بالأمس القريب كان ترامب يجدد ممارساته لابتزاز الخليج، ولاسيما السعودية؛ ممتناً عليهم بحمايته لكراسيهم، ومهدداً من طرف خفيّ بأنَّ بقاءهم على عروشهم مرهون بالدفع، وبهذه المناسبة يحق لكل مسلم في أرض الله كلها أن يعلم علم اليقين بأنَّ هذه الأموال التي يدفعها الحكام جزية للأمريكان والصهاينة هي أموال المسلمين جميعاً وأن لكل مسلم حقٌ فيها؛ لأنّ الأصل أن ما أفاءه الله على المسلمين هو ملك لهم جميعاً، وأنَّ اختصاص السعودية والخليج بها مبني على حدود سايكس بيكو، وهي باطل محض؛ وما بني على الباطل فهو باطل.
ومن ثمّ فمن المؤلم المشاهد أنَّ هؤلاء الحكام يبددون شطر أموال الأمة في سبيل الحفاظ على عروشهم المحمولة على أنفاس المعذبين، ويبددون شطرها الآخر في الترف والبزخ والإسراف المتجاوز حد الفجور على أنفسهم وعوائلهم، في الوقت الذي يضيقون فيه على العمل الخيري الإسلامي، ويقيدون حرية الفرد في التصرف في ماله؛ فلا يملك التبرع بالقليل لأي مشروع من مشاريع الخير أو الدعوة أو الإغاثة، وبينما المليارات تتدفق جزية إلى جيوب الكفار تجد حسابات الخيرين مراقبة وعليها العين ساهرة.
هذا هو الهم الذي يدندن حوله الشيخ فيما سطره بعد أن تجاوز بداية الألفية الثانية من كتابه بخطوات يسيرة، حيث طوف في خواطر شتى تحوم حول هذه القضية المؤلمة المزعجة، وهذه قطوف عابرة من كلامه: “بعض أثرياء الخليج تبرع للكفار بمليار دولار، وأين؟ في مبنى مركز التجارة العالمي … وأنا استُدْعِيت وقيل لي: كيف تتبرع للصومال بغير إذن الحكومة؟ فكتبت لوزير الداخلية في حينه “سورة الماعون” … والأمم المتحدة والغرب عموماً ليست الدول النفطية عندهم إلا (كيس فلوس) … وكيف تكون الفلوس عندنا مثل “الرز” وفي بلادنا الملايين لا يجد أحدهم مسكنا ولا ملبسا ولا علاجا … ثم جاء ترامب بما هو أدهى وأمر …” ص 1035 وما بعدها.
وتحدث عن المساواة – وأُفَضِّلُ أن أسميها العدالة الاجتماعية – فأسهب وأطنب مبيناً قواعدها في الإسلام، ومقارناً بينها وبين المساواة في بيئة الديمقراطية الليبرالية؛ ليؤكد من خلال شهادات ساقها لمفكرين غربيين أمثال أرنولد توينبي أنَّ مرَّ الأيام وكرَّ الأعوام لا تزيد الغني إلا غنى ولا الفقير إلا فقراً، وأنَّ الثورة المضادة في أوربا أوقعت الشعوب في مقايضة جبرية بين الحرية والمساواة، وهما أبرز مبادئ الثورات المعاصرة كالأمريكية والفرنسية، لكنه – على عادته – لم يعدم الحيلة ليكسر السياق منعطفاً على حلفاء وشركاء آل سعود: “والجنرال السيسي الغردقيّ الذي أُعْطِيَ من “الرز” مليارات لا يعلمها إلا الله أمر بسحب وإحراق كتب السلف” ص 1054.
بعد ذلك تكلم عن القضاء في الفكر والنظام الإسلامي، وعمّا توافر له من قواعد العدل؛ ليعرج على القضاء السعودي ناعياً عليه اضطرابه وفساده وعدم استقلاله: “ولو أن القائمين عليه أرجعوا كل شيء للشريعة الغراء وجعلوا القاضي مستقلاً حقاً لسلم من ذلك” صـــ 1059 وبهذا يعي الشيخ أنَّ تطبيق الشريعة في السعودية مسألة شكلية تختل فيها العدالة، يعي هذا ولا يغتر كما اغتر غيره بالمظاهر الخداعة، وأهم ما يركز عليه ضرورة استقلال القضاء؛ فيقول: “وليس القضاء تابعاً للسلطة التنفيذية ولا للديوان ولا لأحد ولقد ظل شريح قاضيا في زمن تغير فيه كثير من الخلفاء؛ وفي هذا وحده دليل على استقلال القضاء وعدم خضوعه للسلطة الحاكمة” ص ـ 1060 ولا ينتقل الشيخ من هذه المسألة حتى يصرح هذا التصريح الخطير: “وأنا أعرف بعض من عُذِّبوا ومنهم جعفر الحايك، الذي مات تحت التعذيب، وممن عذبوا: الشليل والحكمي والقحطاني، وغيرهم ممن أخاف عليه ولا أسميه، كما رأيت بعض أدوات التعذيب، ومنها الدينامو …” ص 1061
وقد يندهش القارئ من تركيزه الشديد على (ترامب) وملاحقته واستهدافه له، حتى لا يكاد يخلو فصل من كتابه من ذكر هذا الكائن الأطلسي مرات ومرات، لكنني أَرُدُّ ذلك إلى غيرة العلماء على حرمات الأمة وعلى أموالها، إلا أنه في هذا السياق يطيل الحديث عنه ويستعرض تاريخه وصفاته، فهو رجل جاوز السبعين دون أن يكون له أي خبرة سياسية، وهو من الإنجيليين الجدد المتعصبين لإسرائيل، وله فضائح جنسية يخشى من بوتن أن يخرجها على الملأ يوما، وأنَّه ملفوظ برغم نجاحه في الانتخابات من الشعب الأمريكي إلى حد أنه قامت ضده أكثر من 600 مظاهرة في ولايات مختلفة، وهو رجل تاجر متمرس يتعامل في السياسة بهذه الروح مع طمع وجشع، وهو بلطجيّ يعكس الروح الصليبية الحاقدة بتطرف شديد على الإسلام والعرب، ومن الولايات التي تكرهه كاليفورنيا التي زادها حكمه تفكيراً في خطوة الاستقلال عن أمريكا، أمَّا موقفه من السعودية فهي في نظره: “كيس فلوس ضايع!”.
وفي ختام هذه الجولة يردّ الأمر للعلماء فيقول بنبرة باكية شاكية: “أقول: نستحق ذلك لأننا سكتنا ولم ننكر المنكر، ورضينا بالحياة الدنيا من الآخرة، وما بقي إلا تكلفة بناء الهيكل، فهل تبنيه الإمارات مثلاً؟ تلك الإمارات التي تشتري البيوت من المقدسيين وتعطيها لليهود، أم نبنيه نحن ونحفر القناة بين البحر الأبيض وخليج العقبة؟ قد يقال إنّ هذا خيال، لكن أقوال ترامب نفسه لا تدع للريب مجالاً”.
هكذا الشيخ الذي نذر نفسه ليقوم بفرض الكفاية ويرفع به الإثم عن كواهل الكثيرين؛ فجزاه الله خير الجزاء، ولا ندري أهو في عداد الأحياء أم في عداد الأموات، لكنه إن عاش، عاش حميداً وإن مات، مات شهيداً، وأفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، وسيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى أمام جائر فأمره ونهاه فقتله، وأخيراً نسأل الله له ولسائر العلماء المسجونين ظلماً الفرج والسلامة. (يتبع) (*).