الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
لم يكن يهودُ بني النضير عدواً خارجيا للمسلمين في المدينة، إنّما كانوا مُكَوِّنا من مُكَونات مجتمع المدينة وقطاعا من القطاعات التي تُحْتَسَبُ من رعايا الدولة الإسلامية، وكذلك كان إخوانهم من المنافقين، ولم يكن حُيَيُّ بن أخطب زعيمُ بني النضير وعبدُ الله بن أبيّ رأسُ المنافقين إلا شخصين من الأشخاص التي تعيش في كنف الدولة وتنعم بحمايتها وعنايتها وحُكْمها كذلك؛ فما الذي جرى؟!
الذي جرى هو أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أقام دولة الإسلام في المدينة أصدر الوثيقة الدستوريّة العادلة: (صحيفة المدينة)، تلك الوثيقة السياسية العظيمة التي تنظم المجتمع المتعدد المذاهب تحت راية الدولة الإسلامية، والتي نَصَّتْ على حقوق كل فئة في هذا المجتمع ولاسيما طوائف اليهود، وكان مما جاء فيها: “بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي إلى المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم: أنهم أمة واحدة من دون الناس … وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين … وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين … لليهود دينهم وللمسلمين دينهم … وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم … وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره”.
لكن بني النضير أبوا إلا أن يأتي نقض العهد ونكث الميثاق على هذا الوجه الدمويّ الانقلابيّ؛ حيث خططوا لاغتيال رأس الدولة “رسول الله صلى الله عليه وسلم” وذلك عندما قصدهم ليطلب منهم المعونة في دفع دية رجلين قتلهما المسلمون على وجه الخطأ، فأظهروا الرضا والترحاب، ثمّ أمروا رجلا منهم أن يصعد البناء ليلقي على رسول الله حجرا، فأَعلمَ اللهُ رسوله بما يمكرون؛ فنهض للتَّوِّ وعاد إلى المدينة، “وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم”() وقد كان؛ “فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من الأمتعة والأموال إلا السلاح” وفيهم أنزل الله قوله: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (الحشر 2).
والآية تأمرنا كمسلمين بالاعتبار، أي الاتعاظ وأخذ العبرة بقياس ما يقع في المستقبل على ما وقع في الماضي: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)، بما يعني أنّ المؤمنين إذا تصدوا للانقلاب بما يملكون من أدوات ووسائل دون تقصير ولا تفريط فإنّ الله تعالى سيقذف الرعب في قلوب أعدائه، وهذا هو عين ما وقع لدى مواجهة الرئيس أردوغان وأجهزته وشعبه للانقلابيين في 15 تموز، وهو عين ما كنّا نتمناه في مصر عشية الانقلاب العسكريّ على الرئيس مرسي رحمه الله في 3 تموز، حيث لم يواجه الانقلاب هناك بمثل ما تمت به المواجهة هنا، وبمثل ما واجهه به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والسورة لا تبرح الحدث حتى تكشف لنا عن كثير من الأسرار المتعلقة بالانقلابات، أحد هذه الأسرار العلاقة بين الانقلابيين الأوغاد وبين المنافقين الأنذال، علاقة التآمر على الشر؛ إن تمت مواجهته بالقوة ظهر زيفه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)) (الحشر 11-12).
لكن الآية الأشد عجبا في هذا السياق هي هذه الآية: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) (الحشر 16)؛ وهذا مثل ضربه الله تعالى لكل إنسان أو فريق من الناس أضلهم الشيطان فلما وقعوا في الغواية تبرأ منهم في الدنيا كما وقع لقريش يوم بدر: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال 48)، وفي الآخرة كما أخبر سبحانه: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (إبراهيم 22).
والعجيب في الآية أنّه: “قد ذكر بعضهم هاهنا قصة لبعض عباد بني إسرائيل هي كالمثال لهذا المثل، لا أنها المرادة وحدها بالمثل، بل هي منه مع غيرها من الوقائع المشاكلة لها”، هذا العابد هو “برصيصا” الذي ترهب وتبتل وعَبَدَ اللهَ في صومعته ثمانين عاماً، لكنّه مع أول فتنة تعرض عليه يسقط سقوطاً مدوياً، إذْ إنّه عندما ائتمنه الأخوة التجار على أختهم استدرجه الشيطان فأوقعه معها في الفاحشة، ثم أوقعه في جريمة قتلها وولدها لإخفاء الجريمة، وهنا يستثمر الشيطان سقوطه ليجعل منه أنموذجا مزعجاً، فأوحى إليه أن لا نجاة لك إلا بي؛ فاسجد لي أُخَلِّصْك، فسجد له، فتبرأ منه وأخرج له لسانه.
وهنا يتعجب المرء من ورود الآية في هذا السياق، حاملة تلك المعاني الضخمة بما فيها مثل الراهب “برصيصا”؛ ولعل الإشارة هنا إلى أولئك المدخولين من شيوخ الفتنة الذين يستثمرون ثقة الناس بهم فيدفعوهم إلى التخريب والإرهاب، وإلى ممالأة الظالمين المنقلبين على أهل الشرعية وأهل العدل وأصحاب الحق، إنّ النماذج المتكررة من هؤلاء (الشيوخ!) وصمة عار في جبين الأمة، وإنّه لمن الخير لهذا الجيل والأجيال القادمة ألا تغتر بهم، والله وليّ التوفيق.