الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد ..
على سبيل الإجمال: تتلخص أسس وقواعد إدارة الصراع في كتاب الله تعالى في: إدراك الذات أولاً، وما يتبع إدراك الذات من وضوح الرؤية، ثم في معرفة العدو، والوقوف على طبيعته ودرجة عداوته وسقف الصراع القائم معه، ثم في فهم طبيعة هذا الصراع: أهو صراع أيديولوجيّ أم صراع مصالح أم ماذا؟ ثم في ربط مراحل هذا الصراع بالسنن الإلهية التي يحكم الله بها العالم ربطاً صحيحا، ثم في تحديد الموقف من هذا العدو بقدر كبير من الوضوح والشفافية وعدم التلبيس، وأخيرا في السعي لاستكمال أدوات وآليات التحكم في هذا الصراع، كل هذه القواعد وغيرها موجودة بوفرة في كتاب الله عزّ وجل، والأدلة عليها في هذا الكتاب كثيرة ومثيرة.
ففي اتجاه إدراك الذات وما يتبعه من وضوح الرؤية تأتي آيات القرآن الكريم واضحة وحاسمة، فهذه الأمّة ليست كأيّ أمّة من الأمم، وإنما هي أمّة صاحبة رسالة عالمية: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء 107) (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (الفرقان 1)، ولأجل أنّها أمّة صاحبة رسالة عالمية سامية جاءت بمنهج وسط عدل؛ تقاس به كل المناهج وتوزن به كل الأوضاع: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة 143)؛ وهذا يستوجب أن تكون على هيئة من الخيرية تؤهلها لدورها الكبير: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران 110)؛ ويترتب على ذلك كله – وعلى حتمية الواقع المعاند الكَنُود – أن يكون الجهاد سبيلها في القيام بوظيفتها: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) (البقرة 193) وهذا وغيره يستلزم قيام دولة ذات نظام خاص يسمو ويتفوق على كل الأنظمة، ويُمَكِّن الأمّة من حماية منهج الله وبسط هيمنته على أرض الله؛ (حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال 39).
وفي اتجاه معرفة العدو فصَّل القرآن في بيان طبيعة العدو، فلم يترك زاوية شاغرة، وإذا كان جميع الأعداء في كل مكان وزمان ينتمون غالباً إلى هذه الفئات الثلاثة: المشركين وأهل الكتاب والمنافقين؛ فإنَّ القرآن قد أسهب في بيان طبيعة كل طيف من هذه الأطياف بصورة جَليَّة، والقرآن كله حافل بهذا البيان؛ حتى لا تكاد سورة تخلو منه، ولا سيما سور التوبة والمائدة والنساء والبقرة وآل عمران والمنافقون والبينة غيرها من السور، فلا بد من الرجوع إلى القرآن للاسترشاد بهذه التوجيهات والتوضيحات.
وفي اتجاه استكمال أدوات الصراع تأتي الآيات في مواضع متفرقة لتشير إلى أهم هذه الأدوات، فمنها الإعداد قدر الاستطاعة: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) (الأنفال 60) ومنها اليقظة والحذر والاحتراز اللازم لمواجهة الأخطار: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا) (النساء 71)، (وَدَّ الَّذينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) (النساء 102) ومنها تحصين المجتمع من الحرب النفسية المعنوية: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) (النساء 83)، وغير ذلك مما لا غنى عنه من أدوات الصراع.
ويأتي القصص القرآني ليؤكد على هذه القواعد، وقد يزيد على وجه التفريع والاستطراد، وقد ينقص على وجه الإيجاز والاقتصاد، وقد تعرضنا في المقالين السابقين لبعض القواعد المستفادة من قصة النبيين الكريمين داود وسليمان عليهما السلام، فكان منها ما جاء على وجه الإيجاز والاقتصاد، مثل الجمع بين القدوة والقوة، وكان منها ما جاء على وجه التفريع والاستطراد مثل ضرورة قيام دولة الحق على أسس أهمها: الاتصال بالله، وإقامة العدل، والعلم والعمل، والأخذ بأسباب التقنية، وفي هذا المقال نستكمل المسيرة بالحديث عن بعض القواعد التي روعيت في حضارة داود وسليمان عليهما السلام.
لقد كان أدراك الذات ووضوح الرؤية في أعلى مراتبه؛ لذلك خيَّب سليمان ظنَّ بلقيس التي صورت مشروعه على هذا النحو المشين: (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)) (النمل 34-35) فجاء ردُّه حاسماً مُعَلِّماً مُلْهِماً: (فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)) (36-37)؛ فسليمان لم يأت محتلاً جابياً إنّما جاء مجاهداً هادياً، ولم ينس – وهو الذي ورث أباه داود – هذه الوظيفة الرائقية الرائعة: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) (ص 26)، وهكذا كانت الرؤية واضحة للمسلمين الاوائل، فها هو ربعيّ بن عامر يصدح بها في وجه رستم قائد الفرس كأنها بيان من الملأ الأعلى: “الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”.
ولم يكن إدراك العدو ومعرفته والوقوف على حقيقته بأقل أهمية من الإعداد له ومواجهته، فسليمان عليه السلام يمتلك جهاز استخبارات عالي الجودة، ولا يكتف بمجرد امتلاكه بل يتابعه ويشدد الحساب عليه إذا غاب أو غفل: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)) (النمل 21-22)، وعندما جاءه من سبأ بنبأ يقين أجرى الاختبار ليتأكد من صحة الخبر: (قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)) (النمل 27-28)، وهكذا يكون الرشد. (يتبع).