كيف يصير العاملون للإسلام في خندق واحد (7)

بين مُتَعَجِّلِينَ طالبين للمثالية راغبين في الانتقال السريع إلى قمة هرم الآمال، وآخرين مُستسلمين لضغوط الواقع مُعْرِضين عن التقدم ولو خطوة واحدة نحو المثال، بين هذين الفريقين الواقفين أبدا على طرفي نقيض تقف الحقيقة الواقعية الموسومة بالوسطية والاعتدال، تقف ثابتة تدعمها القواعد الشرعية والضوابط المرعية، لا تميل ولا تميد؛ لأنّها – بما يحوطها من قواعد وضوابط – اكتسبت صفة الرسوخ.

هذه الحقيقة لها شقان متعانقان متكاملان، الشقّ الأول: هو أنّ الدين الإسلامي يسر، وأنّ شريعته السمحة بريئة من العنت والآصار والأغلال: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) (الحج: 78)، (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة: 6)، والشقّ الثاني هو أنّ هذا الدين اليسر السمح له طبيعة وصبغة تمنع من تمييع شرائعه اتكاءً على يسره وسماحته، هذه الطبيعة والصبغة هي الجد الصارم، فالإنسان عبد مكلف لا يسعه تجاه ما شرعه الله تعالى إلا التسليم والإذعان بلا تردد ولا تلعثم: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) (الزمر: 54)، ولا يسعه تجاه ما أوحاه الله إلى رسوله إلا الاتباع بلا التواء ولا انحراف: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) (الأعراف: 3).

من هنا، من هذه النقطة المركزية ننطلق إلى غايتنا، المتمثلة في تقليل مساحة الاختلاف وتضييق هوة الخلاف ودعوة العاملين للإسلام إلى الاصطفاف إن أعجزهم الائتلاف، وذلك بإثارة القواعد الفقهية المنظمة لحال الضرورة، والتي جاءت متوازنة تشكل بمجموعها دائرة من الفقه والفهم شديدة التوازن، محورها ونقطة ارتكازها تلك الحقيقة التي أشرنا إليها آنفاً، بشقيها المتعانِقَيْنِ أبداً، واختيارنا لقواعد الضرورة له سبب وجيه ومقبول، وهو أنّ أكثر الحراك السياسي وأغلب النشاط الدعوي والحركيّ يخضع في أيامنا هذه لحال الضرورة.

والقواعد المنظمة لحال الضرورة تنتمي إلى باب واحد، رأس هذا الباب قاعدة من القواعد الكلية الخمس الكبرى، وهي قاعدة: “المشقة تجلب التيسير” وهذه القاعدة يُستَدَلُّ عليها بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة، من هذه الأدلة قول الله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185) وقوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) (النساء: 28) وقوله تعالى: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف: 157)، وعن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشئ من الدلجة”([1])، وعن أنس مرفوعاً: “يسروا ولا تعسروا، بشروا ولا تنفروا”([2]).

فالآيات أعلنت عن مراد الله تعالى من التيسير ورفع الحرج، والأحاديث فيها أمر للناس بالتيسير وعدم التنفير، ويستفاد من مجموع الآيات والأحاديث أن المشقة تجلب التيسير، واستقراء الشريعة يثبت أن الشارع الحكيم أدغم الرخص في التكاليف، وربطها بوقوع المشقة، وهذا مما يفوق الحصر، وهو من أقوى الأدلة على ثبوت هذه القاعدة، وقد عبر بعض العلماء عن هذه القاعدة بلفظ “إذا ضاق الأمر اتسع”، وهى قول للإمام الشافعي([3]).

ومن تأمل في يسر الشريعة وجده يتمثل في ظاهرتين أساسيتين، الأولى: أن أحكام الشريعة نفسها نزلت من عند الله تعالى بهذه الصفة: “سهلة يسيرة لا عسر فيها ولا حرج، فكل ما فيها من عزائم ورخص، وكل ما فيها من أوامر ونواهي، وكل ما فيها من واجب ومستحب ومباح ومكروه ومحرم، وكل ما فيها من تكاليف ينبني عليها الثواب والعقاب، كل هذا جاء من عند الله هيناً لا شدة فيه، جاء من عند الله متفق مع فطرة الإنسان، جاء من عند الله داخلاً في طوق الاحتمال ودائرة الوسع والطاقة، لا يخرج عن قدرة الإنسان ولا ينافي فطرته ولا يصدم غرائزه الفطرية أو حاجاته الطبيعية، جاء ملبياً لحاجة الروح وحاجة الجسد في تناسق وشمول وواقعية، وبأسلوب مهذب نظيف”([4]).

والظاهرة الثانية: أن هذه الشريعة برغم يسرها هذا تخللتها الرخص الفيحاء التي تلبى الأعذار، وترفع كاهلها عن أهلها، هذه الرخص المنتشرة في أنحاء الشريعة المبثوثة في أقطارها؛ تدخل جميعها تحت هذه القاعدة الجامعة “المشقة تجلب التيسير”([5])؛ ومن ثم “يتخرج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته”([6])، فإذا وقعت المشقة المعتبرة، وسببت عنتاً وضيقاً وحرجاً؛ فإن وقوعها هذا يستجلب بذاته رخص الشرع وتخفيفاته، التي ترفع المشقة وتدفع العنت وتحيل الصعب سهلاً والعسر يسراً.

 لكنّ “هذا لا يعنى أن كل مشقة تكون سبباً في التخفيف، فإن كل عمل في حياة الإنسان لا يخلو من مشقة وجهد يصاحب الأعمال الضرورية التي لا غنى عنها كطلب الرزق”([7]) وإنما المشقة المعتبرة هي التي تكون فوق العادة، ولا يتحملها الإنسان إلا بكثير كلفة، كالمرض الذي يفقد صاحبه القدرة على الصيام أو الصلاة من قيام، فإنه عذر يعطى صاحبه الرخصة في الإفطار وفي الصلاة جالساً، كما ينبغي أن نفطن إلى أمر مهم وهو “أن المشقة التي تجلب التيسير هي التي لا يكون فيها نص يدعو إلى تحملها، فإن وجد النص فلا يجوز العمل بخلاف النص؛ رغبة في التيسير، وذلك كالأمر بالجهاد وملاقاة العدو بكل قوة ودون هوادة”([8]) فجلب المشقة للتيسير “مشروط بعدم مصادمتها نصاً، فإن صادمت نصاً روعي دونها”([9]).

وينضوى تحت هذه القاعدة جملة من القواعد المتممة لعملها، الباسطة لسلطانها، والضابطة لحركتها بما لا يضر بأحكام العزيمة، هذه القواعد مع القاعدة الأم “المشقة تجلب التيسير” تشكل في مجموعها ما يسمى بنظرية الضرورة، تلك النظرية الفقهية المعنية بحال الضرورة، والضرورة مشتقة من الضرر، وهو النازل مما لا مدفع له([10])، وحقيقتها الشرعية أنّها عبارة عن: “العذر الذي يجوز بسببه إجراء الشيء الممنوع مجرى المباح”([11]).

من هذه القواعد ما يلي:

– الضرورات تبيح المحظورات.

– لا واجب مع العجز ولا حرام مع الضرورة.

– الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة وخاصة.

– الضرورات تُقدَّر بِقَدْرِها.

– ما جاز لعذر بطل بزواله.

– الاضطرار لا يبطل حق الغير

– إذا زال المانع عاد الممنوع 

– الميسور لا يسقط بالمعسور

هذه القواعد جميعها مشتقة من واحدة من القواعد الخمس الكبرى وهي قاعدة “المشقة تجلب التيسير” وجميعها تشكل بابا متماسكا لا يختلط بغيرِه ولا يختلط به غيرُه مما يندرج تحت قواعد أخرى من القواعد الكلية، غير أنّه نظرا لأنّ هذا الباب وهو باب الضرورة لا يتم عمله في بعض زواياه إلا ببعض قواعد دفع الضرر المنتمية في الأصل إلى قاعدة “لا ضرر ولا ضرار” وذلك باعتبار أنّ رفع الضرورة يلتقي مع دفع الضرر في بعض الأمور؛ فنظرا لذلك سوف نضطر إتماما للفائدة إلى إلحاق بعض قواعد رفع الضرر إلى قواعد الضرورة برغم عدم انتمائها في الأصل إليها، كما أنّنا سوف نحتاج إلى القاعدة الكبرى التي تدخل في جميع أبواب الشريعة بما في ذلك باب الضرورة وهي قاعدة “الأمور بمقاصدها”؛ وعليه فإنّنا سوف نلحق بالقواعد السابقة ما يلي من القواعد؛ لكونها جميعا تدخل في تنظيم حال الضرورة، وها هي القواعد المقترحة:

– الضرر يدفع بقدر الإمكان

– يُختار أهون الشرين

– إذا تعارضت المصالح والمفاسد قدم الراجح منها على المرجوح.

– الأمور بمقاصدها

القاعدة الأولى: “الضرورات تبيح المحظورات”[12]:

معناها “أن الضرورة وهى الحاجة الملجئة إذا حصلت للمكلف فإنها تبيح له الترخص بفعل ما حرم الله، مما يناسب ضرورته”([13]) ولكن “هذا ليس على إطلاقه، وإنما هو مقيد بعدم إيقاع ضرر بحرمات الآخرين مساو له أو أكبر مما هو واقع فيه” والأدلة عليها كثيرة منها: قول الله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل: 106)، فالإكراه الملجىء هنا ضرورة تسوغ لمن وقع فيها النطق  بكلمة الكفر، ما لم ينشرح بها صدره، وقول الله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة: 3)، أي فمن اضطر إلي أكل الميتة المحرمة بسبب مجاعة ألمت به وحالت بينه وبين الحلال جاز له أن يأكل الميتة بشرط ألا يكون مائلاً إلى إثم ولا مجاوزاً لحد الضرورة. فهنا أبيح المحرم للضرورة.

وقد وردت هذه القاعدة في كتب الفقه بألفاظ متقاربة، مثل: “يجوز في حال الضرورة ما لا يجوز في غيرها”([14]) “الضرورات تنقل الأحكام عن أصولها”([15]) “الضرورات تنقل المحظور إلى حال المباح”.([16])

القاعدة الثانية: “لا واجب مع العجز ولا حرام مع الضرورة”([17]):

هذه القاعدة بنفس معنى القاعدة السابقة، غير أن الجملة الأولى منها “لا واجب مع العجز” توسع دائرة القاعدة بجعل العجز عن أداء الواجب ضرورة تبيح ترك الواجب المعجوز عن أدائه.

ومن تطبيقات هذه القاعدة والتي سبقتها أنّ الأصل في حال القدرة والاختيار تطبيق الشريعة كاملة وعدم التراخي في تنفيذ حكم واحد من أحكامها؛ فإنْ تَوَلَّى الحاكمُ حكمَ البلاد بطريق الديمقراطية مثلا فتوجه توجها علمانيا بحتا، ولم يصدر منه حال قدرته مبادرةٌ إلى تطبيق شيء من شرع الله، ولم يَبْدُ منه أنّه يقود الأمة بكتاب الله؛ فإنّه يفقد شرعيته بذلك، و”أما إن كان الحاكم متوجهاً لإقامة كتاب الله والسعي لجعل الدستور إسلامياً، وإنما قَبِلَ بالنظام الديمقراطي مضطراً؛ باعتباره السبيل المتاح لخدمة الدين، مستحضراً أن الأغلبية في بلاد المسلمين ستكون مع إقامة كتاب الله وتحكيم شريعته، ومع السعي نحو دستور إسلامي، وإذا شرع هذا الحاكم بالفعل في تطبيق ما يمكنه من شرع الله، فهذا ولايته باقية ويجب إعانته والسمع والطاعة له في غير معصية، وعدم إهدار مقصده ونيته والمعلوم عنه من نصرة الدين والتضحية وتحمل الابتلاء من أجله، ومن المعلوم أن سواد أهل العلم قد أفتوا بمثل هذا في دخول مجلس الشعب اعتماداً على المقاصد والنيات مع غلبة الظن برجحان المصالح على المفاسد مع كونه في الأصل مجلساً يقوم على تشريع البشر للبشر فكذلك هنا، وقد صدّر العلامة ابن باز رحمه الله فتواه في دخول مجلس الشعب بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : “إنما الأعمال بالنيات” و ذلك حين سُئل عن شرعية الترشيح لمجلس الشعب وحكم الإسلام في استخراج بطاقة انتخابات بنية انتخاب الدعاة والإخوة المتدينين لدخول المجلس؟ فأفتى سماحته بقوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنما الأعمال بالنيات، و إنما لكل امرئ ما نوى”، لذا فلا حرج في الالتحاق بمجلس الشعب إذا كان المقصود من ذلك تأييد الحق، وعدم الموافقة على الباطل، لما في ذلك من نصر الحق والانضمام إلى الدعاة الصالحين، وتأييد الحق وأهله، والله الموفق”([18]).


الهامش

([1]) أخرجه البخاري ك الأيمان  باب الدين يسر برقم 39ج 1 صـــــ  139

([2]) متفق عليه، البخاري برقم69 ج1 ص239, ومسلم برقم7/1733 ج12 صـــــ401.

([3]) ر: الأشباه والنظائر للسيوطى صــــــــ171.

([4]) يسر الإسلام حجة على الأنام، للكاتب – طبعة خاصة – القاهرة 1997م ص36.

([5]) الأشباه والنظائر للسيوطى ص160، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص830 المنثور للزركشي 3/169، مجلة الأحكام العدلية م/17.

([6]) شرح الكوكب المنير 4/445.

([7]) المقاصد الشرعية في القواعد الفقهية ص 140.

([8]) القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه صـــــ 84.

([9]) شرح القواعد الفقهية صـــــــ 157.

([10]) التعريفات للجرجاني صـــ 138

([11]) درر الحكام في شرح مجلة الأحكام (1/ 37)

([12]) مجلة الأحكام العدلية م/21، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص93، الأشباه والنظائر للسيوطى ص173 المنثور للزركشي 2/317.

([13]) القواعد الفقهية الخمس الكبرى ص284.

([14]) الأم للشافعي 4/168.

([15]) المعيار المعرب للونشريسي 6/312.

([16]) التمهيد لابن عبد البر المالكيّ 17/319.

([17]) إعلام الموقعين لابن القيم 2/41، القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه ص 92.

([18])  معوقات تطبيق الشريعة لمناع القطان(ص:166)نقلاً عن مجلة لواء الإسلام ، العددالثالث،ذوالقعدة1409هجرية-،ملف الانتخابات ص:7 بالملحق