(1) توطئة:
لم تكن مجرد خطبة استهل بها حكمه؛ وإنما كانت فوق ذلك منهج حكم رشيد، ودستور دولة عادلة، وبرغم قلة كلماتها وقصر عباراتها أحاطت بأسس الحكم الإسلاميّ وركائز الدولة في النظام الإسلاميّ.
وقف الصديق خطيباً بعد أن بويع من الأمة بالخلافة؛ فقال: «أيها الناس إنّي قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، الضعيف فيكم القوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم الضعيف عندي حتى آخذ منه الحق إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا ظهرت الفاحشة في قوم إلا عمَّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم» (2).
تحدثت هذه الخطبة عن السيادة، وعن السلطة، وعن الشرعية ومصدرها، وعن علاقة الحاكم بالمحكوم والمعارضة الرشيدة البناءة، وعن وظيفة الدولة ورسالتها في الإسلام، كل هذه الموضوعات الكبار اشتملت عليها تلك الكلمات القصار.
مصدر شرعية الحاكم
بدأ الصديق كلمته بهذا التوصيف الذي تُبنى عليه فلسفة الحكم العادل الرشيد؛ فهو لم يأخذ الحكم أخذاً ولم يستلبه استلاباً؛ ولم يأت إلى قصر الرئاسة على ظهر دبابة، ولم يهبط إلى الملك بتفويض من السماء، وإنما الذي حدث هو أنّ جهةً هي التي ولّته ونصَّبته حاكماً بناء على عقد: ” وُلِّيت عليكم” هكذا بالبناء للمجهول، فالفاعل ليس هو، وإنما الأمّة، وتجهيل الفاعل في سياق كهذا تفخيمٌ له وتعظيم لشأنه.
ثم هو لم ينل هذا المنصب لخيرية علا بها عليهم، ولا لفوقية تميز بها بينهم، فقوله: “ولست بخيركم” ليس مجرد تواضع، وإنما قبل ذلك هو استبعاد لأيّ مبرر للحكم سوى الشرعية، التي لا يمكن أن يكتسبها إلا برضى الأمّة صاحبة القرار؛ فالأمة هي صاحبة الأمر، وصاحبة السلطان ومصدر السلطات؛ ولذلك أمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصية بعد أن همّ بها، وردّ الأمر في الجانب القدريّ إلى الله وفي الجانب التكليفيّ إلى الأمة فقال: «يأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ»(3) وفي رواية: «يَأْبَى اللَّهُ وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ يَدْفَعُ اللَّهُ وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُونَ »(4)
وترك النبيّ صلى الله عليه وسلم للاستخلاف مع توافر الدواعي وانتفاء الموانع واتساع الظرف؛ ليس له إلا تفسير واحد، وهو أنّه ترك الأمّة لتمارس حقها وواجبها في اختيار من يحكمها؛ ليؤصل ويؤسس لمبدأ الشرعية السياسية، هذا هو الأصل الذي بنى عليه الصحابة النظرية السياسية الإسلامية، وكان استخلاف من استخلف استثناءً من الأصل؛ للضرورة التي ظهرت لهم، ومن تصفح الروايات التاريخية أيقن أنّه لم يكن سوى ترشيحاً لا تولية، مع نوع مشاركة من الإمام للأمّة في الاختيار في الوقت الذي يشرف فيه على الموت ويقارب إنهاء عقده مع المسلمين؛ باعتباره واحداً من أهل الحلّ والعقد.
وقد بين عمر بن الخطاب هذا الأصل الكبير، فعندما قال أحد الناس « لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ، لَقَدْ بَايَعْتُ فُلَانًا، فَوَ اللَّهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا فَلْتَةً فَتَمَّتْ، فَغَضِبَ عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ : إِنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ….» وخطب خطبة طويلة ختمها بقوله: « مَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يُبَايَعُ هُوَ : وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا»(5).
بل إنّ أبا بكر نفسه قال عندما حضرته الوفاة كلاماً يؤكد أنّ هذا الفهم كان مستقراً، وأنّ العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الإسلام علاقة عقدية، فقد روي ابن الجوزي في مناقب عمر عن الحسن بن أبي الحسن قال: «لما ثقل أبو بكر رضي الله تعالى عنه واستبان له من نفسه، جمع الناس فقال: إنه قد نزل بي ما ترون، ولا أظنني إلا لمأتي، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم عليكم في حياة مني كان أجدر ألا تختلفوا بعدي»(6)، فهي عقدة وبيعة، وهم أصحاب الأمر فيها.
هذا التوصيف الدقيق من أبي بكر الصديق هو الذي يمهد لتحديد موقع الحاكم من الأمّة، فهو في الفقه الإسلاميّ نائبها ووكيلها، يقول الإمام البهوتيّ في توصيف تصرف الإمام وتكييفه: “وتصرفه على الناس بطريق الوكالة لهم”(7)، ويبدع الإمام البغدادي وهو يحدد موقع الإمام بدقة؛ فيقول: “ومتى زاغ عن ذلك – أي عن الشريعة والمنهج – كانت الأمة عياراً عليه في العدول به من خطأه إلى صوابه، أو في العدول عنه إلى غيره، وسبيلهم معه فيها كسبيله مع وزرائه وقضاته وعماله وسعاته، إن زاغوا عن سننه عدل بهم أو عدل عنهم”(8)
الحسبة على الحاكم
ثم يوطد الخليفة الأول لمبدأ الحسبة السياسية، التي يحلو للبعض أن يسميها المعارضة – وإن كان مصطلح المعارضة لا يفي بالمعنى فوق أنَّه دخيل – عندما يقول: ” إن أحسنت فأعينوني وإن أسات فقوموني ” فهذه العبارة توضح قاعدة التعامل بين الحاكم والمحكوم، فهو ليس إلهاً يسمو فوق النقد والتقويم، وليس في ذات الوقت شيطانا مريداً يستوجب (المعارضة) الدائبة الدائمة التي لا يقر لها قرار حتى يخر عرشه ويزول ملكه، وإنما هو بشر يخطئ ويصيب، وموظف ينجح ويخفق، والأمّة تنصح له وتمارس الحسبة السياسية تجاهة، فإن أحسن أعانته وإن أساء قومته.
والحسبة السياسية – التي تعتبر صمام الأمان في الحكم الإسلاميّ – ليست هواية يمارسها هواة، ولا حرفة يحترفها محترفون، وإنما هي واجب كبير داخل في إطار واجب أكبر من واجبات هذا الدين، وهو واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أنّ النصيحة من الأمّة للحاكم تُعَدُّ من الحسبة، وقد جاء في حديث تميم الداري أن النبي قال «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَنْ ؟ قَالَ: لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ»(9) ، وليست النصيحة واجباً فحسب؛ بل عدَّ العلماء أن من حق الإمام على رعيته بذل النصح له سرا وعلانية (10) .
وهناك جملة عظيمة من الآيات والأحاديث تدل على وجوب الحسبة السياسية، وتدل بمجموعها وسياقات الكثير منها على وجودها تاريخياً في حياة الأمة وفي بنية النظام الإسلاميّ، من هذه الأدلة ما يلي:
1- قول الله عز وجل: (فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ) أي: ” فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض”(11) ولكن لما لم يقم بذلك من يكفي “اتبع الذين ظلَموا ما تجبَّروا فيه من الملك، وعتَوْا عن أمر الله”(12) ، وواضح من سياق الآية الكريمة ومن جمعها بين صفات لا تجتمع إلا في حكم ظالم مستبد (الفساد والظلم والترف والإجرام) أنّ الحسبة المفقودة هي الحسبة على الحكام ومعاونيهم.
2- قول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾[الحج: 41]، والتمكين في الأرض لا يكون إلا بإقامة الدولة التي تحمي العقيدة وتصون الملة؛ هذا التمكين يصان
بالحسبة التي قرن بينها وبين الصلاة والزكاة لكونها ركن كبير من أركان هذا الدين، والسياق هنا أيضاً يشير إلى ارتباط الحسبة بالدولة التي هي صورة التمكين الظاهرة.
3- قول الله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) قال القرطبيّ: “و(مِنْ) فِي قَوْلِهِ تعالى ( مِنْكُمْ ) لِلتَّبْعِيضِ … وَقِيلَ: لِبَيَانِ الْجِنْسِ … والْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ “(13) وعلى الوجه الذي رجحه القرطبيّ تكون الآية قد وضعت الأصل لإنشاء مؤسسات الحسبة.
4- عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله r قال: «مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي، إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ، وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ، يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ، حَبَّةُ خَرْدَلٍ»(14)
5- عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً: ” ” ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن الدعوة تحيط من ورائهم”(15) فهذه الثلاثة التي تنفي الغل عن قلب المسلم تتوسطها الحسبة السياسية؛ لكونها تذهب الغضب من القلب إذا قام المسلم بواجبه في الاحتساب على الحاكم.
6- عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويسخط لكم ثلاثا: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، ويسخط لكم: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال ” (16) فهذا الحديث يبين أنّ أسباب القوة ثلاثة وأسباب الضعف ثلاثة، من بين أسباب القوة الحسبة السياسية، التي عبر عنها بمناصحة أولي الأمر من المسلمين.
ومما تجدر الإشارة إليه أنّ التقويم – وهو داخل في إطار الحسبة السياسية – لا يقف فقط عند حدّ النصح، بل يتعداه إلى اتخاذ الإجراءات المشروعة من خلال المؤسسات التي لها شرعية، مثل مؤسسة أهل الحل والعقد التي تختارها الأمة، وتنيبها عنها في ممارسة سلطانها في التولية والعزل والمحاسبة والمراقبة والتقويم والتسديد.
السياسة والأخلاق
السياسة في الإسلام لا تجافي الأخلاق، إذ ليست – كما يصورها البعض – دنساً أو خبثاً؛ فما ذاك إلا السياسة الشيطانية، أمّا السياسة الشرعية فهي كما عرفها ابن عقيل الحنبليّ: « ما كان من الأفعال؛ بحيث يكون الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد »(17)، ورأس هذه الأخلاق: الصدق، الصدق السياسيّ والإعلاميّ، الصدق بين الحاكم والمحكوم، الصدق الذي تؤدى به الأمانة وتنفى به الخيانة، ” الصدق أمانة والكذب خيانة”.
إنّ أخطر ما يواجه السياسة هو (الميكيافيلية) التي ترتكب المجازر والموبقات متذرعة بالمصلحة العامة، وإنّ الإسلام لا يقرّ تلك القاعدة الباطلة: “الغاية تبرر الوسيلة” ولا يعترف بتلك المنطلقات التبريرية التي يتذرع بها الحكام الميكيافيليين، من مثل ما أذاعه إمامهم ميكيافللي في كتابه الأمير: «وقد يقال عن الناس بصورة عامة: إنهم ناكرون للجميل، متقلبون مراؤون، ميالون إلى تجنب الأخطار، شديدو الطمع، وهم إلى جانب ذلك طالما أنك تفيدهم يبذلون لك دماءهم وحياتهم وأطفالهم… ومصير الأمير الذي يركن على وعودهم دون اتخاذ أية استعدادات أخرى إلى الدمار والخراب» (18).
إن حاجة السياسة إلى الأخلاق في عالمنا هذا أشدّ، لأنّ التكنولوجيا التي أنتجت أسلحة وآليات حرب جهنمية تضخم من حجم الكوارث الناتجة عن تدهور الأخلاق السياسية، وهذا ما بدأ الغرب يتنبه له، وإن كان غير قادر على تطبيقه، فهذا فوكوياما يقول: ” إنّ قدرة العلم والتكنلوجيا على تحسين الحياة الإنسانية تتعلق بشكل وثيق بالتقدم الأخلاقيّ الموازي عند الإنسان، وبدون هذا التقدم الأخير تتجه قوة التكنلوجيا بكل بساطة نحو أهداف مدانة ..” (19).
إذا كانت الصرخة التحذيرية لفوكوياما مكتومة بدافع حرصه على تلميع وجه الليبرالية وتقديمها للعالم على أنها نهاية التاريخ؛ فإنّ هنالك أصوات أخرى انطلقت بدويّ أشدَّ لكونها تخشى ألا تكون نهاية التاريخ كما يراها فوكوياما، فا هو ريتشارد كوك: ” إنّ مورثات العدوان الصليبيّ المنحرف، والمدعومة بالعلم والتقنية وأقوى النظم الاقتصادية والعسكرية التي شوهدت في أيّ وقت قد قوت الغرب بقوة شديدة وأدت في القرن التاسع عشر للهيمنة على العالم، وفي النصف الأول من القرن العشرين مزقت هذه المورثات المنحرفة الغرب تقريباً ومن ورائه العالم إلى أجزاء، وحين يعاد توحيد مورثات التعصب المفرق مع الأصولية الدينية؛ فإنّ هذه المورثات تبقى تهديداً قوياً للغرب، لا من الخارج فقط بل من الداخل الذي يعتبر أكثر تهديداً ” (20). لأجل هذا كانت هذه الإشارة السريعة إلى أهمية الأخلاق: “الصدق أمانة والكذب خيانة”.
جوهر السلطة بين الشرعية والاستبداد
ثم ينتقل بنا وبعلم السياسة نقلة بعيدة عندما يحدثنا عن جوهر السلطة؛ فيضيف إلى الفكر السياسيّ عنصراً يكاد يكون مفقوداً في هذه المساحة، فجوهر السلطة كما هو في علم السياسة المعاصر: احتكار أدوات الإكراه الماديّ، وقد عبر الصدّيق عن هذا المعنى بقوله: ” القويّ فيكم ضعيف عندي ” فكل قويّ يكون تجاه الدولة ضعيفاً؛ لأنّها وحدها تملك أدوات الإكراه الماديّ وتحتكرها بما لا يجعل لأحد أو جهة معها نصيب، إلا أنّ احتكار أدوات الإكراه إذا لم يكن مرتكزاً على الشرعية فالتغول على حريات الأفراد وحقوقهم هو النتيجة الحتمية؛ لذلك أشار أبوبكر إلى حدود الاستعمال، فقال: ” حتى آخذ الحق منه ” ذلك القيد إضافة – لا شك – تعزز من قيمة الفرد تجاه الدولة، وتحدّ بدرجة كبيرة من تغول الدولة بسلطانها على الفرد والمجتمع.
إنّ هذا التقييد ” حتى آخذ الحقّ منه ..” مقصود بلا أدنى شكّ، فالصحابة – لاسيما الخلفاء – يستبطنون مقاصد التشريع في كلامهم، وفائدة هذا التقييد في معرض الحديث عن سلطة الدولة كبيرة جداً عند من يدرك خطورة تغول الدولة بآلاتها على المجتمع وعلى الأفراد، وهو ما لم تسلم منه الدولة المدنية المعاصرة، وجاء هذا التغول للدولة المدنية مبنياً على بعد ميتافيزيقي له علاقة بالقيم الحداثية القائمة على الاعتقاد بهيمنة الإنسان على الطبيعة، فالواقع الذي يرصده المراقبون أنّ ” الدولة هي الفاعل الأعلى في تشريع العنف، ذلك أنّه حتى لو افترضنا أنّ بعض العقوبات المشروعة إلهياً يجب تطبيقها أو تبنيها، فإنها تتبنى كخيار للدولة وكتعبير عن إرادتها، فالدولة هنا هي التي تقر الإرادة الإلهية وليس العكس، وبعبارة أكثر صراحة فهي تقف باعتبارها رب الأرباب، وإذا كانت الإرادة السيادية هي الإله الجديد كما رأينا؛ فلا إله إلا الدولة، ولذلك فإنّ الحق الحصريّ في ممارسة العنف والتهديد به لإنفاذ الإرادة القانونية السيادية هو أحد أهم سمات الدولة الحديثة، والتركيز هنا ليس على الأسلوب القديم لقدرة الحاكم على إنفاذ العنف، بل على العلاقة الفريدة بين العنف وميتافيزيقا الإرادة السياسية” (21).
وإذا كانت عبارة الصدّيق على هذه تُعَدُّ إضافة كبيرة؛ فإنّ الإضافة التي تمثل نقلة هائلة هي أنّه شفع ذلك الاحتكار الذي لا بدّ منه للسلطة بأمر آخر واقع في ذات المساحة، وهو الكفاية، فالدولة التي يتحقق سلطانها باحتكار أدوات الإكراه إذا لم تحقق بها كفاية الحماية فإنّ احتكارها هذا يفقد قيمته، ويصبح أداة للعبث الاستبداد ومدعاة للتسلط والقمع؛ لذلك شفعها الصديق بما يزنها ويضبطها، فقال: ” والضعيف فيكم قويّ عندي ” فكل ضعيف بنفسه قويّ بدولته عزيز بسلطانها.
إنّ الدولة ستار لقدرة الله، يدفع بها الظلم والفساد، هذه هي حدود استعمالها للقوة، ومن جميل ما قيل في ذلك قول أحد الأئمة في تأويله لقول الله تعالى: ” ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض” يقول: ” وَقد امتن الله على عباده بنصبه السُّلْطَان فِي الأَرْض ليدفع الظُّلم عَن الْمَظْلُوم قَالَ الله تَعَالَى {وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض لفسدت الأَرْض} يَعْنِي لَوْلَا أَن الله أَقَامَ السُّلْطَان فِي الأَرْض يدْفع الْقوي عَن الضَّعِيف وينصف الْمَظْلُوم من الظَّالِم لأهْلك الْقوي الضَّعِيف وتواثب الْخلق بَعضهم على بعض فَلَا يَنْتَظِم لَهُم حَال فتفسد الأَرْض وَمن عَلَيْهَا.”(22)
رسالة الدولة في الإسلام
وما سبق ينقلنا مباشرة إلى إحدى وظائف الدولة في الإسلام، وهي وظيفة لها ارتباط باحتكار الدولة للقوة ومبرراته، وبواجب الحماية المكمل لمعادلة السلطة، فإنّ مما تتميز به الدولة الإسلامية أنّ لها وظيفة ورسالة فوق الوظائف الأساسية التي تشترك فيها مع أيّ دولة عادلة، هذه الوظيفة المميزة المتميزة هي هداية الخلق إلى الخالق، وحماية منهج الله تعالى وتحقيق سيادته، ومن هنا جاءت عبارة أبي بكر في سياق خطبته التي يؤسس بها لنظام حكمه: ” ما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل “، وإذا كانت الدولة ترقى بوظائفها إلى هذا المستوى فيجب ألا تغفل عن التذكية الذاتية، وهذا هو مورد العبارة الأخرى: ” ولا ظهرت الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء”. فهي – إذن – دولة تعتمد في تحقيق رسالتها على دعامتين متكاملتين: القوة والقدوة.
ولا تنسب فريضة الجهاد إلى العدوان؛ ولا تتهم بالمنافاة للحرية العقدية؛ لأنّ الجهاد لم يفرض على المسلمين لإرغام الناس على الدخول في الإسلام، ولا لفرض العقيدة بقهر السيف؛ فإنّ الأصل المقرر سلفاً، والذي لم ينسخ – على الصحيح من أقوال المحققين – هو أنّ الإنسان مخير في نظر الشريعة، ولا يكره على الدين قط، والقرآن الكريم لم يذكر قط في غايات الجهاد إكراه الناس على الدخول في الإسلام، بل قرر في سورة البقرة -وهي مدنية- أن لا إكراه في الدين، قال تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ﴾[البقرة : 256] ويؤكد القرآن في مواضع عديدة أن الرسول ليس عليه إجبار الناس على الدخول في الإسلام، وليس هو بمسيطر عليهم، وإنما هو مبلّغ عن الله U وحسب، وعليه أن يقول الحق فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، قال تعالى: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾[ق : 45] ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ﴾ [الغاشية : 21، 22] ﴿وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾[الكهف : 29].
وإنما فرض الجهاد لأتاحة حرية العقيدة التي هي الباب الوحيد لدخول الناس في الإسلام، وذلك بتحطيم قوى الشرّ والطغيان التي كانت ولا زالت تمارس الفتنة بالحيلولة دون توفير الحرية الحقيقية للاعتقاد وممارسة شعائر الدين وتحكيم شرائعه، لذلك جاءت الآيات مبينة الغاية الكبرى من شريعة الجهاد، بأنّها إماطة الفتنة: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾[البقرة: 193].
بين السيادة وسيادة القانون
أهم شيء في النظرية السياسية هو تحديد مصدر السيادة، والتنسيق بين هذه السيادة وبين مبدأ سيادة القانون أو مبدأ خضوع الدولة للقانون، وهي إحدى المعضلات التي يعانيها الفكر السياسيّ الغربي إلى الآن، فالسيادة – التي تعني التفرد بالحق في إنشاء الخطاب الملزم – هي في الفكر الغربيّ للشعب، والذي يمارسها على الحقيقة البرلمان، والبرلمان جزء من الدولة، فهو سلطة من سلطات الدولة الثلاث، ومهما قيل عن مدى تمثيله للشعب صاحب السيادة فإنّ المفكرين السياسيين في الغرب يرون أنّ خضوع الدولة للقانون الذي لا تتحقق سيادة القانون إلا به لا يمكن تحقيقه مع القول بسيادة البرلمان، مما دعا كثير من المفكرين أمثال ( جورج سل ) إلى هدم مبدأ السيادة، ولقد نجح سل ومن وافقه في دحض كل المحاولات التي قدمها القانونيون لإزالة ما يوجد من تعارض بين مبدأ السيادة ومبدأ خضوع الدولة للقانون.”(23)
والذي يضمن التناغم بين مبدأ السيادة ومبدأ خضوع الدولة للقانون هو أن تكون السيادة خارج يد النظام الحاكم جملة، وهكذا هي في النظام الإسلاميّ الذي يجعل السيادة للشرع، بمعنى أن تكون الشريعة الإسلامية وحدها دون غيرها هي صاحبة السيادة، هي المتفردة بإنشاء الخطاب الملزم، هي المرجعية العليا التي تفردت بوضع القوانين، وهي التي عناها أبوبكر بقوله: ” أطيعوني ما أطعت الله ورسوله ” أي أطيعوني ما أطعت الكتاب والسنة، فإن خالفتهما فقد خرجت على القانون، ولم تعد الدولة خاضعة للقانون، ومن ثمّ تفقد الدولة شرعيتها، فيسقط حق الطاعة للحاكم.
وليس في هذا أدنى تمكين لرجال دين يحتكرون فهم النصِّ؛ فإنّ هذا إن وقع تكون الشريعة بريئة منه، ويكون في تفريط الامّة في حقها، فإنّ فهم كتاب الله ليس في الإسلام حكراً على من يسمون برجال الدين، وإنما هو حق كل من استكمل الشروط التي تؤهله للنظر في كتاب الله وسنة رسوله، وهي شروط موضوعية ليس فيها أدنى تسلط، ولا يمكن أن يحدث في هذه المساحة انحراف تكون الشريعة سبباً فيه، وإنما يأتي الانحراف من جهة تفريط الأمّة في حقها، تماماً مثلما فرطت الأمّة في حقّ الشرعية السياسية سواءً بسواء.
ليس في الإسلام رجال دين يحتكرون حق الفهم عن الله والتلقي عن السماء، وإنما فيها العلماء الربانيون والمجتهدون المخلصون الذين يقولون للناس: إذا وجدتم في قولنا ما يخالف الكتاب والسنة فاضربوا به عرض الحائط، والذين يعطون الحق لكل فرد في الأمة أن يناقشهم ويجادلهم في ضوء الوحي السماوي الذي يهيمن على العالمين، والذين يخضعون كما يخضع سائر الناس لسيادة الشرع.
وبجعل السيادة للشرع فإن النظام الإسلامي يقدم ضمانة أقوى لعدم الاستبداد، أو لتقليل الاستبداد بقدر الإمكان؛ فإن الغاية الكبرى التي يتغياها أي نظام ينحاز للإنسانية ولحقوق الإنسان هي منع الاستبداد، والاستبداد كما يكون في ممارسة السلطة التنفيذية يكون كذلك – وبصورة أشدّ – في ممارسة السلطة التشريعية، وكما يكون الاستبداد من الفرد الحاكم أو النخبة القليلة الحاكمة يكون كذلك من الأغلبية التي أتت بها الصناديق، وهو استبداد – وإن كان أقل شناعة لكونه ليس من فرد أو طغمة أقلية – ولكنه ربما يكون أكثر ضرراً بشريحة كبيرة من المجتمع لم يحالفها التوفيق للفوز بالأغلبية، فإذا انحصر استبداد الأغلبية في نطاق التنفيذ دون التشريع تقلص الضرر الواقع على باقي المجتمع إلى أكثر من نصفه تقريباً، وذلك لأن التشريع مصدره واحد للجميع، وهو الشرع المعصوم.
الخاتمة:
نخلص مما تقدم إلى نتيجتين:
الأولى: أننا نمتلك تراثاً فقهياً وسياسياً وتاريخياً يصلح لأن يستقى منه نظرية سياسية رشيدة، ويبلغ من التمام والكمال بما يغنينا عن التبعية الفكرية؛ فلا نستمدّ من غيرنا إلا ما كان من قبيل الادوات والآليات المحايدة التي تمحضت للتجربة البشرية، فجميع ما يمكن أن تتيه به الثقافات المعاصرة لدينا ما يفوقه ويربو عليه من حيث الرعاية لحقوق الإنسان، ومن حيث تحقيق العدل والاستقرار.
الثانية: أنّه يجدر بنا أن نثق بتراثنا، وقد آن الأوان للتفريق بين ما هو من قبيل المباديء والأحكام وما هو من قبيل الوسائل والأدوات، فالأول ليس لنا عن استمداده من شريعتنا وثقافتنا وتراثنا بُدّ، والثاني ليس علينا حرج في الاستفادة من غيرنا بالاقتباس والتطوير؛ لكونه متروك للاجتهاد الإنسانيّ وواقع في مساحة العفو التشريعيّ.
وأخيراً لا ننسى أننا – في مرحلتنا هذه التي نعاني فيها الخروج من عنق الزجاجة – يجب علينا أن نعتمد في رسم استراتيجياتنا على تاريخنا وتراثنا وثقافتنا؛ لأنّ المكون الثقافيّ مع التاريخ والتركيبة السكانيّة الواعية برصيدها الحضاريّ يعدّ من أهم عناصر القوة ومن أكبر المرجحات في موازين القوى.
————————-
الهامش
(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.
(2) السيرة النبوية لابن هشام – شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – الطبعة: الثانية، 1375ه – 1955 م 2/661 – تاريخ الطبري – دار التراث – بيروت – الطبعة: الثانية – 1387 ه 3/210 – البداية والنهاية – ابن كثير – دار إحياء التراث العربيّ ط 1988م 5/269
(3) صحيح: رواه مسلم ك فضائل الصحابة باب من فضائل أبى بكرالصديقt برقم”4406″(ج7ص3057)
(4) صحيح: روه البخاري ك الأحكام باب الاستخلاف برقم”6706″(ج11ص5412)
(5) صحيح: رواه البخاري ك المحاربين من أهل الكفر والردة باب الرجم برقم”6358″ (ج11ص5126)
(6) مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لأبي الفرج ابن الجوزي (ص55) – دار ابن خلدون – الإسكندرية – مصر
(7) كشاف القناع عن متن الإقناع – منصور بن يونس البهوتى الناشر: دار الكتب العلمية 6/160
(8) عبد القاهر البغداديّ أصول الدين ط أولى 1928م – مطبعة الدول استنبول تركيا برعاية مدرسة الإلهيات باستنبول ص 278
(9) رواه مسلم ك الإيمان باب بيان أن الدين النصيحة برقم “85” [ج 1ص114]
(10) تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام – بدر الدين بن جماعة – ت: د. فؤاد عبد المنعم أحمد – دار الثقافة الدوحة – الطبعة: الثالثة، (ص: 62)
(11) تفسير القرآن العظيم أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير – دار الكتب العلمية – بيروت – (4/ 309)
(12) تفسير الطبري جامع البيان في تأويل القرآن – محمد بن جرير الطبري – ت أحمد محمد شاكر – مؤسسة الرسالة (15/ 529)
(13) تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن – للأمام القرطبي – دار الكتب المصرية – القاهرة (4/ 165)
(14) رواه مسلم ك الإيمان باب بيان كون النهى عن المنكر من الإيمان …. برقم “74” (ج 1ص108)
(15) سنن الترمذي ت شاكر (5/ 34)
(16)صحيح مسلم (3/ 1340) مسند أحمد ط الرسالة (14/ 400)
(17) إعلام الموقعين عن رب العالمين، (4/372)، دار الجيل، بيروت ط 1973.
(18) كتاب الأمير لميكيافيلي، تعريب خير حماد، المكتب التجاري بيروت، ط1، 1962، الباب السابع.
(19) نهاية التاريخ والإنسان الأخير – فرنسيس فوكوياما – ترجمة فؤاد شاهين وآخرين – مركز الإنماء القومي – لبنان ط 1993م ص 40
(20) ريتشارد كوك ، كريس سميث، انتحار الغرب، ترجمة محمد محمود التوبة، ط أولى 2009م العبيكان السعودية ص 88-89
(21) الدولة المستحيلة – الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي – وائل حلاق – ت عمرو عثمان – المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – ص 73-74
(22) حسن السلوك الحافظ دولة الملوك – لابن الموصلي – دار الوطن – الرياض – (ص: 64)
(23) علم السياسية د. إبراهيم درويش – ط دار النهضة العربية 1975م ص 209