سلسلة تطور النظريات السياسية .. النظريات والنظم السياسية القديمة (1)

توطئة
حدثنا القرآن الكريم عن أمم وحضارات، وعن دول ومدينات، ولم نجد في سياق القرآن الكريم ما يدل على أنَّ ثمَّ تطورًا مطَّرداً سلكته البشرية صعوداً في درج السياسة من البداوة إلى الحضارة، وإنما وجدنا في القصص القرآني الدولتين المتعاصرتين بينهما تباين شديد وفرق أكيد.

فهاتان – مثلاً – حضارتان عظيمتان لدولتين عظيمتين:

الأولى: دولة سبأ: ﴿إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم﴾ (سورة النمل آية 23)
الثانية: دولة داود وسليمان عليهما السلام: ﴿وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء﴾ (سورة النمل آية 16)،
فكلا الدولتين أوتيت من كل شيء من أسباب المكنة والقوة.

فأما حضارة سبأ فقد قامت لها دولة على ديمقراطية شكلية وشورى صورية، فها هي بلقيس تقرر الشكل المبهر: ﴿ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون﴾ (سورة النمل آية 32)، وها هم رجال دولتها يقررون المضمون المتعثر: ﴿نحن أولو قوه وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين﴾ (سورة النمل آية 33)؛ فلو كان الأمر يدار بشورى حقيقية ما جاء جوابهم على هذا النحو الذي يعد تفويضا مطلقاً.

وأما دولة داود وسليمان فقد أسست من أول يوم على دعائم راسية وأسس راسخة: أولها: الاتصال بالله تعالى، قال تعالى: ﴿ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ ﴾ (سورة ص الآيات 17-20)، ثانيها: العلم والحكمة: ﴿ولقد آتينا داود وسلميان علما﴾ (سورة النمل آية 15)، ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ (سورة ص آية 20)، ثالثها: العمل: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ﴾ (سورة سبأ آية 13)، ﴿ يعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ﴾ (سورة سبأ آية 13)، رابعها: التكنولوجيا: ﴿ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ﴾ (سورة سبأ آية 11)، خامسها: العدل، ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ (سورة ص آية 26)، ﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ (سورة الأنبياء الآيتان 78،79)

ولما وقع الصدام بين الحضارتين المتعاصرتين انتهى هذا الصدام بسيادة الإسلام، ﴿ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ (سورة النمل آية 44)، والذي حكاه القرآن وقرره هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ونحن لا نرتاب لحظة في أن دولة العدل لم تنشأ عن تطور حدث في مراحل نمو البشرة، وإنما دولة العدل قديمة بقدم هذا الإنسان، ملازمة له منذ مولده، وما حدث من تطور أو تغيير في الأفكار والنظم غير الإسلامية فإنما هو اجتهاد بشري يخطئ ويصيب، فبقدر ما يقترب من منهج الله تكون إصابته وبقدر ما يبتعد عن منهج الله يكون خطؤه وعواره.

النظريات والنظم السياسية القديمة
السياسة في الحضارات القديمة
إذا ذكرت المدنيات القديمة جاءت الحضارة الفرعونية في مصر القديمة في المقدمة؛ بعمقها التاريخي، وتميزها عن غيرها بما كان فيها من علوم وعمارة، فهل كان الفكر السياسي والنظم السياسية على نفس المستوى الذي بلغته في العلوم والعمارة والطب والتحنيط وغير ذلك مما برع فيه المصريون القدماء؟

لقد بدأ الفكر السياسي يتبلور في عصر الأسر الفرعونية، وساد في مصر آنذاك فكرة الملك الإله الذي كان هو الدولة وهو القانون، وكان هو الواسطة بين كل الناس وبين الإله أو الآلهة، وكان للملك وزراء يقومون بإدارة البلاد باسمه، وكان للأقاليم أمراء يديرون مقاطعاتهم بأمر الوزراء وكان المجتمع منقسمًا إلى طبقات، أعلاها طبقة الملك الذي لم يكن له كفء ولا مماثل، ولم يتغير هذا الفكر حتى في ظل الدولة الفرعونية الحديثة التي جاءت بعد طرد الهكسوس؟ اللهم إلا بعض التطور المرتبط بالظرف التاريخي والذي تمثل في فكرة الوحدة الوطنية التي جعلت مصر بشطريها الشمالي والجنوبي دولة واحدة([1]).

وعلى أرض الهند قامت حضارة قديمة، قوامها التعددية والطبقية، وقامت فيها نظرية سياسية على فكرة العلاقة العقدية بين الحاكم والمحكوم، وإن كان الفكر السياسي هناك يضفي على الملك صفة القداسة، غير أنه لا يمنع من مقاومته، ولا يعترف بمبدأ مسئولية الملك أمام الله وحده، ولا أن الحق الذي يكتسبه بالميلاد لا يمكن فقده.

وقد عرف في هذا الفكر أن الدولة وحدة ذات أعضاء، وأن كل عضو فيها يؤدي وظيفة معينة، لم يحددها قانون أو مؤهلات، وإنما حددتها المشيئة الإلهية، ومن هنا نشأت الطبقية وتجذرت في الفكر السياسي الهندي، وكان لها دور كبير في صياغة القوانين التي جاءت ملبية لهذه الطبقية، تأصلت ومدت جذورها في التربة الهندية الشديدة التناقض والتعقيد([2]).

وعلى مقربة من الحضارة الهندية زمانًا ومكانًا كان الفكر السياسي الصيني باسطًا ظلاله على شرق القارة الأسيوية، بسماته الثلاث: العلمانية، والعملية، والاكتفاء الذاتي، وكان فكر كنفوشيوس ومن بعده منشيوس وقودًا للحراك السياسي في الصين في تلك العصور، وكان كل منهما تحرريًا، إصلاحيًا مستنيرًا، دعايًا إلى صلاح الملوك، مقررًا أن صلاح الممالك من صلاح الملوك، داعماً لفكرة بناء الحكم على الأخلاق والمثل والفضائل؛ غير أن الدين لا علاقة له بالسياسة في فكر كنفوشيوسي وخلفه ([3]).

النظم والنظريات السياسية عند الإغريق:
وفي شبه جزيرة البلقان قامت الحضارة الإغريقية ذات الحواضر السياسية، قامت محتضنةً أساطين الفلسفة الإغريقية: سقراط وأفلاطون وأرسطو، أولائك الكبار المشاهير الذين كان لهم الصيت الذائع في الفلسفة والمنطق، والسياسة والأخلاق والاجتماع.

وفي عدد من مدن الإغريق قامت دولة المدينة، وكان أشهر تلك الحواضر: أثينا وأسبرطة، وقد كانت دولة أثينا – كمثال – تقوم على نظام له دعائم أساسية:

أولها: الطبقية، فقد كان المجتمع منقسمًا إلى ثلاث طبقات؛ طبقة المواطنين الذين لهم وحدهم حق الممارسة السياسية، وطبقة الأجانب، وطبقة الرقيق.
ثانيها: الديمقراطية المباشرة، التي قامت على أساسين؛ الأول: الإيمان بالمناقشة كوسيلة لحل المشكلات، الثاني: احترام القانون، وكان يعيبها أنها كانت قاصرة على طبقة المواطنين دون غيرهم، وأنها لم تكن ترعى سوى الحقوق السياسية.
ثالثها: النظام السياسي الذي كان مكونًا من أربعة مؤسسات، الأولى: الجمعية، وتضم جميع المواطنين الذكور الذين أتموا عشرين سنة، وهذه الجمعية تعتبر عندهم السلطة التشريعية، الثانية: المجلس، ويتكون من خمسمائة عضو، من كل قبيلة من القبائل العشر خمسون عضوا، وهذا المجلس يعتبر عندهم، السلطة التنفيذية المركزية، الثالثة: المحاكم، وهي تمثل السلطة القضائية، الرابعة: الحكم المحلي، حيث قسمت أثينا إلى حوالي مائة قسم، كل قسم له حكم محلي لامركزي([4]).
وكان المجلس المكون من خمسمائة عضو (السلطة التنفيذية) يقوم بإعداد المشروعات التي ستناقش أمام الجمعية العمومية لإقرارها، وكانت إدارة هذا المجلس تجري بالتناوب بين ممثلي القبائل العشرة، حيث يقوم ممثلو كل قبيلة من القبائل العشرة بقيادة المجلس عشر أيام السنة، ومعهم ممثل عن كل قبيلة من القبائل التسع الأخرى، وينتخبون كل صباح يوم واحداً منهم يقودهم. ([5])

ولقد آمن الاثينيون بأن المناقشة هي أفضل وسيلة لإعداد المسائل السياسية وتنفيذها، كما سلموا بأن قوام حرية المواطن هو حقه الطليق في الإقناع والاقتناع، وأدركوا أن الحرية ليست مطلقة، بل مقيدة باحترام القانون، وفرقوا بين قيد يفرضه حاكم بطريقة تحكمية، وقيد يأخذ الفرد نفسه به لعلمه بأن القانون حين نص عليه إنما تضمن أمراً خليقاً بالاحترام والطاعة. ([6])

هذا هو الواقع السياسي الذي سبق مجيء فلاسفة الإغريق الكبار، والحقيقة التي لا يصح إغفالها هي أن النهضة الفكرية في أثينا كانت سابقة لمجئ فلاسفتها الكبار؛ إلى حد أن معظم الأفكار السياسية التي تناولها أرسطو وأفلاطون كانت قد تبلورت في أثينا منذ القرن الخامس قبل الميلاد، غير أنها لم تكن في منظومة فلسفية متناسقة. ([7])

هكذا كانت أثينا في ظل النظام الديمقراطي، ولا ندري – على الحقيقة – ما مدى أثر هذا النظام في حياة الاثينين، لكن الذي ينقله لنا التاريخ بصدق هو أن اثنين من الثلاثة الكبار انتقد الديمقراطية ونادي بنظرية مخالفة لها، ويرى البعض أن السبب في هذا هو هزيمة أثينا في حربها مع أسبرطة (حرب البيلويونيز)؛ الأمر الذي مثل صدمة كبرى هزت قناعات الكثيرين بأن الديمقراطية يمكن أن تنتج نظاما قويا متماسكا، لكنه تبرير غير كاف؛ فلقد كان الاثينيون يفاخرون بالديمقراطية في قلب الهزيمة، فهذا زعيمهم (بريكليس) وهو يلقي خطبة رثاء في ذكرى شهداء العام الأول للحرب تفيض خطبته ثناء على الديمقراطية ومفاخرة بما كانت أثينا تموج به من حريات وحقوق وعدالة في ظل الديمقراطية،([8])

ثم كلا الفيلسوفين أسباباً موضوعية تؤكد – على أقل تقدير – أن وقع الهزيمة لا ينفرد بتبرير نقدهما اللاذع للديمقراطية، فسقراط انتقدها لكونها تفترض أن أي إنسان يصلح لشغل أيّ منصب، ورأى ان انقاذ الدولة يجب أن يكون على يد الفيلسوف([9])، وأفلاطون راى أن من أخطاء الديمقراطية عدم الكفاية، واعتمادها على النظام الحزبي الذي يتميز بالقسوة والانانية ويعلي مصلحة الحزب على حساب مصلحة الوطن. ([10])

نظرية أفلاطون:
كان أفلاطون متأثراً بالواقع السياسي الأليم الذي راح ضحيته أستاذه سقراط، وكان كذلك متأثرا بالفكر الفلسفي الذي ينحو إلى المثالية، فجاء فكره السياسي آخذاً هذا المنحى المثالي، لذلك حاول أفلاطون في كتابه (الجمهورية) أن يضع تصوراً للدولة المثالية، دون أن يعني نفسه بالإجابة على هذا السؤال: هل يمكن تحقيقها في الواقع أم لا؟ لذلك جاء تصوره في شبابه مثالياً، مغرقاً في الخيال مجافيا للواقع.

وقد انبنى التصور الأفلاطوني للدولة على أساس أن المعرفة أصل الفضيلة؛ ومن ثم فإن سيادة المعرفة – لا سيادة القانون – كانت هي الأصل الذي قامت عليه الدولة المثالية في كتاب (الجمهورية)، وكان الحاكم في هذه الدولة هو الفيلسوف؛ لكونه – إلى جانب معرفته للحق – يتصف بالصدق ومحبة الحق وكراهية الزيف([11])، الذي يحكم بموجب معرفته لا بموجب القانون، وزيادة في الخيال الذاهب في الأفق أدخل على هذه الدولة المثالية فكرة الشيوعية فألغى الملكية والأسرة؛ لتتحقق العدالة التامة عن طريق خضوع جميع الأفراد لحكم الحاكم الفيلسوف؛ وحده لا شريك له!!

هذه هي الدولة المثالية التي صاغها أفلاطون في شبابه خيالاً فلسفيا، في كتابه (الجمهورية)، لكنه في شيخوخته أدرك أن تحقق الدولة المثالية تلك أمر غير مستطاع في واقع البشرية؛ فراح يعيد المحاولة ليقترب من الواقع شيئاً ما، وذلك في كتابيه (السياسي)، (والقوانين)، تراجع فيهما عن مبدأ سيادة المعرفة واقترب من مبدأ سيادة القانون، وسماها الدولة المختلطة أو الدولة المتوازنة، ولم يعتبر ذلك تحولاً ولا ارتدادًا عن فكرته الأولى، وإنما اعتبر ذلك بديلاً أقل منزلة وأنزل رتبة عن الدولة المثالية ([12]).

اهتم أفلاطون في كتابه الأول ( الجمهورية ) بمبدأ هام، وهو مبدا تقسيم العمل والتخصص التكاملي، فكل إنسان موهوب في جانب، واستعماله فيما هو موهوب فيه أجدى وأكثر نفعاً، ودور الدولة يكمن في كفالة تحقيق التبادل بطريقة عادلة وبتقسيم الأعمال حسب التخصات بما يحقق النمو والتكامل والازدهار.([13])

ولقد حاول أفلاطون تطبيق نظريته المثالية قام في النصف الثاني من القرن الرابع قبل الميلاد برحلتيه الشهيرتين إلى سراقوسة لمساعدة صديقة (ديون) في تربية وتثقيف الملك الصغير (ديونسيوس) الذي فجع أفلاطون في آماله حيث لم يكن قابلاً لهذا النوع من التعليم الأفلاطوني العالي في تعاليمه ومثاليته([14])

وفي تجربته الثانية التي جاءت في شيخوخته حاول أفلاطون في كتاب القوانين الجمع بين مبدأ الحكمة في النظام الملكي ومبدأ الحرية في النظام الديمقراطي، فأخرج نظرية الدولة المختلطة، التي تأتي عنده في المرتبة الثانية للدولة المثالية التي تحدث عنها في الجمهورية.([15])

نظرية أرسطو:
وجاء أرسطو بعد أفلاطون متأثراً بفلسفة أستاذه في السياسة، غير أن ” فكرة إقامة دولة مثالية قد قل تجانسها مع مزاج أرسطو في التفكير كلما تقدم به العمر”([16]) لذلك لم يلبث أن استقل بفلسفته؛ ليقيم نظرية الدولة الدستورية؛ التي تقوم على أساس سيادة القانون، ولم يعترف بحكم الفيلسوف، واعتبره صورة من صور الاستبداد السياسي، ولم يعترف كذلك بسيادة المعرفة، واهتم بالحديث عن الدساتير وأنواعها، وعن أقسام الدستور ومكوناته، وكيفية تنظيمه لسلطات الدولة ولأوضاع المواطنين فيها”([17])

كما إنه وثب وثبه أخرى حيث دافع عن الديمقراطية([18]). ولم يعتبرها – كما اعتبراها من سبقه – سيئة في كل الاحوال، ولكنه اعتبرها خاضعة للتقسيم السداسي لأنواع الحكم، ذلك التقسيم الذي ظل يحظى باحترام الكتاب زمناً طويلاً لا يقل عن احترام المناطقة لمنطقه، ونص هذا التقسيم على أن الحكم يمر بمراحل ستة، ثلاثة منها صالحة والثلاثة الأخرى فاسدة، على هذا النحو: الملكية الدستورية ثم الحكم الاستبدادي، ثم الحكم الأرستقراطي ثم الأوليجاركية، ثم الديمقراطية المعتدلة ثم ديمقراطية الغوغاء. ([19])

وخلاصة ما تميز به تصور أرسطو للدولة الدستورية أن الحاكم يحكم رعاياه برغبتهم، وأن الحكم يجب أن يكون دستورياً قانونياً يستهدف الصالح العام، وأن القواعد القانونية لا يصح إلا أن تكون عامة مجردة لا ترتبط بالأفراد ([20]).

والعجيب بعد هذا أن نظريتي أفلاطون وأرسطو لم يكن لهما الاثر الكبير في الحياة السياسية العملية إلى حد أن الاسكندر تلميذ أرسطو النجيب كان في حكمه على عكس فلسفة معلمه، وهكذا ” انفردت فلسفة أفلاطون وأرسطو السياسية بخلوها من أيِّ أثر مباشر عملياً كان أو نظرياً ، والواقع أننا لو حكمنا على تلك الفلسفة على أساس الدور الذي لعبته في القرنين التاليين لوفاة أرسطو لما أمكن إلا أن نعدها فشلاص ذريعاّ”. ([21])

الفكر السياسي عند الرواقيين:
تبنى الرواقيون الذين جاءوا بعد أساطين الفلسفة اليونانية (سقراط وأفلاطون وأرسطو)؛ تبنوا فكرة القانون الطبيعي، ويعني عندهم القانون الذي تحتمه طبيعة الأشياء، ويرقيه نزوع الإنسان إلى الكمال، واعتبروا أن هذا القانون الطبيعي فوق القانون الوضعي، وبنوا على ذلك فكرة الدولة العالمية.

تقوم فكرة الدولة العالمية عند الرواقيين على أساس أن الناس يعيشون ضمن جمهور واحد؛ لا ملكية ولا أسرة خاصة ولا امتياز مبني على جنس أو عرق أو مكانة أو منزلة، وأن القانون الذي يجب أن يحكمهم هو القانون الطبيعي، وأن الكل أمامه سواء، لا فرق بين حاكم ومحكوم، ولا غني وفقير، ولا مكان للرق، وإنما هي الأخوة الإنسانية.

ويعتقد الرواقيون، ومن بعدهم بعض مفكري الرومان أمثال (شيشرون) أن القانون الطبيعي مهيمن على قوانين البشر، ونسبوه إلى طبيعة الأشياء، وطبيعة الأمور، والطبيعة البشرية، وما يحتمه العقل السليم للإنسان، واعتقدوا أن مصدر هذا القانون الطبيعي هو الإله، ولكن ليس عن طريق الوحي المنزَّل على الرسل، وإنما عن طريق إلهام العقل البشري، وتنوير الفطرة الإنسانية([22]).

ولقد امتلأت كتب الرواقيين المتأخرين بالحديث عن وحدة الجنس البشري، ومساواة الناس في الحقوق والواجبات، وتساوي قيم الرجال والنساء، وحقوق الزوجات والأطفال، والتسامح مع الآخرين والإحسان إليهم، وشعور الإنسانية الذي يجب أن يشمل كل ساكني الغبراء. ([23]).

ويعتبر فكر الرواقيين – إلى جانب إبداعهم فيما يتعلق بالقانون الطبيعي والدعوة لدولة عالمية – يعتبر مرحلة انتقالية خصبة بين الفكر اليوناني والفكر الروماني، وحلقة وصل جيدة التوصيل بينهما، ومن النظريات التي تأثر فيها الرواقيون بالفكر اليوناني وأثروا بها في الفكر الروماني نظرية دورة التاريخ وتفاعل الدساتير التي بدأها أرسطو ثم أخذها ( شيشرون ) عن ( بوليبوس ) وهي النظرية التي تقضي بأن التطور السياسي ينقل عبر دورة سداسية؛ من ملكية صالحة إلى حكم فرد مستبد، إلى حكم أرسطقراطي ( حكم طبقة مثقفة راقية ) إلى أوليجاركية ( حكم طبقة الأغنياء ) إلى ديموقراطية معتدلة، إلى ديمقراطية الغوغاء، وهي على – أيّ حال – نظرية مستقاة من بيئة واحدة هي دولة المدينة.([24])

السياسة عند الرومان:
تأثر الكتاب الرومان بفكر الرواقيين قبلهم، فاعتقدوا بأن هناك قانوناً أقدم من القانون الوضعي، وأن هذا القانون متولد من الطبيعة البشرية وموافق للعقل الإنساني، وأشهر هؤلاء (شيشرون)، الذي صب أفكاره السياسية في كتابية: (الجمهورية) و(القوانين)، وفهم شيشرون الدولة على أنها كيان له شخصية معنوية تضم مجموعة أفراد يملكون الدولة وقانونها بالمشاع ([25]).

وإذا كان شيشرون صاحب فضل على الفكر الروماني فإن فضله يتعدى الدولة الرومانية إلى الغرب الأوربي كله؛ لما قام به من جهد؛ حيث صاغ نظرية الرواقيين في القانون الطبيعي لتنحدر عنه عبر الدولة الرومانية إلى الفكر الأوربي، الذي ظل يقتاتها زمناً طويلاً ويبني عليها فكره الرامي إلى تحرير الإنسان وحماية حقوقه.

ومن الأمور التي سهلت دخول فكرة القانون الطبيعي على الدولة الرومانية، ويسرت تآلفه مع القانون الروماني الوضعي أن الدولة كانت مترامية الأطراف وكانت تحكم قطاعات من الأرض متباعدة ومتباينة في ثقافاتها وطبائعها وعاداتها، فجاء القانون الطبيعي ليكون قانون الامبراطور، الذي يعلوا فوق القانون الوضعي، ويتدخل لعلاج اختلال العدل الذي ينجم عن عدم قدرة القانون الوضعي على تحقيق توازن بين هذه الأطياف من الشعوب، ثم زادت حاجة الدولة الرومانية إليه مع بداية تكوين امبراطورية الله، لدى اعتناق الدولة للديانة المسيحية التي لم تكن تشتمل على تشريعات تنظم العلاقات على أساس تعاليم الدين الجديد.([26])

واقتبس الرومان كثيرا من الفلسفة السياسية الإغريقية، وأضافوا إليها مبادئ علموها من معالجة ما واجههم من مشكلات؛ ففصلوا الفرد عن الدولة، وجعلوا لكل منهما حقوقاً وواجبات، وكانت الفكرة الأهم هي أن السلطة للشعب يتسلمها الإمبراطور بالتوكيل([27]).

لكن هذه المبادئ عند التطبيق شابها كثير من الانحراف، والتزوير، وإذا كانت الدولة الرومانية قد تميزت بأنها دولة القانون، فإن القانون فيها كان ملبياً لرغبات ونزوات الملوك والأباطرة، ولقد قام النظام السياسي الفعلي في الدولة الرومانية القديمة على أساس تركيز السلطة في يد أقلية من الأسر الأرستقراطية، ونظراً لاتساع الإمبراطورية فقد تم تقسيمها إلى مقاطعات، لكل مقاطعة حاكم روماني له صلاحيات ليست بالقليلة ([28]).

وفي حوالي سنة 500 قبل الميلاد استطاع الشعب أن ينتزع حق المشاركة في السلطة؛ فقامت جمهورية على أساس ديمقراطي، حتى جاء عصر يوليوس قيصر، فأدار الإمبراطورية إدارة دكتاتورية عسكرية، ثم لم يزدد الأمر مع مرور الزمن إلا تدهوراً، حتى صارت للملك صفة مقدسة بإسناده سلطته إلى أصل إلهي ([29]).

وفيما عدا ما كتبه شيشرون؛ لم يشتهر العصر الروماني بالفلاسفة المنظرين للنظم السياسية، ولكن شروح قانونهم العظيم كانت تحوي الكثير من الآراء السياسية، فلقد دون رجال القانون القانون الروماني ثم عكفوا على شرحه وانكبوا على بيان أصوله، وطعموا شروحهم بالكثير من الآراء السياسية، لاسيما ما يتعلق منها بحقوق الأفراد وتسويغ سلطة الحاكم وغير ذلك، وطغى عليهم الاهتمام بفكر الرواقيين وفلسفة شيشرون، وبالرغم من أن البنيان القانوني للدولة الرومانية لم يبلغ تمامة إلا بعد بداية العصر المسيحي إلا أن المؤكد تاريخياً أن تلك الأفكار والمصطلحات السياسية لم تكن – قط – من نتاج المسيحية، وإنما كانت في صميمها تراثاًرواقياً خالصاً، وليس هناك دلائل تشير إلى وجود أي أثر للفكر المسيحي ولا للجماعات المسيحية في فقهاء التشريع الكبار خلال القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد، وقد نستطيع تلمس الأثر المسيحي كمرحلة متأخرة في أيام قسطنطين وما بعده، ولكن هذا الأثر لم يكن متماشياً مع الاتجاهات التي تبدت في ثنايا شروح القانون الروماني، وإنما انحصر الأثر – فقط – في العمل على إيجاد وضع قانوني للكنيسة ورجـالها، ” ولتحقيق الدقة في التاريخ؛ فإنه لا يوجد ســبب لاعتبار عصر المســيحية بداية مرحــلة جديدة في الفكر السياسي”.([30])

ومع دخول قسطنطين في المسيحية تحولت الدولة الرومانية رسميا إلى المسيحية، ولم يكن قسطنطين مخلصاً في اعتناقه للمسيحية، وإنما كان يهدف إلى بناء إمبراطوريته على أيديولوجية تقدر على توحيد أطرافها المترامية على فكر واحد ووجهة واحدة؛ وفي ذات الوقت يستمد سلطته من مصدر لا ينازع في عصمته وفوقيته أحد؛ لذلك لم يسمح للمذاهب النائية عن التثليث بالغلبة ولم يعطها حتى حق التعبير عن نفسها، ” ومن الحقائق التاريخية الثابتة أن أثر قسطنطين كان حاسماً في هزيمة الآريوسيين في مجمع نيقية، ومع ذلك فلا شك أنه ما من مسيحيٍّ يستطيع أن يؤمن – دون مســاس بعقيدته – بأن فكرة الثالوث إنما فرض قبولها بمرســوم إمبراطوري” ([31]).

ولكن سيف القدر عاجل الإمبراطورية العملاقة؛ فلم تهنأ بزواجها مع المسيحية طويلاً، فها هي تتعرض لموجات عاتية من الهجمات البربرية للجرمان الذين نجحوا في إسقاط الإمبراطورية الكبرى في القرن الخامس الميلادي، وكان لسقوط روما تحت هجمات القوط البربرية ضجة وهزة في أركان العالم الروماني، إذ فقدت روما مكانتها وسمعتها، وانتشرت أنباء الكارثة في العالم؛ وبدا للكثيرين أن نهاية العالم قد دنت، وشاع بين الناس نظرية تقول: إن المدينة الخالدة التي احتفظت بأباطرتها الوثنيين كان ينبغي أن تسقط عندما اعتنق أحد حكامها الديانة المسيحية، وأقبل الناس بعضهم على بعض يتسائلون: أهذا هو كل ما استطاعت المسيحية أن تقدمه لروما ؟! ([32])

ومع سقوط الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي تحت مطارق الغزو الجرماني وهجمات البربر؛ طويت صفحة من تاريخ الفكر الإنساني؛ لتبدأ مرحلة من الانحدار والانحطاط الفكري مع بداية العصور الوسطى، وعلى أثر هذا السقوط المدوي الذي اعتبره كثير من المؤرخين بداية العصور الوسطى انفصلت الكنيسة الغربية في روما عن الكنيسة الشرقية في القسطنطينية، وانفصل الجزء الشرقي من الإمبراطورية مكوناً الدولة الرومية البيزنطية، وانكمش سلطان روما إلى وسط إيطاليا؛ تاركاً مقاطعاته الغربية الكبرى تخوض القرون العشر المظلمة متشرذمة، تتقاذفها أمواج الجهل والخرافة.

([1]) راجع: المدخل في علم السياسة، د. بطرس غالي، ود. محمود خيري: ص17 وما بعدها. ط مكتبة الأنجلو مصرية 1998م
([2]) السابق ص24، وما بعدها.
([3]) السابق ص27، وما بعدها.
([4]) راجع علم السياسية د. إبراهيم درويش ص 130-136 – ط دار النهضة العربية 1975م
([5]) راجع تطور الفكر السياسي لجورج سباين ترجمة جلال العروسي ج1 ص 45-46 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب 2010 م
([6]) راجع تطور الفكر السياسي ج1 ص 56 .
([7]) راجع تطور الفكر السياسي ج1 ص 61.
([8]) راجع تطور الفكر السياسي ج1 ص 49 .
([9]) راجع تطور الفكر السياسي ج1 ص 75 .
([10]) راجع تطور الفكر السياسي ج1 ص 90.
([11]) جمهورية أفلاطون الكتاب السادس – ترجمة د. فؤاد زكريا – دار الوفاء – الإسكندرية – مصر – ط 2004م ص 368
([12]) راجع: علم السياسة، (ص39-58).
([13]) راجع تطور الفكر السياسي ج1 ص 94-97.
([14]) راجع تطور الفكر السياسي ج1 ص 82-83 .
([15]) راجع تطور الفكر السياسي ج1 ص 129 .
([16]) تطور الفكر السياسي ج1 ص 158
([17]) راجع: الفلسفة السياسية في العهد السقراطي – ريمون غوش – دار الساقي – بيروت – لبنان – ط أولى 2008م صــ 151 وما بعدها
([18]) راجع: علم السياسة (ص59)، وما بعدها.
([19]) راجع: تطور الفكر السياسي ج1 ص160.
([20]) راجع: علم السياسة (ص63).
([21]) تطور الفكر السياسي ج1 ص 189.
([22]) انظر علم السياسة، (ص66)، وما بعدها.
([23]) تطور الفكر السياسي ك2 ص 38
([24]) تطور الفكر السياسي ك2 ص 52
([25])راجع: علم السياسة ، (ص72)، وما بعدها.
([26]) راجع تطور الفكر السياسي ك2 ص 35
([27]) راجع: مدخل إلى علم السياسة د. عصام سليمان – ط دار النضال بيروت 1989م ، (ص54-56).
([28]) راجع: علم السياسة، (ص136)، وما بعدها.
([29]) السابق.
([30]) تطور الفكر السياسي ك2 ص 50
([31]) تطور الفكر السياسي ك2 ص 85-86
([32]) دولة القوط الغربيين – د. إبراهيم علي طرخان ط مكتبة النهضة المصرية 1958م