الوعي الثوري: في معني الثورة

برغم كل ما جرى تبقى الثورة هي الحلم الجميل، برغم الفشل الذريع والسقوط المدوي وانقلاب الأوضاع رأساً على عقب، تبقى الثورة أملاً وحيداً ومخلصاً أكيداً، فليأخذ اليأس من الناس مأخذه، وليستبد بالقلوب والعقول ما حلا له الاستبداد؛ فلسوف تأتي اللحظة التي ينقشع فيها ظلام اليأس عن أفئدتنا كما تنقشع الغمامة عن وجه الشمس، هذه سنة الله في خلقه، غير أنَّ الإنسان خُلق عجولا.

ولقد مرت الإنسانية في تاريخها على هذا الكوكب بمراحل ذاقت فيها من البأس والبؤس ولاقت فيها من العنت والضنك أضعاف ما يقع اليوم في أعقاب الانقلاب على تلك الموجة الثورية التي نسميها الربيع العربيّ؛ فما كانت تلك الأيام إلا جسراً إلى ما جاء بعدها من الفتوح، ومعبراً إلى ما تلاها من الرخاء، ولقد مرَّ على الأمة الإسلامية قرون أحلك من الليل البهيم؛ فما كانت برغم طول أمدها وشدة وطأتها إلا سبيلاً إلى الفجر وطريقاً إلى النهار.

وإنَّه لمن قبيل المسلمات القطعية تلك السنة الماضية: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران 140) فالأيام دول، ودوامها على حال من المحال، وإذا كانت هذه السنَّة ظاهرة في التاريخ البشري ومُتَبَدِّيَةً في التجربة الإنسانية فإنَّ السنَّة التي تستتر خلف جدارها والتي لا يراها إلا المعنيون بالتغيير والتثوير هي سنَّة التدافع، تلك السنَّة الفاعلة التي نصَّ عليها القرآن وأناط بها حفظ الدنيا وحفظ الدين: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (البقرة 251) (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا) (الحج 40).

هذه هي الحقيقة ولا حقيقة غيرها، وهذا هو الواقع ولا اعتبار بما تثيره الظنون ويحركه اليأس من أوهام وأساطير؛ ومن هنا يجب الإعداد ويتحتم، ويأتي على رأس الأولويات في الإعداد للموجة القادمة من الثورة العربية الكبرى الإعداد التوعويّ؛ إذ لا ثورة تنتج أوضاعاً إنسانية مرضية بغير وعي يتجاوز بالثائرين مخاطر الخداع وغوائل المخاتلة. وبغير هذه التوعية لا يكون الناس جديرين بالحرية ولا مؤهلين للنهضة التي تفتتحها الثورة، وصدق الكواكبي إذ يقول: “قرَّر الحكماء أنَّ الحرية التي تنفع الأمَّة هي التي تحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها، وأمَّا التي تحصل على أثر ثورةٍ حمقاء فقلّما تفيد شيئاً؛ لأنَّ الثورة -غالباً-تكتفي بقطع شجرة الاستبداد ولا تقتلع جذورها، فلا تلبث أن تنبت وتنمو وتعود أقوى مما كانت أولاً” طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد (ص: 176).

في معنى الوعي الثوريّ:

كلمة ثورة تطلق في استعمال العرب ويراد بها المعاني الآتية: الغضب والهياج، والوثوب والارتفاع، والانتشار والاتساع، والظهور والحركة، فالعرب تقول: ثار الشيء ثورا وثورانا أي: هاج؛ والثائر هو الغضبان، وثار ثائره وفار فائره أي غضب وهاج غضبه، وثار إليه أي: وثب، والمثاورة: المواثبة، وثار الدخان والغبار وغيرهما يثور ثورا وثورانا أي ظهر وسطع، وثار شعر الرأس أي: انتشر وتفرق؛ وفي الحديث: “جاءه رجل من أهل نجد ثائر الرأس” أي منتشر شعر الرأس، وثارت نفسه: ارتفعت، وثار به الناس أي وثبوا عليه، وثار الماء يثور: نبع بقوة، وثور الشفق: هو انتشار الشفق في الأفق، وثورانه: حمرته، وأثار الأرض: قلبها، قال تعالى: (وأثاروا الأرض) أي حرثوها. راجع: لسان العرب (4/ 108- 111).

ومن هنا يتبين لنا أن كلمة الثورة تحمل معاني كلها ملموسة في الثورة وظاهرة في طبيعتها: الغضب والهياج العام، والظهور بعد الخفاء والحركة بعد الخمول والاختفاء، واتساع نطاقها وانتشار سعيرها، وفورانها وتقلبها وارتفاعها وعلوها، وبغير هذه المكونات لا يمكن أن تسمى ثورة.

فإذا استصحبنا هذه المعاني ونزلنا بها إلى الميدان العمليّ وجدنا أنَّ مُصْطَلَحُ الثورةِ قد يُطْلَقُ ويُرادُ به الدلالةُ على أحَدِ المَعْنَيَيْنِ الآتيَيْن: تغييراتٌ ذاتُ طابعٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ تَرِدُ بصورةٍ فُجائيةٍ وجذريةٍ يَصْحَبُها – في الغالب – استعمالُ القوَّةِ، وقد يطلق ويراد به تغييراتٌ جذريةٌ بطيئةٌ مِنَ العمق تكتسي طابعًا علميًّا أو ثقافيًّا أو صناعيًّا، بعيدةٌ عن الميدان السياسيِّ ومتجرِّدةٌ مِنْ أساليبِ العنفِ: كالثورة العلمية أو الثقافية أو الصناعية ونحوِ ذلك.

ولكون الثورة تحدث تغييراً جذرياً – فتفترق بذلك عن الحركات الإصلاحية – عرفها مجمع اللغة العربية بأنّها: “تَغْيِير أساسي فِي الأوضاع السياسية والاجتماعية يقوم بِهِ الشّعب فِي دولة مَا” المعجم الوسيط (1/ 102). وبرغم أنَّ الإسلام دعوة وثورة، وأنَّه في طبيعته الحركية يجمع بين الصبغة الدعوية والصبغة الثورية؛ إلا أنَّ مصطلح (ثورة) لم يرد استعماله كثيراً في لغة القرآن والسنة، ولا حتى في لغة الفقه السياسي، بل إنَّه استعمل في بعض المؤلفات – لاسيما التاريخية – للدلالة على حركات اجتماعية ذات طابع عدواني سلبي؛ فجاءت وكأنَّها مرادفة للفتنة، فيقال – مثلاً – فتنة السبئية كما يقال ثورة السبئية على عثمان رضي الله عنه.

غير أنَّ هذا مجرد عرف استعمالي لا ينم عن قبح لغوي أو تقبيح شرعيّ في المصطلح ذاته، ولا يدل من قريب أو بعيد على موقف شرعيّ سلبيّ تجاه الثورة التي تقوم بها الشعوب ضدّ الظلم والاستبداد؛ ولقد وقع كثير من اللبس لدى الكثيرين ممن ينتسبون إلى الدراسات الشرعية بسبب هذا؛ مما يستدعي تجلية الأمر بما لا يدع ريبة لمرتاب ولا ذريعة لمتذرع يثير الشبهات ويشيع الترهات (1).

—————————————

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.