كيف يمكن تفسير القيام بارتكاب جريمة بشعة كهذه؟ ولماذا هذه التصريحات المتناقضة من المسئولين السعوديين؟ وكيف يأتي فريق من 15 عشر عنصراً قُبيل اغتيال جمال خاشقجي ويغادرون بعد ارتكاب الجريمة مباشرة ثم يقال إنَّها ليست مدبرة ولا مخطط لها سلفاً مع سبق الإصرار؟ ولماذا – إن كانوا صادقين – لم يسمحوا لفريق التحقيق التركي بالدخول إلا بعد مدة طويلة؟ ومن هو المتعاون الداخلي لماذا لم يفصحوا عن اسمه؟ ومن الذي وراء هؤلاء؟ لا يمكن التصديق بأنَّها جريمة عفوية وقعت بدون تدبير ولا أمر من مسئول؟ إنَّها في التكييف العادل جريمة سياسية؛ فمن المسئول الآمر؟ لا بد من محاسبة المتورطين من أسفل السلم إلى أعلاه، نريد محاكمة المتهمين باسطنبول فهي مسرح الجريمة، ولا بد من إعادة النظر في اتفاقية فيينا لكونها تعرقل العدالة في أمثال هذه القضايا، وإنَّ لدينا من الأدلة الكثير ولا يزال التحقيق جارياً، ومن ظن أنّ القضية أغلقت فقد أخطأ، وعلى المجتمع الدوليّ أن يقوم بواجبه تجاه قضية إنسانية كهذه، ولا يصح إلقاء العبء على تركيا وحدها.
هذه هي الجمل الرئيسية التي اشتمل عليها خطاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حيال قضية مقتل جمال خاشقجي الصحفي السعودي المعارض، أكثرها ورد صريحاً، وبعضها تضمنه السياق العام للخطبة، فليقل لنا كل من نظن فيه النباهة والعقل – وإنَّهم لكذلك – ما الذي يمكن أن يتحمله خطاب لرئيس دولة في زماننا هذا أكثر مما ورد في هذه الخطاب، ستقول لي: وما الجديد الذي أضافه؟ فكلنا يعلم ذلك علم اليقين، فأقول لك: وكل الجيران والأصدقاء والمدونون والمغردون يعلمون علم اليقين أن ما نطق به القاضي في قضية عدل – صارت لا شتهارها قضية رأي عام – لم يضف لعلمهم جديداً، وإنما الجديد أنَّه جاء بلسان القاضي على منصة القضاء، فهل أدركت الفرق؟ إنَّ ورود هذا على لسان مسئول كبير بمستوى رئيس دولة ارتُكِبَ الحادث على أرضها يعني تحويل كل المعلومات والبيانات والتسريبات إلى رواية سياسية رسمية؛ وهذا يساويه في عرف القضاء تحويل الادعاء إلى حكم، غير أنّ الحكم القضائيّ له آليات تنفيذ عاجلة ومباشرة، أمَّا الحكم السياسيّ فأمر آخر، فرئيس الدولة في خطابه ينطق بحكم لا تحويه القوالب القانونية، وينزل حكمه حيز التنفيذ بشروط سياسية يتحكم فيها موازين قوى ليست كلها في يد الناطق بالحكم، ولا يصح أن يتفوه في خطابه بأدلة جنائية يمكن أن يَطْعَن عليها – بصدق أو بكذب – محام هنا أو صحفيّ هناك، هذا لا يليق بمقام رئيس، فهذا دور الادعاء العام، ودور الصحافة، ودور مؤسسات أخرى لا يضيرها أن تناقش أدلتها أو يطعن في تكييفها للقضية، مع أنّ ما تضمنه الخطاب يفتح الطريق لكل هذه المؤسسات للتسابق في الوصول للنتيجة المرجوة.
ثم لم يقف الأمر عند هذا الحدّ حتى تجاوزه إلى التكذيب أو – على الأقل التشكيك – في الرواية السعودية، مع الدعوة إلى إعادة التحقيق في اسطنبول، وأن يشمل التحقيق المسئولين من أسفل السلم إلى أعلاه، وأن يتعاون المجتمع الدوليّ في البحث عن الحقيقة ومعاقبة الجاني، فكيف يمكن أن يقال إنّ الخطاب جاء مخيباً لآمال الجماهير؟ وفيم كانت تطمح الجماهير؟ إن رفع سقف الطموحات قبل الخطاب بأيام هو الذي أنتج هذه الحالة من الإحباط، وربما ينتج في المقابل حالة من الارتياح المؤقت في الوسط العام السعودي، ولكن كل هذا – في تصوري – إلى حين.
وتعالوا ننظر إلى المسألة بمقياس المبادئ والمصالح، ولنطرح جانباً هذه الحقائق الواقعية: أن تركيا ليست دولة عظمى، وأنَّها لا تملك من أدوات الضغط والتأثير سوى المهارة السياسية والقوة الشخصية للرئيس أردوغان، وأنَّ أردوغان رئيس لدولة تمر بأزمات حادَّة وتتعرض لمؤامرات مستمرة تستهدف تدميرها أو إخضاعها، وأنَّ الشعب التركيّ الذي له الكلمة الأولى والأخيرة في محاسبة الرئيس وحزبه عَيْنُهُ قبل كل شيء على سعر الليرة أمام الدولار، وعلى خطة الدولة في معالجة التضخم الناجم عن ارتفاع الدولار، وأنَّ أقطاب حزبه ودولته من الرأسماليين عَيْنُهم على الاستثمار، وأنَّ السياسيين المعارضين والمنافسين له بقوة لا تعنيهم من قريب أو بعيد أحلامنا كشعوب عربية مقهورة، لنطرح كل هذا جانباً رغم أهميته؛ لننزل مع أصدقائنا إلى أرض الواقع المشترك، ولنعرض المسألة على معادلة المبادئ والمصالح.
فما هي المبادئ التي يمكن أن يكون أردوغان قد أطاح بها أو – حتى – أهملها؟ هل أدلى بما يمكن أن يساعد على تبرئة الجاني الأكبر؟ أم كتم ما يمكن أن يسهم في إدانته؟ أم وقَّعَ صفقة مع النظام السعوديّ تقاضى بمقتضاها رشوة له أو لدولته في مقابل التجاوز عن القضية برمتها؟ أم أهمل في إجراء التحقيقات اللازمة للوصول إلى الحقيقة؟ ألم تنشر النيويورك تايمز أنَّ الرئيس أردوغان رفض عرضا بالتنازل وغض الطرف عن قضية خاشقجي؛ في مقابل فك الحصار عن قطر وضخّ حزمة من المساعدات المالية لتركيا؟ أليس من العدل أن يقال: إنَّ هناك عشرات من الدول – حتى غير العربية – لو وقعت على أرضها هذه الجريمة لتم التعتيم عليها وطمس معالمها؟ ألم يفتضح الجاني على يد الأتراك ومسئوليهم؟ فأين المبادئ التي يمكن أن تكون قد أهدرت أو تراجعت؟
أُدْرِكُ تمام الإدراك مشاعر المخلصين الأحرار التَّوَّاقين للخير المحض والحق الصِّرْفِ والعدل المطلق، والعاشقين لحلم عودة صلاح الدين، لكن أين هذا في عالمنا الذي نعيش فيه الآن، أليس من المؤكد لدى المراقبين أنّ أمريكا ومن يسير في فلكها تودّ أن تدفع بتركيا لتتحمل وحدها تبعة تصريحات “عنترية” أو حتى “هلالية” ليستقيم لها إسقاط تركيا والسعودية معاً؟ ولاسيما أنَّ الغباء السياسي والطيش الدبلوماسي هو المسيطر الآن على الحالة السعودية، أليس من العقل والحكمة أن يمدّ أردوغان أمد القضية وأن يستنطق معه العالم الساكت تربصاً ومخاتلةً؛ لتدويل القضية وإحراج المتربصين المخاتلين وإشراك الجميع في تبعة محاسبة الجنون السياسي لدى بن سلمان ومعاونيه؟ وإذا كانت كل هذه الاعتبارات تجعلنا نتريث فنحقق من المقصود جُلَّه لا كلَّه؛ فما الضير في هذا؟ أليس من المقرر شرعاً وعقلاً أنَّ الله لا يكلف نفساً إلا وسعها وإلا ما آتاها إلى أن يجعل الله بعد عسر يسرا.
أمَّا المصالح فليست كلها مذمومة، وليست كلها سيئة السمعة، حتى نجعلها دائماً مضادة للمبادئ؛ فهناك مصالح مشروعة، سواء كانت من قبيل المصالح التي شهد لها الشرع مباشرة بالاعتبار، أو من قبيل المصالح التي لم يشهد لها الشرع بالاعتبار أو بالإلغاء ولكن شهد لجنسها بالاعتبار، وهي ما يسمى بالمصالح المرسلة، وهي التي تكثر في ميدان السياسة، ومثل هذه المصالح تقديرية، والمجتهد في تحصيلها مأجور على كل حال ما لم يتبع الهوى، فإن أخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران، وهناك في المقابل مصالح غير مشروعة شهد لها الشرع بالإلغاء، بالنص أو بمصادمتها للمبادئ العامَّة والأحكام الراسية والنصوص الصريحة؛ فإذا كانت سياسة الحاكم تدور حول تحقيق المصلحة العامة ودفع المفاسد، دون انتهاك للمبادئ ولا خروج على الشريعة لدى القادر على تنفيذها؛ فما الضير في هذا؟
لكن المهم هنا هو القدرة على الموازنة بين المصالح المشروعة إذا تزاحمت لتقديم الراجح منها على المرجوح، وهذه قاعدة شرعية وفقهية وعقلية وسياسية كذلك، وهنا يمكن أن يختلف الدعاة والعلماء والمصلحون مع النظام التركيّ في تقدير المصلحة في بعض القرارات؛ فيما يتعلق بالمسائل التي تجري الموازنة فيها بين مراعاة الحسّ الشعبي الجماهيري المستمد من الثقافة الإسلامية للأمة وبين مراعاة المصالح السياسية والمنافع الاقتصادية المشروعة، فالغالب على السايسة التركية تغليب الثانية، والغالب على أهل العلم والدعوة تغليب الأولى، وأرى أنّ تركيا صاحبة تجربة رائدة، وأنَّ مشروعها الكبير يقضي بإنصاتها لصوت العلماء والدعاة الذين يرون ضرورة كسب ثقة الشعوب المخلصة؛ بأن تميل المواقف في الغالب وأن يميل كذلك الخطاب إلى ما يلبي أحلام الشباب، وألا يتمحض الاجتهاد السياسي لتحقيق المصالح السياسية والاقتصادية؛ فنحن وإن كنَّا في خضم من العداوات والتحديات لا ننسى أنّ شباب الأمة وجيلها الحالي هم عدة الحاضر وذخيرة المستقبل، ولا ننسى أنَّ الله مع المحسنين، والله المستعان.