الحمد لله.. والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد..
في أثناء المائة الأخيرة من الألفية الأولى من كتابه تحدث الشيخ الدكتور سفر الحوالي عن الفكر السياسي الإسلامي، وطبيعيٌ أن تتفق معه في نقاط وتختلف معه في أخرى، ولقد خالفته في بعض طروحاته كما سأبين بعد قليل، لكنك لن تختلف معي إذا قرأت ما كتب وسطر في أنه صاحب رؤية شمولية واسعة منضبطة بتقعيد شرعيٍ ثابت ومؤصل، وهذا الجمع في الحقيقة لا يحسنه كل أحد، فغالب الناس ما بين اتجاه يغلب عليه التأصيل الشرعي وتنضب فيه الرؤية الواقعية التي تحول الفكرة إلى حركة، وآخر يجاري الواقع ويسعى للتكيف معه وإن كان ذلك على حساب الثوابت الشرعية الراسية.
ولقد أطال في بيان خصائص الدولة الإسلامية، فبين بإسهاب أنها دولة الشريعة لا الأهواء، ودولة العدل المطلق الذي لا يكيل بمكيالين، ودولة الشورى لا الاستبداد، ودولة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودولة التكافل والحماية لحقوق الإنسان، ودولة الحرية مع المسئولية، ودولة السياسة الشرعية النظيفة، كما أطنب في بيان معالم الفكر السياسي الإسلامي، فمن هذه المعالم عدم انعقاد الولاية للفاسق أو الخائن، وكذلك العاجز السفيه، فهل كان ينظر وهو يسطر هذه الكلمات إلى بعض إمراء آل سعود، ولا سيما ذلك الأخير الذي يسمى ولي العهد بينما هو يدير الأمور كلها من ألفها إلى يائها؟ ربما ..
وفي النصف الثاني من هذه المائة تحدث عن الإمامة وشروطها، فأفاض وأجاد، وجال في كثير من المراجع القديمة والحديثة، غير أنه – من وجهة نظري – تكلف فيما يتعلق بشرط القرشية، فلم يوفق في التأليف بين معطيات النصوص وحاجات الواقع بما لا يعد خروجا على الأصول العامة للاستدلال في الفقه الإسلاميّ، فنحن نتفق معه تمام الاتفاق في أن نصوص السنة التي تقرر شرط القرشية لمن يتولى الخلافة نصوص صحيحة صريحة لا يجوز تجاهلها ولا يستقيم تأويلها، لكن الذي نخالفه فيه هو هذا التجديف العنيف ضد معطيات الواقع، فالقرشية كميزة يتفوق بها القرشيون على غيرهم ذهبت مع ذهاب العصبية، ففيم الجري وراء سراب قد يشغلنا عن منابع الخير جملة، ولِمَ التحايل لإسباغ القرشية على الخلافة العثمانية وكأن تاريخها ومجدها وما كان لها من شرعية تقود بها الأمة سيمحى بمجرد القول بانعدام شرط القرشية في العثمانيين !
وقد أورد ابن خلدون في مقدمته، بعد إثباته لشرط القرشية، تعليلا لهذا الشرط، فقال: «إن الأحكام الشرعية كلها لابد لها من مقاصد وحكم تشتمل عليها وتشرع لأجلها، ونحن إذا بحثنا عن الحكمة في اشتراط النسب القرشي ومقصد الشارع منه نجد أنه لم يقتصر فيه على التبرك بوصلة النبي r كما هو في المشهور…..وإذا سبرنا وقسمنا لم نجدها إلا اعبتار العصبية التي تكون بها الحماية والمغالبة، ويرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب، فتسكن إليه الملة وأهلها، وينتظم حبل الألفة منها، وذلك أن قريشا كانوا عصبة مضر وأصلهم وأهل الغلب منهم.. فلو جعل الأمر في سواهم لتوقع افتراق الكلمة بمخالفتهم وعدم انقيادهم.. بخلاف ما إذا كان الأمر في قريش.. واشتراط نسبهم القرشي في هذا المنصب وهم أهل العصبية القوية ليكون أبلغ في انتظام الملة واتفاق الكلمة»(1 ).
هذه المحاولة من العلامة ابن خلون فتحت الباب للتعامل الجيد مع القضية، وللنظرة المعتدلة إلى هذه الأحاديث والي هذا الشرط الذي تضمنته، فهو يعلل الحكم بعلة العصبية التي كانت قريش تتمتع بها بين القبائل، والتي كانت في ذاك الوقت هي المعتصم من تفرق الكلمة واختلاف الأمة، فقريش أوسط العرب دارا وأشرفها نسبا، والرسالة خرجت فيها، فإذا ما كان الخليفة بعد رسول الله منها لم تختلف عليه العرب، وهم أكثر الناس تقديرا للعصبية؛ فانتظم به عند ذلك عقد الأمة وسكنت إليه الملة وأهلها، أما إذا كان الخليفة من غير قريش أمكن أن تعترض عليه القبائل؛ إذ بعد قريش ليس لقبيلة من العرب فضل على أخرى، فعندئذ تكون الفتن ويكون التفرق والاختلاف.
فإذا ما جاء زمان كهذا الذي نعيش فيه، ذهبت فيه العصبية جملة، واندرست فيه رسوم القبائل، ولم تعد قريش تتميز عن سائر أعراق الناس بما كانت تتميز به من قبل من العصبية واجتماع الكلمة عليها واحتضان وتوليد الكوادر السياسية الرشيدة؛ فعندئذ لن يوجد ما يتنزل عليه الحكم الشرعي القاضي باشتراط القرشية فيمن يتولى أمر المسلمين العام؛ والحكم المعلل بعلة يدور معها وجودا وعدما؛ فينتفي الحكم لانتفاء علته؛ فلا ضير – والحال هكذا – أن يعلق هذا الحكم، مثلما علق عمر سهم المؤلفة قلوبهم لخلو زمانه ممن يستحقون هذا السهم، فإذا ما قدر أن الزمان استدار كهيئة يوم أن كان لقريش ما كان من المكانة والشرف والعصبية وتفريخ القيادات السياسية الرشيدة فعندئذ يعود الحكم للوجود تبعا لوجود علته، ويعود لقريش أمرها الذي يبقى لها – إن بقيت على حالها – ما بقي من الناس اثنان.
وإذا وجد زمان لم يوجد فيه قرشي يصلح للإمامة أصلا فلم يقل أحد من العلماء بتوقف عجلة الحياة السياسية في الأمة حتى يظهر الإمام القرشي (المنتظر!)، يقول الإمام الجويني رحمه الله «وقد تقدم أن الانتساب لقرشي معتبر في منصب الإمامة، فلو لم نجد قرشيا، يستقل بأعبائها ولم نعدم شخصا يستجمع بقية الصفات نصبنا من وجدناه عالما كافيا ورعا وكان إماما منفذا للأحكام على الخاص والعام…ونحن نعلم قطعا، أن الإمام زمام الأيام وشرف الأنام، والغرض من نصبه انتظام أحكام المسلمين والإسلام، ويستحيل أن يُترك الخلق سدي لا رابط لهم، ويُخلوا فوضى لا ضابط لهم، فيُغتلم من الفتن يحرُها المواج، ويثور لها كلُّ ناجم مهتاج، ونحن في ذلك نرقب قريشاً! والخلق يتهاوون في مهاوي المهالك ويلتطمون في الخطط والممالك! فإذاً عدمُ النسبِ لا يمنع نصبَ كافٍ»(2 ). (يتبع)
(1) مقدمة ابن خلدون (ص162).
(2) غياث الأمم للجويني (ص87).