الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد ..
ليس بإمكان الأمّة الإسلامية أن تخوض الصراع الذي فرض عليها إلا باجتماع القدوة والقوة، هذا هو المقوم الأول من مقومات إدارة الصراع، والقاعدة الأولى من قواعده، ووراء هذه القاعدة جملة من القواعد التي تدور في فلكها وتنضبط ببوصلتها، وحيث إنَّنا نستلهم هذه القواعد من سياق قصة داوود وسليمان عليهما السلام؛ فلا مناص من استدعاء المشهد الذي وقع فيه الصراع آنذاك.
فها هناك حضارتان عظيمتان لدولتين عظيمتين، الأولى: دولة سبأ: ﴿إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ (النمل 23)، والثانية: دولة داود وسليمان عليهما السلام: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ (النمل 16)، وعبارة (أوتينا/أوتيت من كل شيء) التي تكررت في الآيتين تؤكد أنَّهما حضارتان قويتان تتنافسان في حيازة أسباب القوة والازدهار، وقد كان بين هاتين الأمتين صراع ظهر من سياق القصص القرآنيّ أنَّه كان صراعاً وجودياً من الأصل، انتهى باستسلام حضارة سبأ لحضارة سليمان عليه السلام.
فأما حضارة سبأ فقد كانت حضارة مادية جاهلية: ﴿وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾ (النمل 24)، وقد قامت لها دولة على أسس، أولها: تعانق السلطة والثروة: (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾؛ فهذا العرش لا تقتصر دلالته على السلطة فقط، وإنما – لكونه عظيماً إلى هذا الحدّ – فهو يرمز إلى اجتماع السلطة والثروة وتكدسهما في يد الحاكم ومن حوله من الملأ، والأساس الثاني: الديمقراطية الشكلية المزيفة، فها هي بلقيس تقرر الشكل المبهر للديمقراطية: ﴿مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ (النمل 32)، وها هم (الملأ!) يقررون المضمون المتعثر للديمقراطية: ﴿نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾ (النمل 33)، فهذا ليس جواب مستشارين حقيقيين، وإنّما هو جواب (عضلات) ينفذون ما تأمر به وتقرره، وكم من بلد تزعم أنّها تعمل بالديمقراطية وتدون ذلك في دستورها وليس لها من روح الديمقراطية نصيب، وإن كانت الديمقراطية حتى في أعلى نماذجها عليها إشكالات ضخمة في النظرية والتطبيق، ليس هذا موضع سردها.
لكنني لا أتفق مع كثير من الكتاب الإسلاميين الذين يضربون المثل ببلقيس في الديمقراطية الحقيقية، فلا سياق الآية يدل على هذا، ولا السياق التاريخيَ العام يدل عليه؛ فمن الثابت تاريخيا أنّ تجربة الديمقراطية إنما طبقت بصورتها المباشرة في أثينا قبل أن تهزم أمام اسبرطة في المعركة المشهورة، وأمّا الفكر اليوناني الذي جاء تالياً فلم ينزل منه شيء للحيز العمليّ إلا بصورة جزئية في بعض فقرات التاريخ الروماني، ولم ينتشر نظريا بصورة موسعة إلا في كتابات شيشرون التي آلت إلى جملة من المبادئ العامّة تخللت على استحياء شروح القانون الرومانيّ، حتى جاءت النهضة الأوربية المعاصرة فاستخرجته ونفضت عنه التراب، واعتمدته نظريا وعمليا بصور مختلفة لم تسلم جميعها من الوقوع في قبضة طغاة المال، فلم نجد من يقول إنّ العالم القديم قد تأثر عمليا بفكر أرسطو وغيره، و”الواقع أننا لو حكمنا على تلك الفلسفة على أساس الدور الذي لعبته في القرنين التاليين لوفاة أرسطو لما أمكن إلا أن نعدها فشلاً ذريعاّ”.(1)
وأما دولة داود وسليمان فقد تأسست من أول يوم على دعائم راسية وأسس راسخة: الأول: الاتصال بالله تعالى، قال تعالى: ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ﴾ (ص 17-20)، فعلى الذكر والتسبيح والتأويب والتثويب شدَّ الله تعالى ملك داود وسليمان عليهما السلام.
الأساس الثاني: العلم والحكمة: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾ (النمل 15)، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ﴾ (النمل 16)، ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ (ص 20)، ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ (الأنبياء 79).
الأساس الثالث: العمل الدائب المتقن: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ (سبأ 13)، ﴿يعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾ (سبأ 13).
الأساس الرابع: التقنية الدقيقة: ﴿أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ﴾ (سبأ 11)، أي: اصنع دروعا واسعات تغطي البدن وتفيض عنه، ودقق في نسج حلقاتها وفي المسامير التي تمسك الحلقات بعضها ببعض، حتى تكون متناسقة متناغمة.(2)
الأساس الخامس: العدل، ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (ص 26)، ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ (الأنبياء 78-79).
إنّ الدولة التي تنسب نفسها للحق وتخوض الصراع الكبير ضد عالم قام في نظامه المهيمن على الباطل والنفاق يجب أن تتوافر لديها هذه الأسس العملاقة، فليست بالإيمان وحده قادرة أو ظافرة حتى تأخذ بأسباب العلم والعمل والتقنية، وليست بالقوة وحدها بالغة ما تريد من الظفر والتمكين حتى تكون عادلة وحتى تنشر العدل في كل الميادين، وإذا هي بذلت وسعها في استجماع هذه الأسس وغيرها مما لابد منه لجاءها المدد من الله تعالى ولو بأسباب غير مألوفة ولنصرها الله عزَّ وجلَّ بجند من عنده، مثلما أَمَدَّ سليمان عليه السلام بجنود من غير الآدميين: ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ (النمل 17)، ومثلما أيد الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم وصحبه بالملائكة: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ (الأنفال 9).
ولا ريب أنّ استيفاء هذه الأسس في الدولة والأمة أحد قواعد إدارة الصراع وأحد مقومات النجاح والفلاح في نتائجه، لذلك في نهاية قصة الصراع بين بلقيس وسليمان انتهى الصدام بسيادة الإسلام: ﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (النمل 44).
ولا تزال هناك مقومات عديدة وقواعد وأسس هامّة تحتاج لبسط الحديث والاسترسال مع الدروس المستفادة من قصة هذين النبيين العظيمين. (يتبع)
(1) تطور الفكر السياسي لجورج سباين ترجمة جلال العروسي ط الهيئة المصرية العامة للكتاب 2010 م ج1 ص 189.
(2) راجع: تفسير البيضاوي 4/243 – تفسير البغوي 6/388 – تفسير ابن كثير 6/439