البنى التحتية للدولة قد تفككت وتبعثرت ثم تبخرت وتبددت، وأنّه لم يعد في بلاده دولة ولو بمعناها الزائف الخادع، ولم يبق ثمّ إلا عصابة، لا تحكم ولا تمارس سلطة ولو منتحلة، وإنما تتحكم وتتسلط وتمارس باحتراف الفساد والاستبداد، ويعي أن الاقتصاد لم يعد له قوائم ينهض عليها من كبوته الكبرى، بعد هجرة الاستثمار وعزوف السياحة والأفول المنتظر لتدفق النيل العظيم.
وإذا كان غلاء الأسعار وتدهور الحالة المعيشية قد أفقدا المواطن إحساسه بالحياة؛ فإن الفشل الدائم قد أفقده الأمل وألزمه اليأس والإحباط. وليس من المنطق أن نعتقد بأن الإعلام الكاذب قادر على أن يغير ما تراكم في عمق وعيه من إدراك لواقعه المر ومستقبله الأمر، إن الإعلام لا يستطيع أن يقنع الجائع بأنّه شبعان، ولا الظمآن بأنّه ريّان، ولا المفلس المدين بأنّ حسابه في البنك يتضاعف مع مر الأيام الحسان.
لا تصدق الصورة التي تراها باهتة باردة تعكس حالة شعب قانع بعيشه راض عن دولته، فخلف هذه الصورة التي صنعها القهر والقمع واقع يفور وأرض من تحته تمور، ولا يغرنك ذلك الذي تراه من أنصار البيادات، فهم لا يمثلون إلا أنفسهم ومصالحهم الغائصة في الأنانية، ولقد حفلت بهم كل فقرات التاريخ في أرض الله كلها؛ فما منعوا ثورة ولا أوقفوا مسيرة للتغيير.
هذا هو الطرف السالب، الذي لن يحدث تغييرا بمفرده إلا إذا زرع القمح من غير زارع وصنعت السفينة الماخرة من غير صانع، إنه لمن البديهي أن يتوفر الطرف الموجب؛ ليكمل الدائرة الفاعلة، وإلا فلن ينير المصباح، ولن تدور الآلات، وستظل المحركات العملاقة رابضة كالأحجار الصماء لا تسمع لها ركزا.
لا بد إذن من بعث جديد، لا بد حتما من إشعال ثورة جديدة، وإلا فلن يحدث شيء على ظهر الغبراء، ولن يتغير شيء تحت قبة السماء، وإن حدث شيء فلن يكون لنا ولا للحق أو العدل فيه نصيب، وسنكون جميعا ومعنا كل ما نرفع لواءه من قيم الإسلام والإنسانية خارج كل المعادلات.
والطريق واضح وضوح النهار، وما جهلناه أو تجاهلناه بسبب إهمالنا العفوي أو المقصود للمنهج الربانيّ في التغيير قد علمناه الله تعالى بالأحداث والدواهي، فما عاد شيء خافيا على أحد، وما عاد أحد لا يبصر الطريق، لذلك سوف أطرح جملة من المسَلّمات التي لن يختلف فيها أحد؛ لفرط ظهورها وتبديها.
المسَلّمة الأولى هي أن الحراك الثوري بهذه النمطية العقيمة وبهذه الرتابة المميتة لن يضيف جديدا، سوى المزيد من القتلى والجرحى والمعتقلين والمطاردين داخليا وخارجيا، وأن الشرع والعقل يقضيان بضرورة مقابلة مفسدة هلاك الأنفس ونهكة الأعراض والأموال والحريات بتحقيق مصلحة معتبرة شرعا تربو على هذه المفاسد.
وليس أمامنا إلا طريق واحد للخلاص من هذا المسار الخاسر، إذ إن التراجع وترك الحراك يفضي إلى مزيد من المفاسد والشرور؛ هذا الطريق هو التصعيد الحقيقيّ الذي تقتضيه المرحلة وتتطلبه وتسمح به، التصعيد الذي يحقق غايتين ضروريتين في هذا الصراع، الأولى: تحقيق الممانعة والحماية، الثانية: إحداث المراغمة والنكاية، وبغير هاتين لا يمكن أن تستمر الثورة ولا أن يمتد الحراك.
والتصعيد لا يعني بالضرورة صورة من الصور التي تستحضرها الأذهان المرتعدة من التجارب الحاضرة والماضية، وإنما يعني اتخاذ التدابير والآليات والإجراءات التي تسمح بها الظروف وتقتضيها المرحلة؛ لتَحقق أهداف معينة في استراتيجية الثورة. من هذه الأهداف حماية المتظاهرين وإشعارهم بالأمان لينزلوا للشارع نزولا مؤثرا، ومنها إقناع الجمهور بأنّ الثورة قادرة على المجيء والاستمرار وعلى إحداث التغيير الحقيقي، وإلباسها لباس الهيبة والوقار، ومنها كسر كبرياء النظام وإرغام أنفه وصلفه وإسقاط هيبته من قلوب الناس، ومنها إقناع القوى التي يمكنها أن تدعم الثورة ولكن يمنعها من ذلك عدم اطمئنانها لقدرات الثورة، ومنها تخفيض الأوراق التي يضغط من خلالها النظام مثل ورقة المعتقلين، الذين يعدون رهينة في أيديهم، وغير ذلك.
ولا شكّ أنّ هذا التصعيد له قواعد في قوة وأهمية الشروط والأركان، منها قاعدة السيطرة والضبط والتحكم؛ بما يمكن من القبض على أزمة الأمور، وعدم السماح لها بالانفلات إلى سناريوهات يوجهها العدو ويستثمرها ضد الثورة والثوار، أو يهدم بها كل قائم ويخرب بها كل عامر، ومنها قاعدة جذرية الصدور، بمعنى أن يكون صدور الثورة من حاضنة شعبية وقاعدة جماهرية؛ ليتحقق الاحتماء بالظهير والتدثر بالحاضنة، ومنها شرط الاسترشاد، وذلك بسؤال أهل العلم الشرعيّ فيما يتعلق بالشرعيات، وسؤال أهل الذكر في ميادين إدارة الصراع وتفعيل آليات الثورة وأدواتها المختلفة، ومنها شرط الغائية الذي يحمي الثورة من الخروج عن حدود الأخلاق أو تجاوز تحقيق الأهداف المشروعة.
وبديهي أن هذا كله لن يتحقق حتى تتحقق وحدة حقيقية، تتلاحم فيها قوى الثورة وتتوحد، ويلتف حولها الثوار، وحتى تبرز القاعدة الرمزية في شخص أو جبهة، وحتى تتميز الراية المعبرة عن هوية البلاد بما لا يكون معه إقصاء لأحد ولا تسلط من أحد، وحتى يكون لعلماء الأمة حضور في المشهد يليق بدورهم، وحتى يكون للثورة رؤية واضحة ومشروع واضح وخطاب واضح.
تلك كانت المسَلّمة الأولى، أما الثانية فهي التوبة الحقيقية من الأخطاء والذنوب التي وقع فيها العمل الإسلامي والعمل الثوري على السواء، أمّا أن نصرّ على هذه الأخطاء، وتقوم الشواهد المتتالية على أننا لم نستوعب الدرس؛ فهذا لا يمكن أن يحدث معه نصر إلا إذا تغيرت سنّة الله وتبدلت، “ولن تجد لسنّة الله تبديلا”.
لقد كانت خطيئتنا الكبرى هي الركون إلى الظالمين والاطمئنان للمارقين والثقة بأعداء الدين، فهل تخلينا عن هذا على مستوى القيادات ومن تحتهم؟ وكانت إحدى خطايانا أننا نرتجي الحلول عند أعداء أمتنا، فهل نحن على استعداد لأن ندير لهم ظهورنا؛ حتى – على الأقل – يعطونا وجوههم؟!
أما المسَلّمة الثالثة – ولا أحسبها الأخيرة ولكن نختم بها اختصارا – فهي ضرورة التثوير، وأهمية التحريك الشعبيّ، وهذا له شروط، يأتي على رأسها الاستجابة لمتطلبات هذا التثوير، والتي منها إعادة النظر في الأولويات، وفي مفردات الخطاب الثوري؛ فإن تثوير الشارع في ظل هذا الاستقطاب الحادّ العنيف يحتاج لإعادة النظر في كثير مما نعتبره من الثوابت.
وأخيرا، فإن المسألة بحاجة إلى التفكير المتواصل، والتدبير المستمر، والمشورة ومداومة السؤال لأهل الاختصاص وأصحاب الشأن.
والله وليّ التوفيق..