نظرية التمايز السياسي والتطور التاريخي ( نظرية ليون ديغي )
أخذت هذه النظرية بطرف من نظرية القوة وبطرف من نظرية التطور العائلي، فلم تنكر أن القوة سبب في نشوء الدولة، ولا أن القوة واحتكار أدوات الإكراه هي جوهر السلطة، وصلب الدولة، ولكنها لم تعتبر أن القوة وحدها هي المنشئة للدولة، وإنما التمايز السياسي الذي يكتسبه القوي بالتدريج هو الحدث المنشئ للدولة، فالتطور التاريخي يحول الخضوع بالحديد والنار إلى قبول المحكومين بسلطة الحاكم، الذي يقدم خدماته، وإن كانت تلك الخدمات التي تتعلق بها طموحات المحكومين لم تقدم من الحاكم لتكريس الحكم وتثبيت أركانه، لكنها في النهاية تصبح مبررا للتمايز السياسي الذي صار منطلقاً لوضع تنظيم هو في حقيقته ميلاد الدولة.
ولست أدري ــ في الحقيقة ــ هل أضافت هذه التظرية إلى نشوء الدولة بالقوة إلا مجرد التجميل للميلاد العنيف ؟ فمن الطبيعي جداً أن يتمايز القوي بعد فرض قوته وسطوته، وأن يحتاج إلى شيء من السياسة والكياسة لدعم سلطانه وسطوته، فهل إذا فعل القوي ما من شأنه دعم سلطانه وحكمه يكون بذلك قد اضاف إلى عنصر القوة عنصراً جديداً يصلح أن يكون مبررا لنشوء الدولة ؟! إني في الحقيقة لا أرى في هذه النظرية إضافةً يمكن أن تميزها عن نظرية نشوء الدولة بالقوة والصراع.
ثم إن هذه النظرية لا تعدو أن تكون فرضاً من الفروض، إذ ليس حتماً أن يترتب على القوة والغلبة نشوء دولة، وليس كل تمايز سياسي يحتم قيام دولة؛ وممن انتقد هذه النظرية ( جورج بيردو ) فقال: ” إن القوة حدث، وكذلك التمايز السياسي، وبغير وجود العنصر الحقوقي لا يمكن أن يكون هذا الحدث دولة ” )(
نظرية البنية الفوقية الطارئة
يرى كارل ماركس ومن لف لفه من زعماء الفكر الشيوعي – أمثال لينين واستالين – أن الدولة بنية فوقية طارئة، وأن نشوءها جاء نتيجة للصراع الطبقي؛ ومن ثمَّ فبقاؤها مرهون بهذا الصراع، وقالوا: إن مبرر وجود الدولة هو القمع، فهي ــ إذاً ــ بنية قومية قمعية، وهي أداة في يد الطبقة المسيطرة ( البرجوازية) على الطبقة المستضعفة ( البروليتاريا )، فالصراع الطبقي ــ إذاً ــ هو سبب نشأتها، وهو كذلك سبب زوالها. )(
ونحن نوافق كارل ماركس وشيعته في أن الدولة يمكن ــ بالفعل ــ أن تصبح أداة قمع في يد طبقة مستبدة أو حاكم مستبد، وقد كانت كذلك ــ أو بالأحرى آلت إلى ذلك ــ في زمان ماركس، ولكن لا يمكن أن نوافقه في سحب هذا الانحراف على التاريخ البشري كله، لذلك لم نتعجب كثيراً عندما انهار بنيان هذه النظرية مع انهيار الدولة الشيوعية قبل أن تبلغ النظرية تمامها، انهارت وهوت بنزول دولة (البروليتاريا) عن قمة البنية الفوقية .
وعقدة الفكر الفلسفي الغربي ــ والسياسي منه على وجه الخصوص ــ أنه يعمم الظاهرة الظرفية ويسحب حكمها على التاريخ البشري كله، وأنه ينطلق انطلاقات كبيرة من ردود أفعال آنية، والمتصفح للتاريخ السياسي مع تاريخ تطور الفكر السياسي يجد هذه الظاهرة المتكررة والمتجذرة في التربة الأوربية بادية شاخصة.
وقريب من هذه النظرية نظرية أخرى ( لموريس هوريو ) وهي نظرية: التطور التاريخي؛ إذ يعتقد أن الدولة نشأت كنتيجة لتطور تاريخي عبر القرون، وذلك في مرحلتين: الأولى بدا فيها عنصر القوة، حيث شدد الحكام على قبضتهم على الرعايا، وفي المرحلة الثانية: وعى الحكام دورهم، ووعى المحكومون ــ كذلك ــ دور الحكام وأهمية وجودهم، فوقع التراضي الذي أضفى صبغة المشروعية على الحكم فصار دولة !!
نظرية العقد الاجتماعي
تعتبر نظرية العقد الاجتماعي أشهر النظريات التي فسر بها أصل نشوء الدولة، وفكرة النشأة العقدية تنسب إلى ثلاثة من الفلاسفة المعاصرين الكبار، هم – على الترتيب – ( توماس هوبز – جون لوك – جان جاك روسو ) ، وإن كانت الفكرة لها بذور قديمة في الفكر اليوناني، وإن كان – كذلك – هناك في العصر الحديث من سبقهم إليها، مثل ( ريتشارد هوكر ) الذي وضع كتاب (قوانين حكومة المدينة) في نهاية القرن السادس عشر، والذي قال فيه: إن العقل يقود إلى تكوين المجتمعات؛ لأن الناس يميلون بفطرتهم إلى الاجتماع، والمجتمع مستحيل وجوده أو استمراره بدون حكم، والحكم – بدوره – مستحيل قيامه بدون قانون؛ وحتى يتسنى ذلك فلا مناص من اتفاق الناس فيما بينهم أن يفرضوا نوعاً من الحكم العام يخضعوا له. () فاشار إلى الأصل العقديّ وإن لم يصرح به، إلا أن التنظير والتأطير للنظرية كان على أيدي هؤلاء الثلاثة.
وجميع هؤلاء الثلاثة ومن شايعهم متفقون على أصل الفكرة، وهو أن الدولة نشأت في الاصل بطريقة عقدية إرادية، وأن ثمَّ عقداً اجتماعياً انتقل الناس بموجبه من الحالة الفطرية ( حالة اللادولة ) إلى الحالة المنظمة ( حالة الدولة ).
لكنهم مختلفون في التفاصيل، فيرى توماس هوبز أن الناس كانوا يعيشون في حالة بدائية وحشية، وأن الإنسان فيها يتحرك ويسعى بغريزة المحافظة على الذات، وبالتالي – إذا لم توجد سلطة حاكمة – فإن الحالة العامة ستكون عبارة عن حرب كل إنسان لكل إنسان؛ وحالة كهذه تجعل حياة الناس مقفرة عقيمة كريهة بهيمية قصيرة؛ وتقوم الحياة على قاعدة: ” لا يملك المرء إلا ما يستطيع الحصول عليه، ويملكه مادام يستطيع الاحتفاظ به ” ()
وقال:إن الإنسان يحكم سلوكه أمران: الرغبة والعقل، فالرغبة تدفع الإنسان إلى أن يأخذ ما يحتاج إليه الآخرون، والعقل – بدافع الأنانية – يحسب العواقب، ويختار ترك بعض ما يحتاج إليه، فيدخل في المجتمع؛ ومن هنا – أي من تدافع هاتين القوتين – يكون المجتمع السياسي في حيز الإمكان، ولكي ينتقل من حيز الإمكان إلى حيز الوجود – تحت تأثير قوتين أنانيتين هما الرغبة والعقل – فإن العهود بغير السيف ليست سوى ألفاظاً، وروابط الكلمات أضعف من أن تلجم طموح الناس وجشعهم وغضبهم؛ لذلك لابد من جهة لها سيادة مطلقة، وهذه غير موجودة خارج هذا المجتمع البشريّ، وعليه فإن كل فرد يتنازل عن حقه كاملاً في أن يحكم نفسه لشخص أو مجموعة أشخاص؛ ومن هنا تخضع الإرادات كلها لإرادة واحدة؛ لقاء حماية الإنسان من أخيه الإنسان.
واختلف لوك مع هوبز في وصف الحالة الطبيعية التي كان عليها الناس؛ فقال بأن الحالة الطبيعية ليست الهمجية والوحشية التي تخيلها هوبز؛ وبنى عليها شكل العقد الذي بموجبه يرسخ للحكم المطلق ولسلطة الملك المطلقة، وإنما هي حالة سلام ووئام وحسن نية، وتعامل فيه قدر كبير من التعاون والمحافظة المتبادلة على الذات، لكن العيب الذي سوغ قيام الدولة لتلافيه هو أن الحالة الطبيعية تلك لا تشتمل على تنظيم، وتفتقر للتنسيق والضبط؛ مما يؤدي إلى فساد غير مقصود.
وبنى على هذا التصور للحالة الأولى شكل وصورة العقد المخالف تماماً لعقد هوبز، وهو أن كل فرد في الجماعة يتنازل عن جزء من حقه – لا كله – في سبيل الحفاظ على الجزء الباقي؛ فنشأت بذلك الدولة.
أما جان جاك روسو فقد اتفق مع لوك في وصف الحالة الطبيعية للإنسان قبل قيام الدولة، لكنه خالفه بعض الشيء في العقد، فقال بأن نزول كل فرد عن حقوقه بمقتضى العقد يكون للمجموع الذي يمثل الإرادة العامة، ورتب على ذلك أن لهذه الإرادة العامة سيادة تولدت عن هذا العقد؛ وأنها تفردت وحدها بهذه السيادة؛ وما الحكومة إلا وسيط بين طرفين: المجموع صاحب السيادة والأفراد. ولا يرى روسو أن في ذلك أدنى تفريط في مبدأ الحرية الفردية لأن: ” كل واحد إذ يهب نفسه للجميع لا يهب نفسه لأحد.” ()
ولا يفوتنا – في هذا الصدد – أن ننوه إلى أن بعض من كتب في السياسة الشرعية من الإسلاميين المعاصرين اتجه إلى أن العقد الإرادي الحقيقي هو أصل قيام الدولة في الإسلام؛ وأن الإسلام سبق – بذلك – الغرب في تحديد الأصل الفلسفي الذي يتم بموجبه قيام الدولة وممارسة السلطة لصلاحياتها، ومعتمدهم في ذلك هو البيعة التي وقعت عند العقبة بين النبي صلى الله عليه وسلم والأنصار، والتي بموجبها قامت الدولة في المدينة.()
ولست أرى هذا التوجه لدى الكتاب الإسلاميين إلا صورة من صور الانبهار بما أنتجه الغرب من نظريات، ومظهراً من مظاهر الضعف أمام ضغط الواقع الثقافي الغربي المهيمن، ولست أتفق معهم في اعتبار بيعة العقبة دليلاً على أن الأصل لنشوء الدولة هو العقد الاجتماعي، رغم أنّني لا أخالفهم في أن الدولة في المدينة قامت على هذا العقد؛ لكنَّ قيام الدولة في المدينة على العقد الذي أبرم عند العقبة لا يعني بالضرورة أن الأصل في نشأة الدولة هو العقد الاجتماعي؛ وإنما يعني – وحسب – أن الدولة نشأت على النحو الذي أمر الله تعالى به وبالطريقة التي شرعها، وأن الطريقة الشرعية التي يجب أن يتم بها تولية السلطة طريقة عقدية إرادية؛ وأن الأمة مصدر السلطات وصاحبة السلطان، وأن الحاكم لا يهبط على الناس بحق مقدس أو صك سماوي مبرم في الملأ الأعلي، هذا هو الحكم المستفاد من الحدث التاريخي الكبير؛ وهو الحكم الذي طبقه الصحابة الكرام في توليتهم للخلفاء الراشدين، أمَّا الأصل لنشأة الدولة في حياة البشرية فهو أمر سابق لهذا الحدث زماناً، وما هذا الحدث – في نظر القائلين بنظرية العقد الاجتماعي أن أنصفوا – إلا صورة تطبيقية متأثرة بالأصل الذي يتحدثون عنه، كتلك الصور التي وجدت في ظل الديمقراطية.
أما نظرية العقد الاجتماعي ذاتها فهي – رغم ما فيها من وجاهة – مجرد فرض لم يُقِم أصحابه عليه دليلاً يتبع، فليأتوا بسند تاريخي يثبت أن هذا العقد قد وقع في حياة البشرية في زمان ما فكان سبباً في نشأة الدولة أول مرَّة، أو ليقيموا لنا دليلاً على الحالة الفطرية تلك، التي اختلفوا في توصيفها؛ ما بين واصف لها بأنها مجتمع الملائكة الأطهار، وبين ناعت لها بأنها مستنقع الشياطين الأشرار، أو ليشرحوا لنا كيف نشأ هذا العقد في ظل غياب نظام قانوني يوفر الحماية له ؟ أم إنَّ تلك المجتمعات ( الفطرية ! ) كان لديها قانون ونظام يكفل العمل بهذا القانون ؟!
إن هي إلا فروضاً لا ترقى إلى مستوى النظريات فضلاً عن الحقائق التي يبنى عليها، ومثل هذا في نظر الشرع يسمى ظناً، “وإن الظنَّ لا يغني من الحق شيئاً” ” إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى”.
ولقد تعرضت هذه النظرية لانتقادات كثيرة من علماء وكتاب غربيين، منهم الكاتب ( بلونتشلي ) “الذي يرى أن هذه النظرية تنطوي على آراء خطرة على الدولة، إذ إن كثيراً من المؤمنين بهذه النظرية يؤمنون بأن للشعب حقاً مطلقاً في الثورة، وهذه أفكار هدامة تؤدي إلى القضاء على المجتمع بأسره”.()
ومنهم – كذلك – ديفيد هيوم الذي هاجم بشدة فكرة القانون الطبيعي، وهاجم معها النظرية التعاقدية الرضائية، وذلك في سياق هجومه على المذهب الفردي، الذي عظمت من شأنه نظرية العقد الاجتماعي عند لوك وروسو؛ ليحل بذلك عبادة المجتمع محل عبادة الفرد.()
ولذلك لا تعجب إذا رأيت التناقض العجيب بين النظرية وما تولد عنها من أوضاع؛ فهذا توماس هوبز – بحسب جورج اسباين – قد أنتج فكرُه على المدى البعيد أوضاعاً مناقضة تماماً لمقتضى تفسيره ورؤيته للعقد الاجتماعي، فقد أسهم فكره في إنبات الفكر الليبرالي بصورة راديكالية؛ بناء على الأنانية الفردية التي ساعدت على ظهور النزعة الفرية الغالية، وفي ذات الوقت ساعد على ظهور نزعة مقابلة – كرد فعل للنزعة الفردية العاتية – وهي الديمقراطية الاشتراكية اليسارية، وكلا النزعتين لا علاقة لها بالتفسير الذي تبناه توماس هوبز ولا بالغاية التي تغاياها من وراء هذه النظرية.()
وكذلك جان جاك روسو؛ فقد بدا متناقضاً غاية التناقض في نظريته؛ بسبب التنازع بين مبدأ الحرية الفردية والحقوق الفردية ومبدأ الإرادة العامة؛ لذلك لا تعجب إذا رأيت فكر روسو الذي يعتبر من دعاة الحرية يؤسس لنشأة العبادة الرومنسية للجماعة؛ مما حدا ببعض الكتاب إلى الهجوم الشديد عليه؛ بسبب أنه: ” ليس في كتاباته كلها على الإطلاق أية كتابة يمكن ردها إلى مذهب متسق”()
وهكذا رأينا أن كل الأفكار التي قيلت بشأن نشأة الدولة محل نظر، وتفتقد إلى الأسس المنطقية التي تقوم عليها، وإلى الظواهر الاختبارية التي تدعمها، ومردُّ ذلك إلى أمرين، الأول: أن الدوافع الحقيقية وراء البحث في هذه المسألة لم تعدُ أن تكون رغبة متعجلة في إضفاء الشرعية على السلطة السياسية في زمن معين وظروف معينة، أو أن تأتي في سياق دعم اتجاه من النظم ومحاربة ما يخالفه، الثاني: أنه – حتى في حال تجرد الغاية للتأصيل لنشأة الدولة – فإن مشكلة التعميم قبل الوصول إلى مرتبة النظرية هي المزلق الذي انحدرت منه إلى الفشل والبطلان.()