الإسلام بما يشتمل عليه من عقيدة وشريعة لم يكن في يوم من الأيام في وضع مضاد للثورة على الظلم والاستبداد، ولن يكون، وأنَّه يصلح بما يتمتع به من قوة دفع ورصيد خبرة وسابق تجربة – وقبل ذلك كله من ربانية يتفرد بها – أن يكون مصدراً (معصوماً) لمنهجية ثورية حاضنة للحراك الكبير الذي تنتظره الأمة”.
وليس في هذا الذي قلته أدنى مبالغة أو تهويل، بل إنَّه أقل بكثير مما يجب أن يقال، فهو لا يمثل إلا الحدّ الأدنى لما يمكن أن يقال في العلاقة بين الإسلام والثورة، أمَّا الذي يجب أن يُعْلَم ويقال، ويُذاع ويُشاع، ويُسَلِّمَ به الجميع، ويُذْعِنَ له الكافَّة، فهو أنَّ الإسلام – الذي هو في جوهره دين ربانيّ وفي طبيعةِ حركته عبادة ودعوة وجهاد – أعظمُ ثورة في حياة البشرية، من حيث وضوح ونقاء المنطلقات والغايات، ومن حيث قوة ومضاء الآليات والأدوات، ومن حيثيات أخرى كثيرة تتعلق بقياس الأداء، وتقييم النتائج، والجودة العالية في استخراج مكنون الطاقات وحسن توجيهها.
أجل .. لقد كان الإسلام ثورة عالية المدِّ عاتية الموج، ثورة على باطل مدَّ جذوره في التربة الإنسانية، وبسط رداءه الحالك السواد على أطراف المعمورة؛ حتى لم يبق فيها أثر لحقٍ أو خير، اللهم إلا بقعاً متناثرة في زوايا متباعدة من أرض الله الواسعة، مثلما صور الحديث الفذّ: ” وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ” صحيح مسلم (2865)
وثورة على ظلم أطبق على الخلق وأحكم قبضته على العباد؛ فلم يدع لهم حقاً إلا وانتهكه غير مبال ولا مكترث، فحقُّ الحيِّ في الحياة رهن إرادة الجبابرة والبرابرة، وحق المخلوق في أن يعبد خالقه مُصادَرٌ لحساب الطواغيت من القياصرة والأكاسرة، وحق الناس الذين وُلِدوا من أرحام أمهاتهم أحراراً في أن يحيوا أحراراً كما يريدون صار حكراً على الأثرياء أو الأقوياء، وحرزاً لمن يملكون بمالهم أو يحكمون بسلطانهم.
وثورة على استبداد واستعباد، قهر الخلق جميعاً وأذلهم لحفنة من الأنذال، وجعلهم يدورون أبداً في فلك العبودية، الخِطامُ في أنوفهم والسوط على ظهورهم وأدبارهم، لا يرفعون رؤوسهم ألا ليقطفها السيف، ولا يمدون أبصارهم إلا ليخطفها الخوف، ولا يحلمون في منامهم أو غفوتهم بتغيير في أوضاع حياتهم إلا ليتحسروا في يقظتهم وانتباههم على واقعهم الذي لا مناص منه ولا فكاك.
ولم تكن ثورة الإسلام ثورة علمية أو فكرية أو فسلفية، وإنما كانت ثورة شاملة واسعة الحراك، ولم تكن ثورة مهاودة مهادنة تؤثر السلامة وتختار طريق التحايل والمداورة، وإنما كانت غاية في الشدة الصرامة متناهية في الحزم والحسم، فهي بمعايير الثورة الحقيقية الأقوى والأمضى والأجدى، غير أنَّها لم تبد في شكلها الخارجيّ مؤتزرة بإزار الثورة التقليدية ولا مرتدية رداءها، فلو كان الحكم للباس الخارجيِّ وحده لما تميز الحاكم إلا ببَزَّته ولا الفقيه إلا بعمامته ولا العابد الناسك إلا بما يغطي جسده من مسوح.
ونحن إن ألقينا نظرة خارجية كلية تحيط بالخطوط العريضة من خطة الإسلام ومسيرة حركته، منذ كان كلمة في غار حراء إلى أن صارت له الكلمة في أصقاع الغبراء؛ فسوف نذهل من حجم التحول الذي وقع في حياة البشرية في مدة زمنية لا تزيد عن ربع قرن من الزمان، وفي مساحات من أرض الله امتدت شرقاً وغربا وشمالاً وجنوباً حتى كادت تبتلع العالم القديم كله آنذاك، وسوف نندهش من عمق هذا التحول الذي بلغ مبلغ إعادة الصياغة للإنسان على نحو مضاد لما كان عليه في سالف عهده.
هذا التحول الذي يدير الرؤوس لدى تأمله على وجه كليّ لم يكن ليقع بحركة إصلاحية، أو نهضة علمية فكرية، أو دعوة دينية تعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وما كان ليقع لولا أنَّ الإسلام في طبيعة حركته ثورة، ليست كأيِّ ثورة رآها الناس أو سمعوا عنها، بل ثورة منظمة، يقودها ويرعاها منهج ربانيٌّ حكيم، ويسلك بها الدرج الصاعد في سلم التغيير الجذريِّ بحكمة وقوة ورشد.
وإنك لتعجب إلى الحد الذي يبلغ بك العجب منتهاه عندما تتأمل البدايات والنهايات، فلا ترى – برغم أنَّ ما بينهما في الواقع كما بين الأرض والسماء – أدنى فرق في الخطاب بين المبدأ والمنتهى، وما يلوح من فروق إنما هي فروق فيما يتعلق بالأدوات والآليات المتغيرة بطبيعتها، كالفرق بين قول الله تعالى في القرآن المكي: “فاصفح الصفح الجميل” وقوله تعالى في القرآن المدنيّ: “فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب” فالصفح والإعراض وعدم الاكتراث بتهافت الجاهلية هو الخطوة الأولى في طريق قطع رقاب الظالمين وجذِّ رؤوس الطغاة عند من يدرك طبائع الأمور، والغضب في الحالين واحد والمفاصلة فيهما بارزة وواضحة.
أمَّا إذا أردنا أن نغوص في التفاصيل الجزئية فسنجد أنفسنا مضطرين إلى القيام بعملية تشريح للثورة ثم عملية قياس وموازنة بينها وبين الإسلام؛ بغرض الوصول إلى ذات النتيجة التي تنتهي إليها النظرة الكلية العابرة.