وطن ينتحر: ليس كل منتحر يخلد في النار

أتعجبون من أن يقال في كل يوم: هذا شاب قد انتحر؟! لَكَأَنَّ كُلَّ ذرة في تراب مصر تنتحر! كيف لا؟ ومصر نفسها قد فقدت ذاتها، وأضاعت هُويتها، ولم تعد لأهلها حضنا دافئا ولا مستقرا آمناً، ولم يعد فيها لمن يقطنها طمأنينة ولا سكن! نيلها من منابعه اختنقق، وزرعها من الظمأ ومن خطايا أولى الأمر احترق، سماؤها دخان وغبار وأخبار عن الحاضر والمستقبل تطوف في الآفاق تطواف الغربان، وأرضها من الضجر والضيق ما عادت تطيق، تكاد تلقي من يدب على ظهرها من البشر في عرض البحر أو في متسع الفلوات؛ فإذا رأيت الشباب ينتحرون فلا تتعجل بالحكم عليهم بسوء المصير؛ فإنّهم لم يلقوا بأنفسهم إلى التهلكة إلا وقد أحدقت بهم المهالك من كل جانب، وأخذت عليهم كل سبيل.

    ولست هنا في موقف التبرير، وإنّما في مقام البيان التفسير، فلا ريب أنّ قَتْلَ الإنسانِ لنفسه خطيئةٌ كبيرة وجريمة خطيرة؛ لأنّ هذه النفس التي أزهقها لا يملكها أصلا، ولا سلطان له عليها؛ فلا سبيل له إلى التصرف في شأنها بما يخالف المنهاج الذي وضعه خالقها وباريها، ولأنّ فِعْل القتل في ذاته – ولو لم يكن متعديا إلى الغير – جريمة بشَّعتها الشريعة، وحذر منها الوحي المعظم، ولأنّ النفس الإنسانية مصونة في أصل الفطرة وفي حكم الشريعة، إضافة إلى كون المنتحر دَلَّلَ بانتحاره على سلبيته وضعف إيمانه وهشاشة عقيدته وانقطاع حبل رجائه عن لله تعالى، فقتل النفس جريمة لا ريب في ذلك، إلى حدّ أنّه “لا خلاف بين الفقهاء في أنه إذا لم يمت من حاول الانتحار عوقب -تعزيراً- على محاولته الانتحار، لأنه أقدم على قتل النفس الذي يعتبر من الكبائر”([1]).

ليس كل منتحر يموت كافراً

   غير أنّني لا أحبذ المبالغة في الترهيب إلى الحدّ الذي يزيف الحقائق ويغير الأحكام، فليس كل منتحر يموت كافرا، وليس كل منتحر يخلد في النار، وإنّما يخلد في النار لكفره من تلبس أثناء انتحاره باعتقاد فاسد أو بما يخرج من الملة، كالسخط على قضاء الله، أمّا من غلبته نفسه، واستولى عليه اليأس من الحياة، أو الجزع مما توالى عليه من المصائب، أو الهرب من مواجهة فاجعة أو فضيحة، أو ما شابه ذلك؛ فإنّه مرتكب لكبيرة من أغلظ الكبائر، وهو من أهل القبلة، ويصلَّى عليه عند الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية، ويُدفن في مقابر المسلمين، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ترك الصلاة عليه فإنما وقع ذلك منه على هيئة الزجر لمن تسول له نفسه أن يصنع مثل صنيعه؛ لذلك أمر الناس أن يصلوا عليه، وقد خَرَّج مسلم حديث جابر وبَوَّبَ له بقوله: (باب: الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر) وساق الحديث: عن جابر قال: “… فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه، فاجتووا المدينة، فمرض، فجزع، فأخذ مشاقص له، فقطع بها براجمه، فشخبت يداه حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه، فرآه وهيئته حسنة، ورآه مغطيا يديه، فقال له: ما صنع بك ربك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لي أراك مغطيا يديك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت، فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم ولِيَدَيْهِ فاغفر»([2])، وعلق النووي في شرحه للحديث قائلاً: “من قتل نفسه أو ارتكب معصية غيرها ومات من غير توبة فليس بكافر ولا يقطع له بالنار بل هو في حكم المشيئة”([3]).

أبناء الوطن

    فهؤلاء أبناءَ وطننا الذين اختاروا لأنفسهم ألا يكملوا (المشوار) وفضلوا على العيش الموتَ والانتحار، هؤلاء في مشيئة الواحد القهار العزيز الغفار، ولا نظن بهم أنّهم أفضوا إلى ربهم قانطين من رحمته؛ لذلك نترحم عليهم مثلما نترحم على موتانا، وبدلا من الخوض في الغيب بلا علم ولا هدى ننظر في الأسباب والدوافع؛ ونتخذ من الحوادث منصات للانطلاق إلى التغيير المنشود، فهؤلاء لم يهدروا حياتهم عبثاً، ولم يتلفوا أنفسهم لعبا ولهوا، إنّهم لم يقدموا على هذا الخطب الذي لا يوجد تحت قبة السماء ما هو أفدح منه إلا لأنّ طريق حياتهم أفضى بهم إلى نفق مسدود، وفي هذا الطريق يمضي الجيل الحرّ كله، غير أنّ الفرق فقط في مقدار صبر الإنسان وقوة احتماله، وفي هذا يتفاوت الخلق تفاوتاً عظيماً، لذلك إن قلت إنّ هؤلاء الذين قتلوا أنفسهم لم تكن أيديهم التي باشرت الجريمة سوى الزناد الذي ضغطت عليه أصابع النظام .. إن قلت ذلك لم تكن راكبا متن الشطط.

    إنّ الشيء الوحيد الذي يدفع للانتحار هو أن يستولي على المرء شعور بأنّ الموت خير من الحياة، وهذا الشعور لا يتأتى للإنسان إلا بانسداد الآفاق كافّة، وضياع الآمال جملة، وخراب الحاضر والمستقبل جميعاً، وهذا هو الواقع في مصر تحت ظل الحكم العسكريّ الفاشي الفاشل، الحكم الذي يكفر بالحرية كفر سادات قريش بالقرآن، ويعادي المواطن الكريم الذي لا يحسن النفاق معادة اليهود لعباد الرحمن، ويجتهد في سرقة أقوات الناس ولا يألو، ويكاد من نهمه أن يبيع لهم الهواء الذي يتنفسونه، وأن يصادر عليهم حق النوم بالليل والسعي بالنهار.

ماذا يفعل؟

    ماذا يفعل طالب الجامعة بشهادة التخرج إذا كان سيخرج بعدها إلى البطالة والفراغ؟! وماذا عساه يصنع بما تعلمه إذا كان في النهاية سيعمل على (التوكتك أو عربة الخضار)؟! وما جدوى السعي بالليل والنهار والعشي والأسحار إذا كان الفقر له رفيقاً والدين له صديقاً؟! وكيف نفهم الإصرار على دفع فقر لا يندفع والخلاص من ديون لا خلاص منها ولا مناص؟! كلها دوائر من الهم والغم تحيط بالجيل كله؛ فلو قلنا إنّ مصر صارت سجنا لشعبها تضيق جدرانه كل يوم عليهم حتى ليكاد السقف يخر فوق رؤوسهم لما كنَّا مبالغين ولا مجانبين للاعتدال.   

    لكن دعنا من ذلك كله؛ وحدثنا عن أثر هذا الفعل على الحياة والأحياء، فو الله لو علم المواطن الذي هانت عليه نفسه فقتلها ليتخَلَّص من همومه أنّه بذلك يُخَلِّصُ عدوه لا نفسه لما أقدم على فعلته ولا دَنا منها، إنّه في الواقع خَلَّص عدوه وعدو وطنه ودينه وقومه، خلصه من نفس لو عاشت لكانت حربا عليه، ومن نسمة لو كُتب لها عُمْر أطْوَلَ لأخذت من أعمار الظالمين وأقدارهم، ومن إنسان لو ظل يدب على الأرض لكان وقع قدميه هاجساً يصول ويجول في قلوب الطغاة، لذلك فإنّ القرار السديد لمن وصلت به الحياة إلى طريق مسدود أن يتشبث بالبقاء، وأن يقاوم الفناء؛ لتحيا الأمة بحياته ولا تموت بموته، يتشبث بالحياة ولو كانت مُرَّةً حتى لا يذوق عدوه وعدو وطنه الشَّهْدَ بموته وفَوْته، يتشبث بالعيش ولو كان صعبا حتى لا يَسْهُلَ على عدوه وعدو وطنه أن يحمل على الجيل كله ليسلك ذات المسلك الانهزامي التراجعيّ الذي سلكه بانتحاره، فوالله لا يبالي المجرمون بأن يموت نصف الشعب، ولولا أنّ وجود شعب يهبهم ميزة الحكم وخاصية السلطة لأحبوا موته كله وتمنوا فناءه عن آخره.

    إنّنا بقتلنا لأنفسنا نقتل الأمل في قلوب النشء، ونبعث النشوة في قلوب الطغاة البغاة، ونكرس للسلوك السلبي الانهزاميّ، ونخلق صورة تراجيدية مأساوية للنرجسية، صورة غارقة في سحب من السراب الخادع، فليس على مثل هذا تبنى الأمم وتحيا الشعوب وتنجح الثورات وتشيد الحضارات، إنّما يصنع ذلك كله التحرك الإيجابيّ الواعي، مع التسلح بالإيمان والعقيدة، والله تعالى لا يخذل عباده إذا هم أخذوا بالأسباب وتوكلوا عليه (ومن يتوكل على الله فهو حسبه؛ إنّ الله بالغ أمره، سيجعل الله بعد عسر يسرا).    


([1]) الموسوعة الفقهية الكويتية (6/ 292)

([2]) صحيح مسلم (1/ 108)

([3]) شرح النووي على مسلم (2/ 132)