واجب أهل الحلِّ والعقد

لست أعنى بالرؤساء – قَطُّ – أولئك المتسلطين الذين لا يمثلون شعوبهم إلا بقدر ما كان يمثلها المندوب السامي؛ ذلك المشئوم الذي لم يذهب حتى خلع ما في عنقه ووضعه في أعناقهم؛ ليقوموا هم بالوكالة بما كان يقوم به هو بالأصالة، فهؤلاء ليسوا لبلادهم رؤساء، ولا لشعوبهم زعماء، وليس لهم صفة يفارقون بها المحتل الأصيل إلا تلك الرقعة المزورة التي يسمونها (الهوية!) والتي أفلحت برغم ضآلتها وتهافت ما بنيت عليه من مزاعم في أن تُخْفِيَ عن كثير من العلماء – فضلاً عن الدهماء – حقيقة هؤلاء.

فليس رئيساً – وإن صال في هذا العالم المنافق وجال – من جاء إلى الحكم بانقلاب أو أخذ العرش باستلاب، وليس زعيماً – وإن دشَّنته الخطب ومجدته المقالات والكتب – من بيده يحقق أعداء الأمَّة ما لا يتسنَّى لهم تحقيقه بأيديهم، ومَنْ بمعاونته وممالأته يمررون من المشاريع مالم يكن لهم تمريره ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

أمّا الرؤساء والزعماء الحقيقِيُّون لبلادنا وشعوبنا وأوطاننا وأمتنا فهم هؤلاء التائهون الْمُشَتَّتُون، هم هؤلاء الغافلون عن دورهم الذاهلون عن حقيقتهم وقيمتهم، هم هؤلاء الذين اجتهد أعداء أمتنا في بعثرة جهودهم ووجودهم؛ حتى صاروا كخلية نحل اندثرت عناصرها في الأجواء؛ فلا تجد لها بيتا تأوي إليه ولا معتصماً تلوذ به وتَطِنُّ حَوَالَيْه.

الرؤساء والزعماء الحقيقيون هم هؤلاء الذين إن اجتمعوا انعقدت باجتماعهم أعظم هيئة لها نفوذ وشوكة وهيبة في هذه الأمّة، الهيئة التي سميت في الفقه السياسيّ الإسلاميِّ بهذا الاسم ذي الدلالات العميقة البعيدة: (أهل الحلِّ والعقد).

وتسميتهم هذه موفقة غاية التوفيق؛ لأنها تحقق الانسجام بين المعنى اللغوي للحل والعقد وبين البعد الوظيفي لهم، فالحل في اللغة يأتي على معاني تدور كلها حول الخروج من القيد (1)، وهو معنى له علاقة بشق كبير من مهام أهل الحل والعقد الذين يملكون حل ما عقد ونقض ما أبرم، ويتصل اتصالا وثيقا بمفهوم (الإلزام السياسي) والصلاحية لإلغاء القرار السياسي(2).

والعقد في اللغة يأتي على معاني تدور حول جمع ما تفرق، ووصل ما تباعد، وإحكام ما تحلل، وإلزام ما لم يكن لازما (3)، وهو معنى وثيق الصلة بمصطلح أهل الحل والعقد وبالبعد الوظيفي له؛ لأنه يثير مفهوما أساسيا في النظرية السياسية وهو مفهوم صنع القرار السياسي ومراحل صياغته وما يتطلبه من إحكام وإبرام (4).

ومصطلح الرؤساء ورد في بعض تعريفات العلماء لجماعة أهل الحل والعقد، مثل الإمام النووي حيث عرفهم بأنهم: «العلماء والرؤساء ووجهاء الناس الذين يتيسر اجتماعهم» (5)، وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية أنهم: «أهل الشوكة من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يحصل بهم مقصود الولاية وهو القدرة والتمكين» (6).

وإذا كان هؤلاء (الرؤساء) هم أهل الحل والعقد والإبرام والنقض فهم أولوا الأمر على الحقيقة، الذين تجب لهم الطاعة قبل الحاكم الذي ينوب عنهم بالوكالة في قيادة الأمة وسياستها وتدبير شأنها؛ لذلك فسَّر كثير من العلماء “أولى الأمر” تفسيراً يتسع للعلماء والأمراء، منهم الإمام الجصاص والإمام أبي بكر بن العربيّ، وغيرهما، فها هو الإمام الجصاص – بعد أن ذكر خلاف العلماء حول أولى الأمر: أهم العلماء أم الأمراء – يقول: “ليس بممتنع أن يكون هذا الأمر للفريقين…إذ ليس في تقديم الحكم بالعدل ما يوجب الاقتصار بطاعة أولى الأمر على الامراء دون غيرهم”(7).

ويقول الإمام أبو بكر بن العربي: “والصحيح عندي أنهم الأمراء والعلماء جميعا … وقد سماهم الله تعالى بذلك فقال: ﴿يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ﴾ …فأخبر تعالى أن النبي r حاكم «والرباني حاكم»، والحبر حاكم، والأمر كله يرجع إلى العلماء؛ لأن الأمر قد أفضى إلى الجهال، وتعين عليهم سؤال العلماء … “(8). ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «أصحاب الأمر وذووه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام؛ فلهذا كان أولوا الأمر صنفين: العلماء والأمراء» (9).

وقد مر في سياق كلام ابن العربيّ أنّ الأمر مردُّه إلى العلماء في النهاية، ويؤكد ابن القيم هذه الحقيقة بقوله: «والتحقيق أن الأمراء، إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضي العلم فطاعتهم تبع لطاعة العلماء فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء … » (10).

هذه الأقوال الواردة عن علماء الأمَّة تؤكد الحقيقة التي استقرت لديهم وهي أنَّ الرؤساء الحقيقيين للأمَّة هم أهل الحل والعقد من علمائها وإمرائها ووجهائها وصلحائها، وأنَّ الحكام إنما يستمدون منهم ومن الأمّة شرعيتهم ويتولون بالنيابة عنهم سياسة الأمّة وتدبير أمورها.

ويترتب على هذه الحقيقة المستقرة في شريعة الإسلام أنَّ الزمان إذا خلا من سلطان شرعيِّ يقود الأمَّة بكتاب الله ويستمد منها شرعيته، ويعمل على حراسة الدين وسياسة الدنيا به فإنَّ الأمر يرجع إلى هؤلاء الرؤساء الحقيقيِّين (أهل الحلِّ والعقد)؛ لذلك يقول الإمام الجوينيِّ: «فإذا شغر الزمان عن الإمام وخلا عن سلطان ذي نجدة وكفاية ودراية، فالأمور موكولة إلى العلماء، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم، ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم، فإن فعلوا ذلك، فقد هدوا إلى سواء السبيل، وصار علماء البلاد ولاة العباد»(11)

وواجبات الرؤساء هؤلاء كثيرة وكبيرة وخطيرة، غير أنَّها تترتب كلها على واجب ابتدائيِّ مبدئيّ، وهو واجب الحضور في المشهد والبروز في موقع المسئولية، ذلك الواجب الذي لا يتم إلى بالاجتماع ووضع الرؤية الموحدة والمشروع الواضح؛ وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

لكن .. كيف يتم ذلك؟ وما هي وسائله وآلياته؟

هذا هو السؤال الذي يتوجب علينا جميعاً أن نجتهد في الإجابة عليه، والمسألة محلِّ اجتهاد وميدان جهاد لا يقل ضراوة عن ميادين النزال بالسلاح والعتاد، وهو وإن كان صعباً شديد الوعورة إلا أنَّه السبيل الأقوم والطريق الأرشد لإعادة الأمّة الإسلامية إلى ممارسة دورها بثقة وسلاسة وانسيابية، وبدونه سيكون التخبط هو السمت العام لكل المساعي (12).

——————————

الهامش

(1) انظر: المعجم والوسيط (ص193-194).

(2) انظر: دور أهل الحل والعقد في النموذج الإسلامي لنظام الحكم، د. فوزي خليل (ص94)، ط1، المعهد العالي للفكر الإسلامي.

(3) المعجم الوسيط (ص613،614).

(4) انظر: دور أهل الحل والعقد، د. فوزي خليل (ص96).

(5) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج محمد بن شهاب الدين الرملي (7/410) دار الفكر بيروت

(6) الموسوعة الفقهية الكويتية (7/115).

(7) أحكام القرآن للجصاص، أبو بكر أحمد الرازي (الجصاص)، دار الفكر ط أولى 2001 (2/298).

(8) أحكام القرآن لأبي بكر محمد بن عبد الله (ابن العربي) (1/534) دار المنار القاهرة ط أولى 2002

(9) مجموع فتاوى ابن تيمية (28/170)، والاستقامة لابن تيمية (2/295).

(10) إعلام الموقعين لابن القيم (1/10).

(11) غياث الأمم في التياث الظلم -للإمام أبي المعالي الجويني إمام الحرمين -مكتبة إمام الحرمين الطبعة: الثانية، 1401هـ ص 391

(12) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.