الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
لم يتردد ولم يتلعثم، وإنّما جرى قلمه على الفور بذلك التوقيع العبقريّ الباهر، الذي تناولته وتداولته وسائل التواصل الاجتماعيّ؛ معلناً فتح آيا صوفيا للصلاة، ومؤذناً بافتتاح مرحلة جديدة على طريق التحول الحضاريّ الكبير، مرحلة تكون فيها هوية البلاد المستمدة من حضارتها العريقة ظاهرة وسافرة، وتكون فيها مسيرة النهضة أكثر استقلالا وتحررا وانحيازاً لثقافة الأمة وتراثها المميز الفريد؛ لذلك كان للتكبير ساعتها مذاق مختلف، إنّه تكبير الانتصار لا الانتظار!
لكن السؤال الذي يجب أن يُطرح الآن: وماذا بعد؟ وعذراً؛ قد يدفعك الترقب والحسّ السياسيّ المسيطر على الأجواء لفهم سؤالي على وجه لم يتطرق إليه مرادي؛ فالذي أقصده بعيد كل البعد عن الحسابات السياسية وعن قراءة العواقب داخليا وخارجياً، الذي أقصده يدعونا للمضيّ قدما لا للالتفات والمبالغة في الحسابات، ماذا بعد؟ لقد جاء القرار ليبعث في الأمة الهمّة، وليحيي فيها روح الأمل والتفاؤل؛ فما الذي يجب على الشعوب المسلمة والكيانات الإسلامية والمكونات العاملة للإسلام؟
لا يخفى على شعوب الأمة كافّة أنّ الذي اتخذ هذا القرار لا يتوجه به للشعب التركي وحسب، وإنّما يتوجه به إلى الشعوب الإسلامية في الأرض كلها، وهو يعلم أنّ ما بينها وبينه يتجاوز الحب والمودة إلى الثقة الولاء والنصرة؛ لذلك يأتي هذا الحدث كصوت الحادي الذي يستحث الرَّكْب للمسير، فلا مناص من الانطلاق ولا مفر من التحليق، ولا يسع أحداً منّا أن يستسلم لليأس أو يعطي أذنه لمن يمارسون الإحباط والتثبيط، إننا الآن على موعد مع وثبة حضارية كبيرة تستدعي التشمير عن ساق الجد.
إنّ ما يجري على الكوكب الأرضيّ الآن هو في حقيقته صراع ثقافات وصدام حضارات وتنافس على الهيمنة والنفوذ، بل والوجود، وإنّ ما يقع للأمّة الإسلامية الآن من ويلات يأتي في هذا السياق؛ لذلك هو عنيفٌ وقاسي لا رحمة فيه ولا هوادة، ولو كان هذا الصراع متمحضاً للأطماع والمصالح لكان أهدأ وأعقل؛ فالمصالح ذات موازين وقواعد، وذات وكوابح حتى عند أرباب الأطماع، لكنه كما يبدو للجميع غاية في النزق والطيش والعجلة والاندفاع؛ فكأنّ العالم كله يتدافع في طريق الانتحار.
وفي ظل هذا الصراع الجنونيّ لا يمكن للأمة الإسلامية أن يكون لها على ظهر هذا الكوكب مستقرّ إلا بأن تتمحور حول دولة ذات سيادة ونفوذ وزعامة تحظى بقدر كبير من الاستقلال السياسيّ، وإلا فسوف تظل أبداً تطحنها القوى المتصارعة وتزيدها تشرذما وتمزقا وضياعا؛ لذلك عندما طرح “صمويل هنتنجتون” نظريته المدعومة بالإحصائيات عن صدام الحضارات تعرض في سياق حديثه عن الأمم المختلفة للحديث عن الأمّة الإسلامية، فقال: “إنّ دولة مركز إسلامية يجب أن يكون لديها موارد اقتصادية وقوة عسكرية وكفاءة تنظيمية وهوية إسلامية، والتزام بأن تكون قيادة سياسية ودينية للأمّة”، وبعد جولة في بعض تفاصيل الشأن العربيّ عاد ليقول بلغة أكثر وضوحاً: “ماذا لو أعادت تركيا تعريف نفسها عند نقطة ما ؟ يمكن أن تكون تركيا مستعدة للتخلي عن دورها المحبط والمهين كمتسول يستجدي عضوية نادي الغرب، واستئناف دورها التاريخيّ الأكثر تأثيراً ورقياً”.
وها هي تركيا تعيد تعريف نفسها عند نقطة تحول كبيرة في تاريخها المعاصر، بعد مرحلة من الجهاد السياسيّ أنتجت دولة ذات سيادة واستقلال، وذات قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية فاجأت الجميع أو تفاجأ بها الجميع، لا أقول إنّ فتح آيا صوفيا يُعَدُّ فصلاً من فصول صدام الحضارات، وإنّما أقول إنّه يعزّز الهوية التي تُعَدُّ أحد مرتكزات النجاح في صدام الحضارات الواقع بالفعل، يعزّز الهوية الحضارية والثقافية والتاريخية لهذا البلد تركيا بالأصالة تأسيساً، وللأمّة الإسلامية بالتبعية تأكيدا وتوطيداً.
ومن هنا ندرك أنّ تحرك تركيا نحو إنشاء تحالفات مع قوى إسلامية مستقرة وناهضة مثل ماليزيا، ومد يد العون والتعاون مع كيانات شرعية يناط بها مصالح مشتركة مشروعة مثل حكومة الوفاق، يأتي في هذا السياق، كما يأتي أيضا في هذا السياق تلك الأعمال الفنية التاريخية العملاقة: “العاصمة” “قيامة أرطغرل” “قيامة عثمان” وغيرها مما له بالغ الأثر في بث الروح الإسلامية في الجيل، وربطه بأمجاد أمته، وتوحيد وجهته.
الآن ندرك واجبنا كشعوب إسلامية، يجب أن نجدد الأمل ونستأنف العمل، ونتطلع إلى مستقبل كله خير ورشد وعدل وتمكين، مستقبل تكون فيه الراية واحدة والوجهة واحدة، ويكون الولاء عابرا للحدود التي رسمتها سايكس بيكو، وكذلك لحدود العرقيات والإثنيات الضيقة الخانقة، نحن اليوم نتنشق عبق الماضي عندما كانت أمتنا قوية فتية بوحدتها وتماسكها وقوة إيمانها ومضاء عزمها.
وإذا كانت الحكومات العربية المستبدة قد فرقتنا وبددت شملنا تحت رايات لدويلات لم تكن من قبل إلا أمصارا خاضعة لأمّة واحدة وراية واحدة؛ فإنّنا قادرون كشعوب عربية على مدّ جسور التواصل مع ماضينا الإسلاميّ المجيد، وقادرون كذلك على تمتين العلاقات والعبور بها فوق الحدود المصطنعة، وقادرون على إيقاظ الفجر وإبلاج الصبح ودفع قرص الشمس ليشرق في حياتنا وفوق روابينا، وقد كان لنا في الموجة الأولى للثورة عبرة؛ حيث توحدت الشعوب ضد الطغاة، وعمّا قريب ستأتي الموجة الثانية؛ هذه سنة الحياة، وكذلك كان لنا في الانقلابات على هذه الثورات درس آخر، وقد وعيناه، وعمّا قريب سنردّ الصاع صاعين بإذن الله.
فهلموا نخرج من الجدل إلى العمل، ومن الفرقة والتراشق إلى الوحدة والتوافق، ومن ضيق التعلق بالشهوات إلى سعة التحرر من الأنا والذات، ولن يضيع الله جهادنا وبذلنا إذا نحن أحسنّا النية والعمل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].