الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
أليس من المفترض – في بَدَاهة العقل المعاصر – أن يُبْدِيَ اليساريون والليبراليون والعلمانيون شيئاً ولو قليلاً من الحرص على القيم الديمقراطية والإنسانية؟ وأيضاً وفي المقابل: أليس من المنتظر – بموجب مسلمات الشرع والدين – أن يحرص زعيم لجماعة دينية يقدم نفسه دوماً على أنّه وليٌ من أولياء الله تعالى؛ أن يحرص على البراءة من كل نظام يمارس العنف ضد شعبه وينتهج الانقلابات سبيلا للوصول للسلطة؟! فما بالنا نرى الفريقين من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار يتسابقان في التقارب مع الطغاة المستبدين الذين عاثوا في الأرض فسادا؛ فقتلوا وشردوا وسجنوا وعذبوا وارتكبوا كل ما حرمه الإسلام وحرمته مواثيق حقوق الإنسان على السواء؟! أَلِأَجْلِ معارضة أردوغان فقط وإحراجه ومخالفة سياساته يفعلون هذا؟! إنهم ليقدمون بذلك أكبر دليل وأوثق برهان على انحرافهم عن طريق الحق.
ففي الوقت الذي احتضنت اسطنبول تحت رعاية حزب الشعب الجمهوري “العلماني اليساري!” مؤتمراً عن سوريا، لم يُثْمِر قَطُّ نفعا على المستوى الإنساني الأخلاقي ولا على المستوى السياسي المصلحيّ، اللهم إلا المشاققة غير المبررة لسياسة العدالة والتنمية؛ في ذات التوقيت وفي نفس السياق وجدنا الإعلاميّ المصريّ “نشأت الديهيّ” يهبط إلى مقر فتح الله غولن “الإسلامي اليميني!” ويجري معه “حواراً صحفيا!”، أهم ما يلفت النظر في الحوار هو التملق الشديد لنظام السيسيّ؛ لا لشيء إلا لإفراغ شيء من الغيظ والحنق على أردوغان! وهكذا اجتمع اليمين الذاهب عن الأضواء مع اليسار الآيب إلى الأضواء على غاية واحدة هي تعويق سياسة حزب حاكم ووضع العقبات في طريقه والعقابيل من بين يديه ومن خلفه، ولو كان ذلك على حساب كل القيم الإنسانية وجميع المبادئ الأخلاقية.
إنَّ قيم الديمقراطية ومبادئ الإنسانية التي لا قيام ولا بقاء لحزب الشعب الجمهوري إلا بدغدغة العقول والمشاعر بترديدها هي التي توجب على كل سياسيّ يحترم نفسه أن يقف موقف المفاصلة تجاه نظام قتل وهجر الملايين من أبناء شعبه؛ لا لشيء إلا ليبقى في الحكم، وتجاه نظام آخر انقلابيّ أسر الرئيس المنتخب وقتل انصاره وشردهم ومنعهم أبسط حقوقهم في العيش والأمن والاستقرار، وإنّ هذه القيم والمبادئ التي أجمعت عليها الإنسانية هي التي كشفت مدى نفاق النظم الغربية والشرقية على السواء، في الوقت الذي كشفت فيه عن أصالة السياسة التركية ومتانتها؛ فإلى أين تذهبُ برجال حزب الشعب الجمهوري ضَغائِنُهُم على أردوغان وحزبه؟!
وإنّ قيم الإسلام ومبادئ الشريعة الإسلامية، التي لا قيمة ولا وزن لأحد يدعي التدين والخدمة إلا باللهج بذكرها ليلا ونهارا، هي التي توجب على كل مسلم – حاكما كان أو محكوماً – أن ينفر أشد النفور من الذين يبحرون بقواربهم في دماء الشعوب ويغرزون قوائم عروشهم في أشلائها، ومن الذين يمارسون الكذب والنفاق ويأتون إلى الحكم على ظهور دبابات مسربلة برداء الديمقراطية، ثم من موقعهم يسرقون أقوات الناس ويمتصون مقررات الشعوب؛ فبأي مبرر يقف فتح الله جولان هذا الموقف المشين المهين، وهل يكفي الحسد والحقد مبررا للوقوف في مواطن الفضيحة والعار؟!
ألم يقرأ ويُقرئ أتباعه والمفتونين به قول الله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء 93)، وقوله تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) (المائدة 32)، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رجل مسلم) (رواه أصحاب السنن)؟! أم إنّها الأهواء تصنع بالرجال ما تشاء!!
وإنّها واللهِ لَسَوأْةٌ ما على الأرض رداءٌ يكفي لمواراتها ولا حتى غُثاءٌ يَفِي بالتزفيف عليها: أن تُختَصَرَ كلُّ مشكلات المنطقة وتُخْتَزَلَ جميعُ جرائمها وآثامها وتوضع في لفافة لتلقى في “عُبِّ” رجل لا علاقة له بها ولا صلة؛ فَلَمْ يواجه بشارُ ثورةَ شعبِهِ بالسلاح، ولا ألقى البراميل المتفجرة فوق المدن والقرى ولا سحل الآلاف في السجون وشرد الملايين في أصقاع الأرض!! ولم يقم السيسي بانقلاب دمويّ استلب به الحكم استلابا، ولا قتل في سبيل ذلك ولا عذب ولا سجن!! ولم يجرم حفتر في حق الليبييين ولا ابن زايد في حق اليمنيين!! فقط هو أروغان الذي يحمل فوق ظهره كل هذه الأوزار؛ لا لشيء إلا لأنّه آوى المشردين ورفع صوته في المجتمع الدولي مطالبا بحقوق المظلمين! أليست هذه سوأة لا تتسع الأرض لاستيعاب النتن المنبعث منها!!
إنّ حزبا في حجم الشعب الجمهوري يتبعه الملايين من الشعب التركي يجب عليه أن يحدد هويته وأن يكون خطابه متزناً، إذ لا يستقيم أن ينسب نفسه للديموقراطية وهو يتخذ موقفا معاديا للحزب الحاكم لكون الأخير يقف موقفا عدائيا واضحا تجاه زعماء يقوضون التجارب الديموقراطية في بلادهم، وإذا كان يبرر موقفه هذا بمصلحة الشعب التركي والدولة التركية فليبتعد بخطابه عن الشعب السوريّ وعن قضيته؛ فما عاد سائغاً في عقول الناس هذا التناقض، وليؤهل نفسه للتعامل مع “متناقضة” صارخة إذا بلغ الحكم – لا قدر الله – إذ كيف سيحافظ وقتها على المسار الديموقراطي وهو يحمل في عقيدته الولاء لأنظمة مستبدة وظالمة وغاشمة؟!! وكيف سَيَسْلَمُ شعبه من قهره وهو يريد أن يصرف الخلق عما يتعرض له الضعفاء من قهر وعسف؟!
وإنّ رجلا بوزن زعيم لجماعة يقتدي به عشرات الآلاف أو ربما مئات الآلاف، ينبغي له أن يكون خطابه مقنعا ومتسقاً مع ما ينتمي إليه، فما عادت عقول الناس تتحمل التناقض لاسيما إذا كان فجاً، إذ كيف يقنع الناس بأنه مظلوم وهو يُعْرِضُ عن المظلوم ويُقْبل على الظالم؟! كيف لنا أن نصدقه إذا دعا إلى مقاومة الظلم وهو يقف إلى جانب الظالم؟! أَمَا بلغه أن في الصمت مندوحة عن سكب ماء الحياء؟!
إنّ الأمة اليوم تسمع وترى وتعقل، وإنّها لتميز بين الصدق والكذب، وإذا كانت طَنْطَنَةُ الخطاب ودَنْدَنَةُ الكلام تَسرق الأسماع وتخطف الأبصار فإنّ هذا لا يدوم، وعمّا قريب سيدرك الناس الحقائق، والله من وراء كل شيء محيط.