لم تكنْ الأولى، ولن تكونَ الأخيرة، تلك الفَعْلَةُ الرعناء الشنعاء، التي صدرت عن زعيم حزب “الخط” الدنماركيّ اليميني المتشدد “راسموس بالودان” أمام مبنى السفارة التركية باستوكهولم، حيث قام -ودون أدنى اعتراض من قوات الأمن السويدية- بحرق نسخة من المصحف الشريف؛ لذلك لا يصح أن نفسرها بسطحية على أنّها مكايدة سياسية لأنقرة التي أبدت تحفظها على انضمام السويد إلى الناتو بسبب دعمها للإرهاب، بل يجب النظر إليها على أنّها عدوان على الإسلام واستفزاز لمشاعر المسلمين.
رقصة المذبوح
لكنْ -وعلى التوازي مع هذه النظرة- ينبغي الوقوف على الدوافع والخلفيات التي حملت المتطرفين في الغرب على ارتكاب جرائم العدوان على مقدسات المسلمين، وربما على أرواحهم، وحملت الحكومات هناك على التغاضي عن كثير من تلك الجرائم، وربما على الدفاع عنها وتسويغها، وانطلاقا من اليقين الذي يفرضه الواقع المعيش من أنّ الغرب مُدانٌ في صراعه مع الشرق الإسلاميّ؛ يَتَعَيَّنُ علينا أن نبحث عن الدوافع وأن نلتمسها في السيكولوجية الغربية ذاتها، وقد حسمها المفكر الألمانيّ “مراد هوفمان” في كتابه الشهير “الإسلام في الألفية الثالثة ديانةٌ في صعود” بهذه الكلمات التي تقطر صدقًا وتُومِضُ بِشْرًا: “لقد مرت 200 سنة من الحروب دون أن ينتصر العالم الغربي على العالم الإسلاميّ، وكذلك دون إبداء أيّ محاولة لفهمه”.
وهذه من هوفمان ليست مبالغةً ولا تهويلا؛ لأنّ الغرب -وإن كان قد نجح في تمزيق شمل المسلمين وتدمير أوطانهم وتبديد ثرواتهم وحَرْفِ مسار الكثيرين منهم- لم يستطع أن يحقق الأهداف الاستعمارية الكبرى؛ فلا يزال الإسلام فَتِيًّا رغم توالي الضربات الاستشراقية والتغريبية التي جاءت مواكبة لجميع الحملات الاستعمارية، بل إنّ الإسلام -بحسب نبوءة محمد أسد- هو المرشح الأوحد لملء الفراغ الذي خَلَّفته الشيوعية والإلحاد الغربيّ، وإنّه -بحسب نبوءة مراد هوفمان- هو البديل الأوحد للحضارة الغربية المعاصرة، ومن المؤكد أنّ المدّ الإسلاميّ في الغرب وفي العالم أجمع -الذي يُعَدُّ بحسب إحصائيات محايدة الأسرع والأوسع- يقضّ مضاجع القوم، ولا سيما مع تضخم الهاجس الديمغرافيّ الذي عبر عنه “باتريكك بوكنان” في كتابه “موت الغرب” بهذه العبارات البالغة السخونة: “الغرب يموت؛ لقد توقفت أُمَمُهُ عن التكاثر، وتوقف سكانه عن النموّ، وبدؤوا الانكماش، ولم يقم منذ الموت الأسود الذي حصد أرواح ثلث سكان أوربا في القرن الرابع عشر تهديد أخطر لبقاء الحضارة الأوربية من هذا الخطر الماثل… جميع ملل الإيمان المسيحي ممثلون في المسيرة العظيمة لموت الغرب”.
لقد توالت على الأمّة الحملاتُ الصليبية، ومن بعدها غاراتُ الاستعمار الغربيّ، ثم تبعتها الحملة الأمريكية الغربية التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ثم أخيرا -وبعد الموجة الأولى من الربيع العربي- كان التآمر والمكر الكبير لإحباط ثورة الشعوب وردها على أعقابها، واستثمارها لبدء مشروع جديد للتقسيم على أساس أصول عرقية وإثنية، وعلى الرغم من ذلك كله لم يحققوا الأهداف الكبرى؛ فالإسلام يزداد انتشارا، والمسلمون يزدادون تمسكا بدينهم، والفكرة الإسلامية تزداد نضجا ولمعانا وسطوعا، في حين يفلس المشروع الغربيّ كله ويَقْصُرُ عن تقديم جديد مفيد للإنسانية المعذبة.
ليس هيِّنًا عليهم
ليس هيِّنًا عليهم أن تبوء كل مشاريعهم الحضارية بالإفلاس، وليس هيِّنًا عليهم أن يُصْدَموا بالحقائق العلمية التي صدرت عن الدراسات المحايدة؛ لتثبت لهم عظمة الإسلام، فمرة يُصدر أحد مفكريهم -وهو “مايكل هارت”- كتابا عن الخالدين المائة، ليضع في الصدارة محمدًا صلى الله عليه وسلم، وينص في مسوغاته لهذا الاختيار على أنّ “القرآن الكريم نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كاملا، وسُجّلت آياته وهو لا يزال حيًّا، وكان تسجيلا في منتهى الدقة، فلم يتغير منه حرف واحد، وليس في المسيحية شيء مثل ذلك”، وفي المقابل ينص آخر على أنّه “باعتبار العهد الجديد مصدرا ثانويا… ربما كان من الأجدى مقارنته في الإسلام بمجموعة الأحاديث المشكوك في صحتها أي: الأحاديث الضعيفة”، ومرات ومرات تصدر التصريحات المبنية على دراسات جادّة، من مثل قول “هوفمان”: “يغفل الغرب عن حقيقةٍ، وهي أن الإسلام يهدف إلى أن يعيد المسيحية لتقف على قدميها بدلا من الوقوف على رأسها وأن الإسلام يمكن أن يكون ذا نفع هائل لإعادة الصحة إلى الحضارة الغربية”.
وهذا آخر من المفكرين الذين أسلموا -وهو “محمد أسد”- يقول في كتابه “الإسلام على مفترق الطرق”: “إنّ تحرير العقل الأوربي من القيود العقلية التي فرضتها عليه الكنيسة المسيحية قد اتفق في أثناء النهضة التي كانت مَدينَةً إلى حد بعيد لذلك العامل الثقافي الذي كان العرب ينقلونه إلى الغرب”.
وحتى الذين لم يسلموا قالوا الحقيقة التي تجعلهم عاجزين عن ستر عوراتهم أمام الإسلام العظيم، من مثل قول “منتوجمري وات” في كتابه “فضل الإسلام على الحضارة الغربية”: “اهتمام الأوربيين بأرسطو لا يرجع إلى المقومات الأساسية لفلسفته، وإنما يرجع إلى انتمائه إلى تاريخهم الأوربيّ، فإنَّ إحلال أرسطو مكان الصدارة في الفلسفة والعلوم ينبغي النظر إليه باعتباره مظهرًا لرغبة الأوربيين في تأكيد اختلافهم عن المسلمين، ولم يكن هذا النشاط السلبيّ تمامًا -المتمثل في التنكر للإسلام- أمرًا سهلًا، بل كان في الواقع أمرًا مستحيلًا، خاصة بعد كل ما تعلمه الأوربيون من علوم العرب وفلسفتهم”.
الله ليس كذلك
إنّهم بحاجة -بحسب تعبير البعض- إلى “زغريد هونكة” لتضع لهم كتابا على غرار كتابها الشهير “الله ليس كذلك” الذي وضعته بعد كتابها “شمس العرب تسطع على الغرب”، وضعته للكشف عن مدى العقوق الذي يمارسه الغرب اتجاه الشرق، الذي كان في الإساس بعلومه واستقامة أدائه مصدر خير وبر للغرب وللإنسانية جمعاء؛ فلا وزن عندنا لتلك الأفعال الناقصة، التي لا تَنُمُّ إلا عن طيش ونزق، ولا سبيل إلا العمل من أجل استعادة دورنا الحضاريّ، ويومها {سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.
المصدر : الجزيرة مباشر