فهل في المال حقٌ سوى الزكاة؟
إذا لم نتراحم اليوم فمتى نتراحم؟ لقد حاقَ بالناس في كثير من ديارنا الفقرُ واللأواء، ونزلت بهم الأمراض والأدواء، وأغلبهم لا يجدون الغذاء ولا الدواء، والأمّة الرشيدة تمر بها هذه الظروف فلا تقصم لها فَقَّارًا ولا تحني لها ظهرا؛ لأنّها تدرك بحاسّتها الإيمانية أنّ واجب الوقت أن تُحِلّ التراحمَ والمسامحة محلَّ التزاحم والمشاححة، وتلتمسَ رحمةَ الله الواسعة بإقامة سُنَّةِ التراحم، وفي الحديث: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» «إِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ».
التساؤل وروح التكافل؟
سؤال أُلْقِىَ في الوسط الفقهي؛ حرك المياه الراكدة وأثار كثيرا مما رسب في القاع من تساؤلات لها اعتبار كبير، وكأنّ ما أرساه القرآن في الضمير المسلم من معاني الإخاء والبر والإحسان جعل المسلمين يواجهون مصاعب الحياة ومتاعب العيش بضمائر حية يقظة وثقافة تضامنية تكافلية؛ مما كان له بالغُ الأثر في إثارة أسئلة عديدة كان أهمها: أفي المال حق سوى الزكاة؟ وقد أفاض الفقهاء في البيان، فكان بيانُهم وما سبقه من تفجير للسؤال أعظمَ شاهدٍ على الرقيّ الفكري والنضج الفقهيّ والرشد التشريعي، وأوْضَحَ برهانٍ على عناية الشريعة بتحقيق العدالة الاجتماعية، فكيف كانت الإجابة على هذا السؤال؟
أسباب الاضطراب
أبادر – ابتداءً – بإقصاء الروايتين المتعارضتين الواردتين عن فاطمة بنت قيس، والمرفوعتين من خلالها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لضعفهما واضطرابهما، إحدى الروايتين تجيب عن السؤال بالإثبات والأخرى بالنفي، الأولى: «ليس في المال حق سوى الزكاة»، والثانية: «إِنَّ فِي المَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ»، فقد ضَعَّفَ جهابذةُ علماءِ الحديثِ – كالدارقطنيّ – هاتين الروايتين، بالإضافة للاضراب الظاهر، فلأجل النفي في الأول والإثبات في الثاني “حكم بعض المحدّثين باضطرابه”.
وإزاحة الروايتين الضعيفتين يفيد كثيرا في تصور القضية تصورا صحيحا، فالظاهر للناس أنّها قضية خلاف، لكن فيما يبدو أنّ ظلال الروايتين أكسبها هذه الصفة التي أراها غير صحيحة، والخلاف الذي يُذْكَرُ هو بين الجمهور وبين بعض العلماء، ظاهرُهُ خلاف وباطنه توافق وائتلاف، فأمّا الجمهور فهم على القول بأنّه ليس في المال حقٌ سوى الزكاة، إلا أن يكون تطوعا، بينما قال جماعة “منهم الشعبى والحسن وعطاء وطاووس وغيرهم: إن فى المال حقوقاً سوى الزكاة؛ من فك العانى، وإطعام المضطر، والمواساة فى العسرة، وصلة القرابة”، وبه قال ابن حزم وابن تيمية.
تآلف وانسجام
والحقيقة أنّ الخلاف منعدم، فجماهير العلماء أقوالهم في اتجاه التأسيس لأصل لا يخالف فيه أحد، هذا الأصل هو أنّ حقّ الله “المتعلق بالمال” هو الزكاة وحسب، فمن أدّى زكاة ماله فليس للدولة حقٌّ في مطالبته بشيء إلا أن تكون ضرورةً، أو حاجةً تنزل منزلةَ الضرورة، وتكون استثناءً من الأصل، ذلك لئلا تتسلط الدولة على أموال الرعية بذرائع شتى، وهذا الأصل يأتي في اتجاه تحرير المال وتقوية الملكية الخاصة، وهو اتجاه ظاهر في الشريعة.
أمّا الاتجاه الثاني الذي تَبَنَّاهُ بقوةٍ ابنُ حزم وابنُ تيمية وغيرُهما فلا تعارض بينه وبين الاتجاه السابق، لأنّه يؤسس لأصل آخر وهو وجوب التكافل والتضامن بين المؤمنين؛ بما يُغَطِّي مساحات الاختلال التي تقع في بعض الأحيان ولا تغطيها الزكاة، فهذان اتجاهان قويان يحققان التوازن الذي تفتقده النظم المعاصرة كافّة، الأول: تحرير المال وتعزيز الملكية الخاصة وكفّ يد الدولة عن إيجاد ذريعة للتدخل وفرض المكوس الظالمة، والثاني: تحقيق التضامن والتكافل بين طبقات المجتمع وتحقيق التراحم والتعاون على البر والتقوى، والفارق الدقيق بينهما هو أنّ الزكاة حق في المال “بسبب أنّه مال”، فمن هذه الجهة ليس فيه حق سوى الزكاة، أمّا الحقوق الأخرى فهي حقوق في المال لأسباب لا علاقة لها بكونه مالا.
كلمات مُتَمِّمات
يقول ابن تيمية: “الزكاة تجب حقًا لله في ماله، ولهذا يقال: ليس في المال حق سوى الزكاة، أي ليس فيه حق يجب بسبب المال سوى الزكاة، وإلا ففيه واجبات بغير سبب المال؛ كما تجب النفقات للأقارب والزوجة والرقيق والبهائم، ويجب حمل العاقلة ويجب قضاء الديون ويجب الإعطاء في النائبة ويجب إطعام الجائع وكسوة العاري فرضًا على الكفاية؛ إلى غير ذلك من الواجبات المالية، لكن بسبب عارض”.
وهذه جولة في أقوال العلماء من المذاهب المشهورة تؤكد اجتماع الأصلين، فهذا ابن العربيّ المالكيّ يقول: “وليس في المال حق سوى الزكاة، وإذا وقع أداء الزكاة ونزلت بعد ذلك حاجة فإنه يجب صرف المال إليها باتفاق”، وهذا الجصاص الحنفيّ بعد أن يقرر أنّ الحق الواجب في المال هو الزكاة وحسب، يقول: “إلا أن تحدث أمور توجب المواساة والإعطاء نحو الجائع المضطر والعاري المضطر”، وهذا ابن حجر الهيثمي الشافعي: “من فروض الكفاية دفع ضرر المسلمين، ككسوة عاري وإطعام جائع إذا لم يندفع بزكاة”، ويقول البهوتيّ الحنبليّ: “وإطعام الجائع ونحوه كسقي العطشان، وإكساء العاري، وفك الأسير واجب على الكفاية إجماعا مع أنه ليس في المال حق سوى الزكاة”.
الخلاصة والثمرة
من هنا يتبين لنا أنّ الخلاف الذي يصوره الاستقراء الظاهر لأقوال العلماء دون تحليل ونظر خلافٌ موهوم، وأنّ أقوالهم متآلفة، وأنّ الفقهاء كان لهم في النظر إلى هذه المسألة اتجاهان متآلفان متكاملان ليس بينهما تنافر ولا اختلاف، اتجاه تحرير المال وغَلّ يد الدولة عن التغول على حقوق الملاك، واتجاه في تقرير الحقوق التضامنية التكافلية التي تنشأ عن التراحم بين المؤمنين وعن مقتضيات الأخوة الإيمانية.
فهلموا إلى التراحم والتكافل، فقد نزلت بالشعوب المسلمة في أقطار عديدة فاقة لا عاصم منها إلا أن يتراحم المسلمون، والأمر من جهة الحكم الفقهي لا يقع اليوم في دائرة التطوع، وإنّما في مثلث الوجوب، وهذا الوجوب يكون على المسلمين الأغنياء كما يكون على الدول المسلمة الغنية، وَيَنْسَدِلُ مبدأ التراحم من موقع التكافل ليغطي مساحات أخرى في التعامل، فيقع التسامح في البيع والشراء والقضاء والاقتضاء، ثم يَنْسَرِبُ إلى الأنكحة والمهور والنفقات داخل الأسر والبيوت.
نقلاً عن موقع الجزيرة مباشر- 26/12/2022