الانقلابيون والحسد السياسي: رؤية شرعية

لا يخلو مجتمع سياسي من التحاسد السياسي إلا إذا خلت الدنيا من كل ما يعكر صفوها وينغص عيش الأحياء فيها؛ تلك هي طبيعة الدنيا، وما المجتمع السياسي إلا الوعاء الكبير الذي يحوي كل متناقضات هذه الحياة، بما فيها ذلك الإنسان الذي يحب ويكره ويوالي ويعادي ويرغب ويرهب ويُقْدِمُ ويُحْجِمُ يأتلف ويختلف.

ويبدو للمتأمل أنّ هذا التحاسد في حَدِّهِ المعقول المقبول طبيعة تُوَلِّد التنافس؛ فَتَعْمُرُ الحياة ويَحْسُنُ الأداء الجماعيّ للأحياء، فهو بهذا المستوى وبهذا القدر كالملح للطعام، إن زاد عن حده أفسده، وإن نقص أو انعدم تركه مملولاً ممجوجا لا يقبل عليه إلا المضطر، ومن هنا كانت التفرقة بين الحسد المحمود الذي لا يرقى إلى مستوى تمني زوال النعمة من المحسود، والحسد المذموم الذي لا يقف عند حد الرجاء في بلوغ رتبة المحسود، فكان الأول مشروعا لأنه يبني ويعمر، وكان الثاني مذموماً لأنه يهدم ويدمر.

وأخطر الحسد السياسيّ المذموم ما كان مختفياً في عباءة التدين المزيف؛ ومَكْمَنُ الخطر فيه هو الخفاء والتلبيس؛ لذلك قصدت بمقالي هذا هؤلاء الطيبين المخدوعين في أولئك الأفاقين الأفاكين الذين اتخذو الدين والتدين جُّنَّةً يخفون فيها عورة الحسد، وذريعة يتوسلون بها إلى بلوغ الغرض، كما قصدت بها الدعاة والمصلحين الذين يفرقون بوعي وحرص بين الخادع والمخدوع؛ فيشتدون على الأول ويترفقون بالثاني.

وتبدأ قصة أولئك المنقلبين بإبليس، الذي انقلب على الحق الذي يعتقده ويدين به، عندما حسد آدمَ لسبب سياسيّ في جوهره دينيّ في مظهره، فالأمر بالسجود كان إيذاناً بخلافة آدم وذريته في الأرض (إنّي جاعل في الأرض خليفة)، على أن يبقى لإبليس وقومه من الجن حق ممارسة عيشهم وعبادتهم، دون أن تكون لهم على الأرض سيادة أو تناط بهم مسئولية عمارتها بمنهج الله، وجاءت ردود إبليس على الأمر الإلهيّ معبرة عن هذا النوع من الحسد: (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) وتحرك بهذا الشعور منقلباً على كل ما كان يؤمن به: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا).

ويبدو للمتأمل أنّ قابيل لم يقتل أخاه إلا لهذا النوع من الحسد؛ فقبول القربان من أخيه هابيل دونه يعني أنّ شرف ميراث الخلافة الذي منّ الله به على آدم وذريته ذهب عنه إلى هابيل، فجاء انقلابه على الحق والشرعية بهذه الصورة الدموية: (قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) ولم يمنعه من مباشرة العدوان إظهار هابيل لحقه بقوله: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِين).

هذه الخلافة على منهج الله تعالى -وهي ذات طبيعة دينية وسياسية -هي التي أورثت بني إسرائيل ذلك الحسد؛ إذْ لم يكن هيناً عليهم أن تنتقل الخلافة منهم إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تتحول الإمامة عن فرعهم إلى أمة من فرع إسماعيل عليه السلام، قال تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا).

ومن تأمل قصص الأنبياء مع أقوامهم ظهر له جلياً وجود هذا الهاجس الكريه، هاجس السيادة والسلطة والرئاسة والزعامة، فأكابر مجرمي القرى ومن حولهم من الملأ هم من تصدى لدعوة الأنبياء خوفاً على سيادتهم ومناصبهم، وهم الذين أقاموا من قبل شراكة مع الكهنة (رجال الدين) لتزييف منهج الله والانحراف بالناس عن سبيله، وها هي ألسنتهم تغرف شيئاً مما يجيش في قلوبهم: (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ) (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي: “يطلب الفضل عليكم ويرأسكم” الكشاف للزمخشري (3/ 183).

وعندما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ووقف منه الملأ والزعماء ذلك الموقف قام أبو جهل في موقف المفصح عن السبب فقال: “تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ، أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحازينا عَلَى الرُّكب، وَكُنَّا كفرسَيْ رِهَانٍ، قَالُوا: مِنَّا نبيٌّ يَأْتِيهِ الوحىُ مِنْ السَّمَاءِ؛ فَمَتَى نُدْرِكُ مثلَ هَذِهِ، وَاَللَّهِ لَا نؤمنُ بِهِ أَبَدًا وَلَا نُصَدِّقُهُ” سيرة ابن هشام (1/ 276).

وما صدَّ أمية بن الصلت عن الدخول في الإسلام -وهو الذي كان من أبرز الحنفاء المتمردين على عبادة الإصنام – إلا ذلك النوع من الحسد؛ لذلك جاء ذكره في كتاب الله على هذا الصورة التي تنطبع في خيالك كلما تذكرت أمثاله في واقعنا الذي نعيش فيه، قال تعالى: (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ).

هذا هو الذي يفسر بوضوح وقوع كثير ممن ينتسبون إلى الدعوة الإسلامية في جُب الانقلاب على الحق الذي كانوا يعلنونه ويتشدقون به، فهذا يؤسس حزبا سياسياً لا لشيء إلا ليُشَغِّب على الحق وأهله في سياق ما سمي بالثورة المضادة، ثم ليضع يده في يد العسكر والعلمانيين ليحبط مشروعاً إسلامياً وليداً، متذرعا بأسباب من سراب ومستنداً إلى أعمدة من تراب.

وذاك يكون جماعة يعوق بها مسيرة أمة ويعطل بها مصالح دولة، ويبث أذرعها الخبيثة في المؤسسات الفاعلة؛ لتكون أدوات يحصد بها مغانم سياسية خاصة، ويطفيء بها نار الحسد المتأجج في صدره، ولا يهمه أن تكون الكلفة هي الإطاحة بكل مكتسبات النهضة الاقتصادية والسياسية والعمرانية والدينية كذلك.

وكلا الأنموذجين يتدثر بدثار من الدين، ويتخفى خلف ستار من الدعوة، ويجمع حوله أنصاراً اختلفت مذاهبهم ما بين طالب للحق قد ضل الطريق والتبست عليه المسالك والدروب، وطالب لدنيا قد دخل مع الدجال في نفس النفق الذي عنون له سلفه في المنهج بقوله: “كذاب ربيعة ولا صادق مضر”.

وواجب الدعاة والسياسيين تجاه طالب الحق الذي ضل الطريق هو التأليف والدعوة والبيان، وتجاه الآخر هو المعاقبة بما يتحقق به الردع له والزجر لأمثاله. وإذا كان السياسيون قد تكفلوا بالثاني، فإن الدعاة ورجال الشريعة يُلقى على كاهلهم واجب التكفل بالأول، حتى تضيق دائرة الشر وتتسع دائرة الخير (1).

——————————-

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.