لم يكن الإسلام ثورة بالمعنى الذي يتبادر إلى الذهن عند إطلاق كلمة (ثورة)؛ لكونه دعوة ربانية منطلقة من بين دفتي كتاب سماويّ، ولكون الذي أطلقها نبي معصوم يوحى إليه، ولأسباب أخرى متعلقة بجوهر هذا الدين ومظهره تمثل فروقا جوهرية بين طبيعة الدعوة الإسلامية وطبيعة الحركات الثورية، ولكن بالنظر لما أحدثه الإسلام في واقع البشرية من تغيير جذريِّ نَسَفَ كل ما كانت تقوم عليه الحياة من عقائد وأفكار ومشاعر وتصورات، ونَسَخَ كل ما قام فيها من نظم وأوضاع وعادات وأعراف، وبالنظر كذلك إلى قوة الحركة وقدرتها على التغيير؛ يُعَدُّ ثورة هائلة مثيرة للعجب والإعجاب.
هذه مُسَلَّمَةٌ تقررها النصوص المعصومة من التبديل والتأويل، ويؤكدها التاريخ المصون عن المبالغات والتهويل؛ لتكون منطلقاً إلى جملة من الثوابت الراسية والمعالم البارزة، أهمُّها: أنَّ الإسلام بما يشتمل عليه من عقيدة وشريعة لم يكن في يوم من الأيام في وضع مضاد للثورة على الباطل والظلم والاستبداد، ولن يكون، وأنَّه يصلح بما يتمتع به من قوة دفع ورصيد خبرة وسابق تجربة -وقبل ذلك كله من ربانية يتفرد بها -أن يكون مصدراً (معصوماً) لمنهجية ثورية حاضنة للحراك الكبير الذي تنتظره الأمة.
ومن هذه الركائز ننطلق إلى تصحيح المفاهيم المتعلقة بصلة الإسلام بالثورة، وإلى فض الإشتباك الواقع بين المصطلحات؛ حتى يستقيم لنا الأمر وينفسح لنا طريق الاستفادة من ديننا وثقافتنا وحضارتنا، وحتى تنتهي في بيئتنا المعركة المفتعلة بين ماضينا وحاضرنا، والمشتعلة بين أمسنا وغدنا.
ونبدأ بالعودة إلى مصطلح (الثورة) الذي سبق أن بينَّا معانيه في اللغة وأبعاده الواقعية التي تعكسها هذه المعاني، لنجد أنَّ هذا المصطلح لم يكن مستعملاً في لغة الفقه السياسي للتعبير عن التغيير، ولم يكن مستخدماً في التأريخ للحركات التغييرية المحمودة المنطلقات والمسارات والعواقب؛ لسبب واحد – لا علاقة له بتحسين للمصطلح أو تقبيح – وهو العرف الاستعمالي، فلقد كانت للثقافة الإسلامية مصطلحات غير محايدة ولا هلامية، مثل: (الخروج – البغي – الفتنة – الحسبة – الجهاد – الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – النصيحة) وغيرها، وجميعها مصطلحات مستعملة في صور التغيير المختلفة، فبعضها يستعمل في التغيير للخير وبعضها يستعمل في التغيير للشر، وبعضها يدل على التغيير السلميّ وبعضها يدل على التغيير بالقوة.
أمَّا مصطلح الثورة فهو – في سياق الثقافة الإسلامية – مصطلح يحظى بقدر من الحيادية، ويسعد بمسحة من الهلامية والضبابية؛ ذلك لأنَّه لم يكن قد تبلور في الواقع العمليّ، ولم تدعمه تجارب عملية قريبة من البيئة التي نبع فيها الإسلام وانساب منها إلى فجاج الأرض وأقطارها، وربما جرى على ألسنة بعض العلماء وأقلامهم في سياق التعبير عن صور وحركات التغيير غير المحمودة؛ لسبب غاية في البساطة والواقعية، وهو التحسس الشديد لدى كتَّاب الأمَّة الإسلامية من ظاهرة تحرك الدهماء بلا هدي من العلماء، وهذا التحسس مردُّه إلى كون الحركة الإسلامية حركة منظمة وثورة ممنهجة، لا تعرف العشوائية ولا تطمئن للغوغائية.
لكن يبقى أنَّ المصطلح إذا تبلور بفعل التجارب الإنسانية وصار يُستعمل فيما تدل عليه المصطلحات الأصيلة فلا مانع من استعماله، ولا غضاضة في استخدامه، إذا لم يكن خاصاً بثقافة مصادمة لثقافتنا؛ إذ إنَّ الأصل الذي لا مماراة فيه أنّه (لا مشاحة في الاصطلاح) فإذا دلَّ مصطلح الثورة على حركة شعبية عامة تقتلع جذور الفساد والاستبداد؛ فأيّ مانع يمنع من استعماله؟! ومن ذا يملك سلطة الحجر على الناس فيما يُعبرون به عن المعاني الموافقة لما جاء الإسلام به من خير وصلاح؟!
وبنفس المنطق وذات المنهج لا يصح الحجر على من استعمل مصطلحاً آخر غير مصطلح الثورة، ولاسيما المصطلحات الأصلية، كمصطلح (الجهاد)، غير أنَّه قد تقوم ملابسات واقعية أو حركية تتطلب اتفاق الناس على مصطلح واحد؛ فعندئذ يحسن الدخول فيه دون تثريب على من استعمل غيره.
هذا الإجلاء لمصطلح الثورة يقودنا إلى ضرورة إجلاء مصطلحات أخرى لها دور كبير في صناعة الفهم وتشكيل الوعي، وكذلك ضرورة إماطة الأذى عن كثير من المفاهيم التي تدل عليها هذه المصطلحات، والتي تشوهت بفعل الاستنساخ وعمليات إعادة الشحن والتفريغ