ملخص البحث
بيت المال هو الذي يباشر الإشراف على إيرادات الدولة ونفقاتها وعلى مواردها العامة، وفق أحكام الشريعة الإسلامية، فعن هذه المؤسسة جاء هذا البحث. والبحث يُعْنَى بإبراز العناصر المكونة لبيت المال، المادية منها والبشرية والتشريعية؛ بما يظهرها ويجليها كمؤسسة كبرى في هيكل النظام الإسلاميّ. يهدف البحث إلى إبراز الجانب المؤسسي في بيت المال، وإلى إظهار محاسنه بما يمكن أن يستفاد به في ترشيد الاقتصاد المعاصر. يبدأ البحث بتوطئة فيها تعريف موجز ببيت المال، ثم إجمال لعناصر بيت المال، ثم تفصيل لهذه العناصر في سياق تكون فيه عناصر بيت المال هي ذاتها عناصر البحث.
توطئة
بيت المال هو المؤسسة التي تباشر الإشراف على إيرادات الدولة ونفقاتها وعلى مواردها العامة، وفق أحكام الشريعة الإسلامية، ويمكن تعريفه بأنّه: المؤسسة ذات الشخصية المعنوية المستقلة، التي تتولى جمع الفيء والصدقات والأموال العامة المستحَقَّة أو ما في حكمها، وحفظها وإحصاءها، وصرفَها في إشباع حاجات ومتطلبات الأمة، على ما أوجبه الشرع نصاً واجتهاداً، وهو “جهاز مستقل من أجهزة الدولة تابع للخليفة” (1)
ومصطلح بيت المال أحياناً يطلق ويراد به المكان الذي تحفظ فيه إيرادات الدولة، وأحياناً أخرى يطلق ويراد به المؤسسة القائمة على مباشرة الإشراف على تلك الإيرادات وكيفية تحصيلها وأوجه إنفاقها، وعلى الموارد الاقتصادية العامة وكيفية توجيهها بما يحقق النمو الاقتصادي والتكافل الاجتماعي. ولكي نتعرف على بيت المال في صورته المؤسسية لا بُدّ أن نستعرض عناصر هذه المؤسسة بشيء من التفصيل، وهذا هو ما يُعْنَى به هذا البحث.
العناصر
باستقراء الأحكام المنظمة لعمل بيت المال يتضح أنّ مؤسسة بيت المال تتكون من ستّة عناصر، ما بين مادية وبشرية وقانونية، هذه العناصر الستّة في مجموعها تكون المؤسسة، وهي: الخزانة العامة وفروعها – الجهاز الإداري – الإيرادات – النفقات – الموارد الاقتصادية العامة – حزمة التشريعات.
العنصر الأول: الخزانة العامة وفروعها
إذا أُطلق مصطلح بيت المال أو بيت مال المسلمين وأريد به المكان فهذا هو ما يمكن تسميته بالخزانة العامة وفروعها، وقد وجدت هذه الخزانة في عصر النبوة بالمدينة، وأهم ما كان يميزها أنها كانت بسيطة ببساطة الحياة آنذاك، فكانت في بدايتها في بيت رسول الله صلي الله عليه وسلم، أو في إحدى حجرات نسائه، فقد روى البخاري عَنْ عُقْبَةَ، قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ العَصْرَ، فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا، فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ، فَرَأَى أَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ، فَقَالَ: «ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي، فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ» (2)
ثم كان بعد ذلك في المسجد، فقد روى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ، فَقَالَ: «انْثُرُوهُ فِي المَسْجِدِ» وَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الصَّلاَةِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَمَا كَانَ يَرَى أَحَدًا إِلَّا أَعْطَاهُ. ” (3)
ثم اتُّخِذَت له دارٌ مخصصة، جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد: “أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ لَهُ بَيْتُ مَالٍ بِالسُّنْحِ مَعْرُوفٌ لَيْسَ يَحْرُسُهُ أَحَدٌ، فَقِيلَ لَهُ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم، أَلَا تَجْعَلُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ مَنْ يَحْرُسُهُ؟ فَقَالَ: لَا يُخَافُ عَلَيْهِ، قُلْتُ: لِمَ؟ قَالَ: «عَلَيْهِ قُفْلٌ»، قَالَ: وَكَانَ يُعْطِي مَا فِيهِ حَتَّى لَا يَبْقَى فِيهِ شَيْءٌ، فَلَمَّا تَحَوَّلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى الْمَدِينَةِ حَوَّلَهُ فَجَعَلَ بَيْتَ مَالِهِ فِي الدَّارِ الَّتِي كَانَ فِيهَا”. (4)
ثم وُجِدَتْ له فروع بالأمصار، وكان الخليفة يولي عليها من يصلح لها، ومن أمثلة ذلك أنَّ عمر رضي الله عنه بعث عبد الله بن مسعود إلى الكوفة على القضاء وبيت المال (5)
العنصر الثاني: الجهاز الإداري:
يُعَدُّ الجهاز الإداري لبيت المال جهازاً مستقلاً، وهو تابع للخليفة مباشرة، والرئيس العام له هو الخليفة ذاته، لكن كان يوجد تحت الخليفة من هو مختص بمسئولية بيت المال يدعى صاحب بيت المال(6)، ولقد بدت بوادر الاستقلال مبكراً؛ يدل على ذلك أن الخلفاء كانوا – في كثير من الأحيان – يرسلون إلى الأمصار من يقوم على بيت المال سوى الوالي، من أمثلة ذلك أنَّ عمر رضي الله عنه أرسل إلى الكوفة عمار بن ياسر أميراً وأرسل معه ابن مسعود على القضاء وعلى بيت المال.
وكان هناك داخل هذا الجهاز اختصاصات وظيفية، فمن ذلك أن عمر رضي الله عنه بعث مع ابن مسعود إلى الكوفة عثمان بن حنيف على أرض السواد، أي يكون مسئولاً عن مسحها وتقديرها وفرض الخراج فيها ” فمسح عثمان الأرضين، وجعل على جريب العنب عشرة دراهم، وعلى جريب النخل ثمانية دراهم … ” (7)
ومن ذلك أيضاً أن عمر رضي الله عنه عين على الحمى، الذي كان يتبع بيت المال لترعى فيه إبل الصدقة وخيل الجهاد، رجلاً يسمى هُنَيَّاً، وقال له: يا هُنَيّ، ضم جناحك عن الناس، واتق دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مجابة وأدخل رب الصُرَيْمَة والغُنَيْمَة، ودعني من نعم ابن عفان وابن عوف، فإن ابن عوف وابن عفان إن هلكت ماشيتهما رجعا إلى المدينة إلى نخل وزرع … ولولا هذا النَّعَم الذي يُحْمَل عليه في سبيل الله ما حميت على الناس من بلادهم شيئا” (8)
ومن ذلك أن رسول الله، صلي الله عليه وسلم، استعمل مَحْمِيَّةَ بن جُزء على الخمس، وهو رجل من بني أسد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على الأخماس (9) وجعل بلالاً على صدقات الثمار وابن عوف على صدقات الإبل والغنم، وقد ذكرت الآية الكريمة من سورة التوبة ضمن مصارف الذكاة: “العاملين عليها” أي: السُّعَاةُ الَّذِينَ يتولّون قبض الأموال من الصَّدَقَاتِ مِنْ أَهْلِهَا وَوَضْعَهَا فِي حَقِّهَا (10)
العنصر الثالث: الإيرادات:
تُعَدُّ إيرادات الدولة الإسلامية أخطر عناصر بيت المال، لذلك جاءت مفصلة تفصيلاً دقيقاً، وهي أنواع كثيرة، بلغ بعض العلماء بها اثني عشر مورداً (11)، نذكر أهمها فيما يلي:
1ـ الفيء:
وهو ما تَحَصَّل للمسلمين من عدوهم بغير قتال، فهذا كله في بيت مال المسلمين؛ ودليله قول الله تعالى: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الآيتان 6،7 من سورة الحشر) فمثل هذا يكون فيئاً لا يخمس، وإنما يرد لبيت المال، لينفق حسبما سنبينه.
ويدخل في الفيء أنواع أخرى من الأموال، يقول أبو عبيد في الأموال: ” وَأَمَّا مَالُ الْفَيْءِ فَمَا اجْتُبِيَ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِمَّا صُولِحُوا عَلَيْهِ: مِنْ جِزْيَةِ رُءُوسِهِمُ الَّتِي بِهَا حُقِنَتْ دِمَاؤُهُمْ وَحُرِّمَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَمِنْهُ خَرَاجُ الْأَرَضِينَ الَّتِي افْتُتِحَتْ عَنْوَةً، ثُمَّ أَقَرَّهَا الْإِمَامُ فِي أَيْدِي أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى طَسْقٍ يُؤَدُّونَهُ، وَمِنْهُ وَظِيفَةُ أَرْضِ الصُّلْحِ الَّتِي مَنَعَهَا أَهْلُهَا حَتَّى صُولِحُوا مِنْهَا عَلَى خَرَاجٍ مُسَمًّى … ” (12)
وقد اشتمل هذا النص للإمام أبي عبيد القاسم بن سلام على الأنواع الآتية:
(أ) الجزية: وهي المقدار الذي يؤخذ من الذمي كل عام؛ ومقدارها معلوم ولكن هناك قدر من الاختلاف في بعض تفاصيله، يقول الإمام أبو يعلى: ” واخْتُلِف عن أحمد في قدر الجزية على ثلاث روايات. أحدها: أنها مقدرة الأقل والأكثر. فيؤخذ من الفقير المعتمل اثنا عشر درهما. ومن المتوسط أربعة وعشرون. ومن الموسر ثمانية وأربعون … والثانية: أنها غير مقدرة الأكثر والأقل، وهي إلى اجتهاد الإمام في الزيادة والنقصان … والثالثة: أنها مقدرة الأقل، غير مقدرة الأكثر، فيجوز للإمام أن يزيد على ما قدر عمر، ولا يجوز أن ينقص منه …” (13)
(ب) الخراج: وهو ما يدفعه أهل الذمة على الأرض التي غنمها المسلمون وأقرَّهم الإمام عليها لقاء خراج معلوم، على أن تبقى ملكيتها لعموم المسلمين، وقد فرق العلماء بين أرض الخراج التي تدفع خراجاً يكون فيئاً والأرض العشرية التي تدفع العشر أو نصف العشر زكاة مما تخرجه من زروع أو ثمار، يقول الإمام أبو يوسف: ” فكل أرض أسلم أهلها عليها وهي من أرض العرب أو أرض العجم فهي لهم وهي أرض عشر … وكذلك كل من لا تقبل منه الجزية ولا يقبل منه إلا الإسلام أو القتل … فأرضهم أرض عشر … وأيما دار من دور الأعاجم قد ظهر عليها الإمام وتركها في أيدي أهلها فهي أرض خراج، وإن قسمها بين الذين غنموها فهي أرض عشر”.(14)
ويلتحق بأرض الخراج الأرض التي صولح عليها أهلها، غير أنهم لا يدفعون أكثر مما صولحوا عليه، يقول الأمام أبو عبيد ابن سلام: “وَجَدْنَا الْآثَارَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ قَدْ جَاءَتْ فِي افْتِتَاحِ الْأَرَضِينَ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ: أَرْضٌ أَسْلَمَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا فَهِيَ لَهُمْ مِلْكُ أَيْمَانِهِمْ، وَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ فِيهَا غَيْرُهُ، وَأَرْضٌ افْتُتِحَتْ صُلْحًا عَلَى خَرْجٍ مَعْلُومٍ، فَهُمْ عَلَى مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ، لَا يَلْزَمُهُمْ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَأَرْضٌ أُخِذَتْ عَنْوَةً، فَهِيَ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَبِيلُهَا سَبِيلُ الْغَنِيمَةِ … وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ حُكْمُهَا وَالنَّظَرُ فِيهَا إِلَى الْإِمَامِ: إِنْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَهَا غَنِيمَةً، فَيُخَمِّسَهَا وَيُقَسِّمَهَا، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ، فَذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَهَا فَيْئًا فَلَا يُخَمِّسَهَا وَلَا يُقَسِّمَهَا، وَلَكِنْ تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؛ فذلك له”(15)
وقد كان الخلاف قد وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم في شأن الأرض المغنومة المأخوذة بالسيف عنوة من الكفار، فرأى البعض رأي عمر أن تبقى وقفاً للمسلمين، ويُقَرَّ عليها أهلها على أن يدفعوا خراجاً عنها، يكون فيئاً في بيت مال المسلمين، ورأى آخرون أنها تُخَمَّس كسائر الغنائم.
2ـ خمس الغنائم:
يقول الله عزَّ وجلَّ: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (آية 41 من سورة الأنفال) وبمقتضى هذه الآية يجب أن تُخَمَّسَ الغنائم، فَيُرَدَّ الخمس في بيت مال المسلمين، وتقسم الأربعة أخماس الأخرى على المقاتلين، على وفق أحكام مبينة في مواضعها.
3ـ الصدقات:
وهي ربع العشر مما بلغ النِّصاب وحال عليه الحول من الذهب والفضة وسائر الأثمان، وعروض التجارة، ونصف العشر من الثمار والزروع إن كانت تروى بالآلات أو العشر إن كانت تروى بماء المطر، والمقادير المبينة في كتب الفروع من السائمة إذا بلغت نصابها؛ حسبما هو مبين في مواضعه، إضافة إلى أنواع أخرى مختلف فيها، ومواضع بيان الأحكام والشروط والضوابط كتب الفروع الفقهية، لكن المهم هنا أن نبين أنها من إيرادات بيت المال.
والذي ينبغي أن نفصل فيه القول – بما يناسب المقام – هو حكم دفعها لبيت المال، يقول الله عزَّ وجلَّ: “خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها” فدلت الآية على أن الزكاة من المهام العظام التي تُنَاطُ في الأَصْل بنظر الإمام، وقد ذكر الله تبارك وتعالى عُمَّال الزكاة في آية مصارف الزكاة فقال: ( والعاملين عليها ) مما يعني أنَّ الدولة الإسلامية لديها جهاز يجمع الزكاة ويوزعها، وقد دلت السنة العملية على أنّ الزكاة كانت تدفع لبيت المال؛ “عن ابن سيرين، قال: كانت الصدقة تُدْفَعُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو من أمر به، وإلى أبي بكر، أو من أمر به، وإلى عمر، أو من أمر به، وإلى عثمان، أو من أمر به، فلما قتل عثمان اختلفوا، فكان منهم من يدفعها إليهم، ومنهم من يقسمها، وكان ممن يدفعها إليهم ابن عمر”(16) والخلاف الذي وقع لا يأتي على الأصل بالإبطال؛ فالذين قالوا بتفريقها لم يقولوا ذلك لأنَّ هذا هو الأصل، وإنما لعارض وقع وهو عدم الثقة في الأمراء الذين جاءوا بعد الراشدين.
ورجح أبو عبيد عدم إجزائها إذا قام صاحبها بتفريقها وذلك في الأموال الظاهرة، يقول أبو عبيد: ” فكل هذه الآثار التي ذكرناها من دفع الصدقة إلى ولاة الأمر، ومن تفريقها، هو معمول به، وذلك في زكاة الذهب والورق خاصة، أيَّ الأمرين فعله صاحبه كان مؤديا للفرض الذي عليه، وهذا عندنا هو قول أهل السنة والعلم من أهل الحجاز، والعراق، وغيرهم؛ لأن المسلمين مؤتمنون عليه كما ائتمنوا على الصلاة. وأما المواشي والحب والثمار، فلا يليها إلا الأئمة، وليس لربها أن يغيبها عنهم، وإن هو فرقها ووضعها مواضعها، فليست قاضية عنه، وعليه إعادتها إليهم. فرقت بين ذلك السنة والآثار، ألا ترى أن أبا بكر الصديق إنما قاتل أهل الردة في المهاجرين والأنصار على منع صدقة المواشي، ولم يفعل ذلك في الذهب والفضة؟ ” (17)
4ـ الخمس من الركاز (18) :
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وفي الركاز الخمس» (19)
5ـ تركة من لا وارث له:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، أَعْقِلُ عَنْهُ وَأَرِثُهُ … » (20)
6ـ موارد الدولة من مشروعاتها وأملاكها العامة:
من أمثلة ذلك الأملاك العامة للدولة كالحمى وغيره، فللإمام أن يحمي للصالح العام أرضاً ليست مملوكة لأحد، ولا يجوز له أن يحمي أرضاً مملوكة لأحد رعايا الدولة، ولا أن يحمي أكثر الأراضي، ولا أن يحمي لمصالح خاصة، وما يحميه الإمام من الأرض يكون مَحلَّا لأي نشاط اقتصادي للدولة، وتكون ملكيته تابعة لبيت المال، كالرعي أو الزراعة أو استخراج النفط أو المعادن أو غير ذلك، وما يدره من ربح يكون أحد إيرادات بيت المال.
7ـ التوظيف (الضرائب):
الأصل عدم جواز فرضها ما دامت هناك موارد للدولة، وليس ثَمَّ ما يستدعي فرضها من نفقات ضرورية لا يوجد ما يغطيها من الموارد العامة، وليس للإمام أن يفرض الضرائب ابتداء كمصدر للدخل العام ثم يوجد لها المصارف، وإنما يأتي فرض الضرائب استثناء من الأصل؛ وعليه فلا تفرض إلا إذا فرضتها الضرورة أو الحاجة التي تنزل بالأمة، كأن تدعو الحاجة إلى تجهيز الجيش على نحو معين، ولا يوجد ببيت المال ما يكفي لذلك؛ فعندئذ يكون التوظيف على قدر الحاجة، ويكون فرضها على الأغنياء، ولا يجاوزهم إلى غيرهم إلا في الملمَّات التي تقتضي نفض أكياس الناس.
العنصر الرابع: النفقات
يعتبر هذا العنصر من أهم عناصر بيت المال، ومن أهم مكونات النظام المالي الإسلامي، وهو مليء بالأحكام والتفصيلات والشروط والضوابط، وسوف نختصر في ذلك ونكتفي بما هو ضروري لبيان هذا العنصر من جهة كونه أحد مكونات بيت المال، باعتبار أنّ الأحكام الفرعية موجودة بتوسع في كتب الفروع.
أولاً: مصارف الزكاة: الأصناف الثمانية المذكورة في سورة التوبة، قال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (آية 60 من سورة التوبة) فهذه الأصناف الثمانية هي المستحقة للصدقات، وهناك أحكام تتعلق بهم، موضعها في كتب الفروع.
ثانياً: عطاءات بيت المال لعموم المسلمين: فإن لكل مسلم حقاً فيما أفاءه الله على بيت مال المسلمين، وقد استدل عمر بما نزل في سورة الحشر إلى قوله تعالى: ( والذين جاءوا من بعدهم ) على أن الآيات محيطة بالمسلمين جميعاً لذلك قال: «ما أحد من المسلمين إلا له في هذا المال حق، أُعْطِيَهُ أو مُنِعَهُ» (21) والبعض تمسك بحديث بريدة مرفوعاً: ” … ثم ادْعُهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين … “(22)؛ فاستُدِلَّ به على أنه لا يستحق العطاء من الفئ إلا من جامع المسلمين وكان معهم في جهادهم لعدوهم.
ثالثاً: الإنفاق على المصالح العامة والمرافق العامة: كتجهيز الجيوش، وبناء المرافق العامة، وغير ذلك؛ ورعاية مصالح الدولة والإنفاق عليها؛ فمما لا شك فيه أنَّ رعاية هذه المصالح العامة مما توجبه القواعد الشرعية والمقاصد العامة لهذا الدين، وقد سار الخلفاء الراشدون ومن بعدهم على هذا النهج، وهذا مما لا يحتاج إلى دليل؛ لفرط ظهوره.
رابعاً: رعاية الحالات الخاصة: كافتداء أسرى المسلمين، وقضاء ديون المدينين، وإعالة من لا عائل له، وتزويج من لا يستطيع الزواج، وغير ذلك، عن ابن عباس قال: سمعت عمر حين طُعِنَ يقول: «واعلموا أن فِكاكَ كل أسير من المسلمين من بيت مال المسلمين» (23) وعن جابر، قال: كان رسول الله – صلَّى الله عليه وسلم – لا يُصَلِّي على رجلٍ مات وعليه دَين، فَأُتي بميتٍ، فقال: “أعليه دين؟ ” قالوا: نعم ديناران، قال: “صَلُّوا على صاحبكم” فقال أبو قتادةَ الأنصاريُّ: هما عليَّ يا رسول الله، فصَلَّى عليه رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلم – فلما فتحَ اللهُ على رسوله قال: “أنا أوْلَى بكُلِّ مُؤمِنٍ من نفسِهِ، فمَن تَركَ ديناً فعَلَيَّ قَضاؤُهُ، ومَن ترك مالاً فلِورثتِه” (24)
خامساً: رواتب وأجور موظفي الدولة وقضاء احتياجاتهم: فقد كانت رواتب الولاة والقضاة وعمال الخراج وغيرهم من بيت مال المسلمين، بل وقضاء حوائجهم الضرورية، كما جاء في الحديث: ” من وَلِيَ لنا شيئا، فلم تكن له امرأة فليتزوج امرأة، ومن لم يكن له مسكن فليتخذ مسكنا، ومن لم يكن له مركب فليتخذ مركبا، ومن لم يكن له خادم فليتخذ خادماً …” (25)
العنصر الخامس: الموارد الاقتصادية العامة للدولة
لكل دولة موارد اقتصادية تصب في خزانة الدولة، وقد كان للدولة الإسلامية موارد اقتصادية عامة تملكها الدولة، وكان من أبرزها: الحمى، وقد سبق الحديث عنه، ويمكن أن يكون للدولة موارد أخرى عامة مثل حقول النفط والمناجم، والمعالم السياحية، والمعابر والجسور التي تستغل للملاحة الدولية، وغير ذلك، المهم أنَّ وجود موارد عامة كالحمى يؤكد أنّ فكرة الموارد العامة موجودة في النظام الإسلامي، وهي عنصر من عناصر النظام المالي، وتقع مباشرة تحت إدارة وإشراف بيت المال.
العنصر السادس: حزمة التشريعات
لا بدّ لكل مؤسسة من مجموعة من التشريعات، ما بين مواد دستورية، ومواد قانونية، ولوائح تنفيذية، ومؤسسة بيت المال تتمتع بالسعة والعمق والأصالة والإحاطة في تشريعاتها التي تنظم سير العمل فيها، فهناك التشريعات الدستورية الكبرى، وهي تمثل قواعد عامة، مثل: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) ومثل: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم) ومثل: (قل الأنفال لله والرسول) وهناك المواد القانونية الشرعية: مثل أحكام الزكاة وأحكام الغنائم والأحكام المبينة لمصارف الزكاة والفئ وخمس الغنائم، وهناك الوائح التنظيمية، مثل رسائل عمر إلى عماله في شأن الخراج أو الحمى أو الصدقات، كوصيته لِهُنَيٍّ الذي استعمله على الحمى.
وتفصيلات هذه الأحكام تطلب من مظانها في كتب الفروع، لكننا نريد فقط أن نخرج منها بمجموعة من السياسات العامة لبيت المال، تعد ثمرة من ثمرات هذه الأحكام، فلا شك أنَّ مجموعة التشريعات تنتج مسارات وسياسات للمؤسسة.
السياسات العامَّة لبيت المال
1ـ الإسراع في صرف أعطيات الناس، وعدم تأخير مستحقات الأفراد من بيت المال؛ حتى ولو لأجل التدبير؛ فتلك كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، خرج ابن زنجويه في الأموال عن الحسن: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري «إذا أتاك كتابي هذا، فأعلمني يوما من السنة لا يبقى في بيت مال المسلمين درهم، حتى يكتسح اكتساحا، حتى يعلم الله أني قد أديت إلى كل ذي حق حقه» قال: الحسن: فأوسع الله عليه، فأخذ صفوها، وترك كدرها، حتى ألحقه الله بصاحبيه ” (26)
وروى البيهقي في سننه: “قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ الْأَرْقَمِ: ” اقْسِمْ بَيْتَ مَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً، اقْسِمْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّةً”، ثُمَّ قَالَ: ” اقْسِمْ بَيْتَ الْمَالِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً”، قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ أَبْقَيْتَ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ بَقِيَّةً تَعُدُّهَا لِنَائِبَةٍ أَوْ صَوْتٍ، يَعْنِي خَارِجَةً، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِلرَّجُلِ الَّذِي كَلَّمَهُ: ” جَرَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكِ، لَقَّنَنِي اللهُ حُجَّتَهَا وَوَقَانِي شَرَّهَا، أَعُدُّ لَهَا مَا أَعَدَّ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَاعَةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” (27)
وفي هذه السياسة جملة عظيمة من الفوائد، منها أن يجري المال في أيدي الناس؛ مما يشجعهم على ممارسة الإنشطة الاستثمارية الخاصة، ومنها تقليل فرص سوء الاستغلال لحقوق الناس من أيّ موظف، ومنها أن تكون الدولة قدوة للرعية في التخلص من حقوق العباد. وهذه السياسة بطبيعة الحال تخص حقوق الأفراد، أما الأموال التي تقيم بها الدولة مشاريعها وترعى بها المصالح العامة وتجهز بها الجيوش فهذه لها طريقة أخرى في التعامل تحددها حاجة الدولة.
2- المال في بيت مال المسلمين ملك للمسلمين، والخليفة وكيل عنهم في التصرف في هذا المال، ولا يسمى المال العام؛ حتى لا تستبد الدولة بالتصرف فيه، ولأجل أن يكون تصرفها فيه على وفق الأحكام الشرعية، لذلك رفض أبو ذر تسمية معاوية لهذا المال بمال الله، مع أنّ المال مال الله، لأنّ تسمية الخليفة للمال هنا تسمية سياسية اقتصادية، سواء قصد أم لم يقصد، ويترتب عليها أحكام، سواء تأخرت أو تعجلت، فمال الله يعني الملكية العامة، يعني المال العام؛ ويترتب عليه تفويض الدولة في التصرف فيه، وبعد حوار رضخ الخليفة معاوية لرأي أبي ذر وسماه مال المسلمين؛ ” فهذا الحوار يدل على أن التسمية ليست مسألة شكلية وإنما هي تكييف سياسي واقتصادي، فإذا كان المسلمون الأوائل ممثلين في أبي ذر، رفضوا التسمية بمال الله، ورأوا أن تسمى باسم مال المسلمين، فإن هذا يدل على أنها ليست مملوكة للدولة، وإنما لجماعة المسلمين، والتكييف على هذا النحو له معطياته، فيمن يتخذ القرار، وفيمن يراقب” (28)
3- أنَّ مبدأ تخصيص الإيرادات هو الغالب والأصل في سياسة بيت المال؛ فالزكاة لها مصارف محددة بينتها الآية الكريمة من سورة التوبة في سياق يفيد الحصر، فلا يصح صرفها في غير ما وردت بذكره الآية, وخمس الغنائم جاءت آية الأنفال ببيان المواضع التي ينفق فيها، وحتى آيات الحشر التي ذكرت الفئ؛ فبرغم أنها جاءت محيطة بالمؤمنين؛ مما حدا بأمير المؤمنين عمر أن يتجه إلى تعميم العطاء من الفئ، إلا أنها وضعت إطاراً عاماً يحكم الاجتهاد في إنفاق الفئ ويجعل للاجتهادات حدوداً لا تتجاوزها. ومبدأ تخصيص الإيرادات يحول دون استبداد الدولة بالتصرف في المال، ويرشد التصرف، ويحقق أعلى معدل للتكافل الاجتماعي وللعدالة الاجتماعية.
4- التحري الشديد في تولية المسئولين والموظفين في هذا الجهاز الخطير، من جهة الخبرة ومن جهة الأمانة ” فيَنْبَغِي إِسْنَاد الإشراف إِلَى من يعْتَمد عَلَيْهِ اعْتِمَادًا تَاما ليتَمَكَّن من الْإِحَاطَة بِكُل مَا يجْرِي فِي البلاط والإجابة عَن كل شَيْء فِي أَي وَقت يطْلب إِلَيْهِ ذَلِك وعَلى المشرف نَفسه أَن يعين لَهُ نَائِبا أَمينا قَوِيا فِي كل نَاحيَة ومدينة لمراقبة الْأَعْمَال والإشراف على تَحْصِيل الْخراج ومعرفة كل كَبِيرَة وصغيرة تقع …”(29)
5- الرفق بالناس في استيفاء ما عليهم تجاه بيت المال، ومراعاة حال من عجز منهم، “فعَنْ جِسْرِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: شَهِدْتُ كِتَابَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ، قُرِئَ عَلَيْنَا بِالْبَصْرَةِ: ” أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، إِنَّمَا أَمَرَ أَنْ تُؤْخَذَ الْجِزْيَةُ مِمَّنْ رَغِبَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَاخْتَارَ الْكُفْرَ عُتُوًا وَخُسْرَانًا مُبِينًا، فَضَع الْجِزْيَةَ عَلَى مَنْ أَطَاقَ حِمْلَهَا. وَخَلِّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عِمَارَةِ الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ صَلَاحًا لِمَعَاشِ الْمُسْلِمِينَ، وَقُوَّةً عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَانْظُرْ مَنْ قِبَلَكَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، قَدْ كَبِرَتْ سِنُّهُ، وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ، وَوَلَّتْ عَنْهُ الْمَكَاسِبُ، فَأَجْرِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مَا يُصْلِحُهُ. فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَانَ لَهُ مَمْلُوكٌ كَبُرَتْ سِنُّهُ، وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ، وَوَلَّتْ عَنْهُ الْمَكَاسِبُ، كَانَ مِنَ الْحَقِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقُوتَهُ أَوْ يُقَوِّيَهُ، حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مَوْتٌ أَوْ عِتْقٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ مَرَّ بِشَيْخٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، يَسْأَلُ عَلَى أَبْوَابِ النَّاسِ، فَقَالَ: مَا أَنْصَفْنَاكَ إِنْ كُنَّا أَخَذْنَا مِنْكَ الْجِزْيَةَ فِي شَبِيبَتِكَ، ثُمَّ ضَيَّعْنَاكَ فِي كِبَرِكَ. قَالَ: ثُمَّ أَجْرَى عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا يُصْلِحُهُ”(30)
وقد أوصى عمر رضي الله عنه في وصيته بأهل الذمة: أن يُوَفَّي لهم بعهدهم ولا يُكَلَّفوا فوق طاقتهم وأن يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهم (31)
6- الحيلولة دون استئثار الأغنياء بالانتفاع بموارد الدولة، فإن الأغنياء لهم أموال كثيرة، وإمكانيات ضخمة، وإذا فتح الباب لهم لينتفعوا بالموارد العامة فسوف تكون دولة بينهم ويحرم منها الضعفاء؛ لذلك شدّد عمر على عامله على الحمى ألا يدخل فيه نَعَمَ ابن عفان وابن عوف، فعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اسْتَعْمَلَ مَوْلًى لَهُ يُدْعَى هُنَيًّا عَلَى الحِمَى، فَقَالَ: ” يَا هُنَيُّ اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنِ المُسْلِمِينَ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّ دَعْوَةَ المَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ، وَأَدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ، وَرَبَّ الغُنَيْمَةِ، وَإِيَّايَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ، وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ، فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَا إِلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ … ” (32)
7- تقديم الحافز الاقتصادي وتشجيع الاستثمار الخاص: ومن صور ذلك إحياء الموات، فمن أحيا أرضاً كانت ميتة وليست مملوكة لأحد؛ فهي له خالصة، وإن احتجزها وحجرها ولم يقم بإحيائها فليس له عليها من سلطان بعد مرور ثلاثة أعوام وهي تحت يده، فعن هشام بن عروة، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق” (33)
والموات أرض ليست مملوكة لأحد ولا عامرة ولا منتفع بها، “فإذا لم يكن في هذه الأرضين أثر بناء ولا زرع ولم تكن فيئا لأهل القرى ولا مسرحا ولا موضع مقبرة ولا موضع محتطبهم ولا موضع مرعى دوابهم وأغنامهم، وليست بملك لأحد ولا في يد أحد فهي موات” (34)
ومن صوره الإقطاع؛ فللسلطان أن يُقْطِعَ أرضاً لمن يحييها ويستثمرها بالزراعة أو غير ذلك من ألوان النشاط الاقتصادي الخاص ” فقد جاءت هذه الآثار بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع أقواما وأن الخلفاء من بعده أقطعوا، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاح فيما فعل من ذلك؛ إذ كان فيه تألف على الإسلام وعمارة الأرض، وكذلك الخلفاء إنما أقطعوا من رأوا أن له غناء في الإسلام ونكاية للعدو “(35)
واشترط العلماء ألا يضر الإقطاع بأملاك الأفراد؛ إذ الأصل أنَّه: ” ليس للإمام أن يخرج شيئا من يد أحد إلا بحق ” (36) ولا بأملاك أو أوقاف عوام المسلمين.
والأصل في الإقطاع – بعد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه – ما روي عن ابن طاوس، عن أبيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَادِي الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم»، قال: قلت: وما يعني، قال: «تقطعونها الناس»(37) وقول عمر: لنا رقاب الارض (38) وهذه الكلمات ضابطة لأهم أحكام الأقطاع، يقول أبو عبيد: “حديث النبي صلى الله عليه وسلم في عادي الأرض هو عندي مُفَسِّرٌ لما يصلح فيه الإقطاع من الأرضين ولما لا يصلح، والعادي كل أرض كان لها ساكن في آباد الدهر فانقرضوا فلم يبق منهم أنيس، فصار حكمها إلى الإمام، وكذلك كل أرض موات لم يحيها أحد، ولم يملكها مسلم ولا معاهد، وإياها أراد عمر بكتابه إلى أبي موسى: إن لم تكن أرض جزية ولا أرضا يجري إليها ماء جزية، فأقطعها إياه، فقد بين أن الإقطاع ليس يكون إلا فيما ليس له مالك، فإذا كانت الأرض كذلك فأمرها إلى الإمام” (39)
خلاصة
نخلص من هذا البحث بجملة هامّة من النتائج، في مقدمتها أن بيت المال كان مؤسسة مكتملة العناصر، وأنّ إدارة هذه المؤسسة كانت إدارة مؤسسية، وفق تشريعات متنوعة، وأنه يمكن الاستفادة من فقه بيت المال في بناء اقتصاد إسلاميٍّ قويّ، وتحقيق عدالة اجتماعية، وأن مؤسسة بيت المال أنموذج يدل على اشتمال النظام الإسلاميّ على مؤسسات رشيدة. (40).
————————————–
الهامش
(1) أجهزة دولة الخلافة في الحكم والإدارة، حزب التحرير، دار الأمة بيروت، ط أولى 2005م، ص 135
(2) صحيح البخاري كتاب الأذان بَابُ مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ، فَذَكَرَ حَاجَةً فَتَخَطَّاهُمْ (1/ 170) رقم (851)
(3) صحيح البخاري كتاب الصلاة باب القسمة وتعليق القنو في المسجد (1/ 91)
(4) الطبقات الكبرى، أبو عبد الله محمد بن سعد، ت: إحسان عباس، ط دار صادر – بيروت، لبنان
(5) سنن البيهقي الكبرى ط (مكتبة دار الباز) (6/ 354)، الخراج، أبويوسف يعقوب بن إبراهيم، المطبعةالسلفية ومكتبتها القاهرة – ط الثالثة 1382هـ ص 36
(6) راجع: مؤسسة بيت المال في صدر الإسلام، منير حسن عبد القادر، رسالة ماجستير بجامعة النجاح الوطنية، ص 77.
(7) الخراج، أبويوسف 36
(8) ” مصنف ابن أبي شيبة (6/ 461)
(9) صحيح مسلم (2/ 754)
(10) تفسير البغوي معالم التنزيل، البغوي أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء – ت: عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي –بيروت، الطبعة : الأولى ، 1420 هـ
(11) راجع: الفتح المبين في بيان الزكاة وبيت مال المسلمين، الحسني عبد الرحمن بن إدريس –دار ابن عفان القاهرة مصر – ط أولى 2008م
(12) كتاب الأموال، أبو عُبيد القاسم بن سلاّم، دار الفكر. – بيروت – ص 24
(13) الأحكام السلطانية، للقاضي أبي يعلى الفراء، دار الكتب العلمية، الطبعة : الثانية (ص: 155)
(14) الخراج، أبويوسف 69
(15) كتاب الأموال، أبو عُبيد القاسم بن سلاّم ص 69
(16) كتاب الأموال، أبو عُبيد القاسم بن سلاّم صـ 678
(17) كتاب الأموال، أبو عُبيد القاسم بن سلاّم ص 685
(18) الركاز بكسر الراء وتخفيف الكاف وآخره زاي: المال المدفون، مأخوذ من الرَّكز بفتح الراء، يقال في اللغة: ركَز الرمح يركُزُهُ ويركِزُهُ: غرزه في الأرض، أما الرِّكز بالكسر فهو: الصوت الخفي. ينظر معجم مقاييس اللغة لابن فارس، والقاموس المحيط مادة ركز.
(19) متفق عليه صحيح البخاري (6912) وصحيح مسلم (1710)
(20) سنن ابن ماجة 2/879
(21) كتاب الأموال، أبو عُبيد القاسم بن سلاّم ص 273
(22) رواه مسلم 3/1375
(23) كتاب الأموال لابن زنجويه، أبو أحمد حميد بن مخلد بن قتيبة الخرساني المعروف بابن زنجويه، تحقيق الدكتور: شاكر ذيب فياض، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية – السعودية – ط: أولى، 1406هـ، 1986م (1/ 333)، مصنف ابن أبي شيبة (7/ 673)
(24) سنن أبي داود (5/ 231)
(25) مسند أحمد (18015)، الأموال لابن زنجويه 2/593
(26) الأموال لابن زنجويه (2/ 563)
(27) السنن الكبرى للبيهقي (6/ 581)
(28) الاقتصاد الإسلامي: المرتكزات ـ التوزيع ـ الاستثمار ـ النظام المالي، للدكتور رفعت السيد العوضي
(29) سياسة نامة أو سير الملوك، نظام الملك، دار الثقافة – قطر، الطبعة الثانية، 1407 هـ (ص: 99)
(30) الأموال لابن زنجويه (1/ 169)
(31) الخراج، أبويوسف ص 37
(32) صحيح البخاري (4/ 71)
(33) الموطأ (833) سنن الترمذي ((1378) ابوداود (3073) النسائي (5729) الدارقطني (4506)
(34) الخراج – أبويوسف ص 63
(35) الخراج، أبويوسف ص 62
(36) الخراج، أبويوسف ص 65
(37) كتاب الأموال، أبو عُبيد ص 347
(38) كتاب الأموال، أبو عُبيد ص 354
(39) كتاب الأموال، أبو عُبيد ص 354
(40) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.