بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
بِوَجْهٍ ما أَكْلَحَهُ! وسِحْنَةٍ ما أسمجها! أَطَلَّ في مقطع فيديو يعلن عن توبته! من أيّ شيء يتوب؟ من الثورات جميعها يتوب! وإلى محضن الوداعة والعقلانية يؤوب! ويقول في تفسير حالته – الحالية – إنّ الثورة على النظام المستبد تأتي بنظام أشد استبدادا، وبدلا من أن يتواضع ويخجل من نفسه كشأن التائبين الطبيعيين طفق يمارس الاستعراض على طريقته المستفزة، وراح يحقر ويصغر من شأن أفكاره القديمة، بطريقة فيها إسقاط ظاهر على كل من لا يزال يرتبط بفكرة الثورة ويراها طريقًا للتغيير؛ فلستُ أدري في الحقيقة: أَهِيَ ذنوبُنا قد تجسدت سماجةً في جِلدة بَشَريةٍ كالحة؛ فليس علينا إلا أن نتوب منها لتزول وتنمحي؟ أم إنّه نوع من البلاء ثقيلٌ ووَبِيل؛ فلا مناص من الصبر عليه والمدافعته له؟
ليسوا من الأمر في عير ولا نفير
أمّا الثورة فهي ثورة الشعب المصريّ، لا فضل فيها لإسلاميّ ولا علمانيّ ولا يميني ولا يساري، ولو أنّ لهذا الشعب لسانًا ينطق لصاح: على رسلكم أيها الأدعياء، رويدكم أيها الحالفون المسرفون في الادعاء، فلولا بحاري الزاخرة لبقيت قواربكم على الرمال تحرقها الشمس وتسفي عليها الريح، أَلِمُجرد أنكم – في لحظة من غفلة الحرص والخوف – دعوتم إليها، ثم – في نزق وطيش – امْتَطَيْتُمْ ظَهْرَها؛ تَدَّعون ملكيتها وتنسبونها لأنفسكم؟ فتارة تفخرون وتفاخرون بها وتارة تتوبون منها وتثوبون إلى ضدها؟! كأنّكم في ذهابكم وإيابكم وولوجكم في الأمر وخروجكم منه، كأنّكم كُلُّ شيء! بينما أنتم في واقع الأمر لا شيء، ما أنتم إلا أدعياء وُضَعاء، يصور لكم خيالكم المريض أنّ الشعوب ترمقكم بأبصارها في غدوكم ورواحكم وفي كل تردداتكم وجميع تقلباتكم! هَوّنوا على أنفسكم فالأمر أبسط بكثير؛ فما أنتم في عير ولا نفير.
مضامين خطاب الثورة المضادة
وبرغم دهشتي من قدرة كائن بشريّ على أن يتبنى فكرة مضادة لفكرته السابقة بالحماسة المستعلية نفسها والحدة الطاغية ذاتها؛ لم أندهش من تفاصيل الخطاب الجديد ومضامينه المهترئة، لأنّ الانقلاب على الثورة لا صورة له إلا الثورة المضادة، وهذه لها مضامين واحدة لا تختلف باختلاف الأعصار والأمصار ولا تَتَباينُ بِتَبايُنِ الأغمار الأغرار ومَنْ وراءَهم من المجرمين الفجار، اللّهمَّ إلا في طريقة الصياغة وأسلوب التناول، فالإصلاح المتدرج طريقٌ آمنٌ للتغيير، بدلا من الثورة الطائشة الرعناء، التي لم نَجْنِ منها إلا الكوارث والبلاء، وابدأ بنفسك فَقَوِّم اعوجاجها يستقِمْ المجتمع كله وتصلح الحياة جميعها، فإن كنت تحب الحرية وتنشدها دائما فالأمن والاستقرار أولى منها وأهم؛ فإذا تعارضا ووقع الازدحام فلا مناص من اختيار أهون الشرين وارتكاب أخفّ الضررين: التسليم للاستبداد، ولستَ بحاجة إلى الْتِماسِ حُجّة أو دليل؛ فالواقع من حولك أصدق شاهد وأقوى برهان، وإلا فقلّ لي: ما الذي جناه الخلق من ثورات الربيع العربيّ؟ أليس المزيدَ من القهر والقمع والقتل، مع المزيد من التراجع السياسي والاقتصادي والأخلاقي، يضاف إلى مزيد من التمزق والتشتت الذي قد يسلمنا إلى مشاريع التقسيم؟! ألا ترى الخلق اليوم في مصر يتشوفون إلى يوم من أيام الزمن الجميل، ويكاد الواحد منهم يصنع لمبارك صنما في بيته ليتحنث في محرابه؟! أليست المقارنةُ منحصرةً بين عهدين أحدهما لمبارك والآخر للسيسي، دون أدنى ذكر لعامين من الحرية توسطا بينهما كما تتوسط خرقة من الشفق بين بياض النهار وسواد الليل؟
الإشكالية .. أين تكمن؟
ذلكم هو خطاب الثورة المضادة في ذروته وأوج قوته، والإشكالية تكمن في أنّ مفرداتِهِ صحيحةٌ وواقعية، بل وشرعيةٌ كذلك، فلا ينازع أحد في أهمية الإصلاح المتدرج، ولا يخالف عاقل في ضرورة احتمال الضرر الأخف لدفع ما هو أثقل منهم لدى الازدحام، ولا يملك أحد إلا بقدر وافر من المكابرة والتجديف أن ينكر أو يتجاهل ما آلت إليه بلاد الربيع العربيّ من دمار منتشر وخراب مستقر، هذه هي الإشكالية.
ولماذا هي إشكالية؟ ولماذا هي إحدى العقد الفكرية التي توشك أن تصيب الجيل بالفصام التام بعد فاصل من الحيرة والإبلاس؟ لأنّ المفردات إذا انتزعت من سياقها تبدلت دلالاتها والتبست على الخلق معانيها، ومن هنا كانت النبوة المضادة تستعمل ذات المفردات التي جاءت بها النبوة الحقيقية: الوحدانية، الرسالة، الوحي، الشريعة، فنجحت في إضلال كثير من خلق الله باسم النبوة مع أنّها جاهلية عمياء!
إنّ الإصلاح المتدرج ضرورة لتنقية المجتمع وتوعيته وترتيب أوضاعه وتربية عناصره وتمتين الروابط فيما بينها، والعمل المتدرج الصاعد لإعداد هذا المجتمع للحظة التي يقرر فيها أن يثور، أمّا أن يكون سبيلا لإزاحة الباطل وإقامة الحق مقامه فلا؛ لأنّ الباطل ليس جثة هامدة، ولا كتلة راكدة، ولا وثنا من حجر أو صنما من خشب، حتى الأوثان والأصنام الجامدة لم تكن قوى الباطل التي تكمن في خلفيتها جامدة، إنّ الباطل لشديد اليقظة كثير الاحتراز، وإنّه لا يغفل لحظة عمّا يدبره الحقّ له، ويعلم كَمَا الحقّ أنّه في صراع مع غريم له لا يرضى إلا بأن يكون متفردا بالساحة، التي تتسع لتشمل الكون كله والوجود أجمع.
لذلك لم يحمل لنا التاريخ القريب أو البعيد صورة واحدة لنظام مستبد أقام قواعده على الباطل؛ استطاع أهل الحق أن ينعموا في ظله بممارسة حقهم في الإصلاح المتدرج، ولم تزل الروايات على فم التاريخ تتوالى تترى عن رجال ونساء – بل وأطفال – عذبوا وأوذوا لمجرد أنّهم مصلحون، هذا فضلا عن أن نجد في ثنايا هذا التاريخ الطويل حادثة نَدّت عن السياق وشذت عن القاعدة فاستطاع الحق أن يدحر الباطل ويستمكن من مكامن القوة بهذه الطريقة الإصلاحية المتدرجة، ولو كان الأمر كما يَدَّعِي هؤلاء الحالمون لما تَطَلَّبَ نشرُ الإسلامِ وإزاحةُ الجاهليةِ كلَّ هذا الجهاد، ولما فرضت من حيث الأصل هذه الفريضة العظمى التي عُدَّتْ بين فرائض الإسلام ذروةَ السنام، وما الثورة إلا صورة من صور الجهاد، فالإصلاح المتدرج إذن ضروري، لكنه لا يزيح الباطل بذاته، إلا إذا قلنا إنّ تدريب الجيوش وتسليحها يعني حسم المعركة مع العدو ويغني عن خوضها وعن بذل المهج والأرواح في ساحتها، إنّها سلسلة متصلة لا تغني حلقة من حلقاتها عن باقي الحلقات فضلا عن أن تنفرد بهوية السلسلة كلها.
الفريضة الغائبة
بالأمس – وفي خضم الملحمة الدعوية الإصلاحية المتدرجة – قيل للناس إنّ الفريضة الغائبة هي الجهاد في سبيل الله، ومع أنّ الجهاد يومها كان بالفعل فريضة غائبة؛ إلا أنّ الفريضة الغائبة بالتعريف لا بالتنكير لم تنحصر في الجهاد، ولا في الثورة على الباطل، وإنّما كان الجهادُ والإعدادُ والثورةُ ومقدماتُها والدولةُ وكيفيةُ بنائِها والمجتمعُ وطرقُ إصلاحِهِ وغيرُ ذلك مفرداتٍ من مفردات ذلك الذي نَعُدُّهُ الفريضة الغائبة، إنّه (المشروع)، المشروع المنبثق عن رؤية مستمدة من ثقافتنا وحضارتنا وهويتنا الإسلامية، إنّه المشروع الإسلاميّ الذي يجب على الأمة القيام به في زماننا هذا بما يواكب حاجات الأمة ومتطلباتها، المشروع الذي يتصل وتتابع مراحلة من التربية والإعداد إلى المواجهة والتغيير إلى البناء والتمكين، المشروع الذي تتضح أهدافة وتنسجم غاياته مع منطلقاته، وتُرَىَ في كل مرحلةٍ من مراحلِهِ الرَّوافع والموانع، المحفزات والمثبطات، مقومات النجاح وعوامل الفشل، المشروع الذي يضعه العلماء والخبراء بمشورة الشباب الأمناء، المشروع الذي تلتقي عليه كلمة الكبار وأهل الحل والعقد في الأمة، وسيكون المشروع مشتملا على قواعد السياسة الشرعية التي تضبط الإيقاع، بما في ذلك قاعدة ارتكاب أخف الضررين واختيار أهون الشرين، وسيتضمن إلى جانبها فقه التنزيل الذي يضع كل قاعدة في موضعها، مع فقه الأولويات الذي يُعَدُّ مع مقاصد الشريعة وأحكامها ميزانًا صادقا لا يميل مع الأهواء.
وبسبب غياب هذا المشروع (الفريضة الغائبة) ثارت الشعوب ثورتها تلك في موجتها الأولى ثورةَ حقٍّ عمياء، أجل؛ ثورة حقٍّ لكنّها عمياء، كانت ثورةً لا ريب في ذلك، وكانت ثورةَ حقٍّ لا شك فيها؛ لأنّها قامت على أنظمةٍ عَلِمَ الكافّةُ بالضرورة أنّها أنظمةٌ مستبدة وظالمة وفاسدة، ليس هذا وحسب بل وعميلةٌ تقبعُ أبدًا في خندق أعداء الأمة، ولأنّ هذه الأنظمة التي جمعت كل هذه الأوصاف الجاهلية مارست عليهم القهر والإذلال والإفقار والتجويع، ووضعت البلاد على شفا الانهيار الحاليّ الذي تعيشة، ودفعتها دفعا إلى حافة المنزلق، فلو لم تقم ثورةٌ استعرت نارها ثم خمدت بثورة مضادة لسقطت البلاد من تلقاء نفسها بأيّ عامل آخر وبأي ذريعة أخرى إلى ذات المنحدر ولو بعد حين، فلا السابق برئ ولا اللاحق برئ، الكل غارق في الظلم والفساد والجاهلية إلى النخاع.
وبسبب غياب المشروع تأخر الإسلاميون عن المبادرة، وتلكأوا في انتهاز الفرصة السانحة، واضطربوا في التعامل مع الواقع، ولم يكن الليبراليون والعلمانيون وغيرُهم أقلَّ جهلا وتخلفا واضطرابا من الإسلاميين، الكل كان في خَبْطٍ مِن فوقه خبطٌ من فوقه اضطراب، وكان الشباب من كافة التوجهات أقرب للرشد وأبعد عن الخبط من الكبار الذين أضلتهم الحسابات التنظيمية المعقدة والمصالح الحزبية الضيقة، ودفع الشعبُ من دماء أبنائه وحرياتهم، ومن حاضره ومستقبل أجياله القادمة، فاتورة التخبط والجهل وافتقاد الرؤية والمشروع لا فاتورة الثورة، فالثورة أبرأ من العذراء المشمولة برداء العفة في خدرها الطهور.
لم تخطئ الشعوب عندما ثارت على الأنظمة المجرمة، ولم يخطئ شباب الأمة عندما قاموا مطالبين بالحرية والكرامة، وإنّما أخطأ الكبار من كل فصيل وعلى رأسهم العلماء إذ لم يتوحدوا على رؤية واحدة ومشروع واضح، أخطأوا وخالفوا منهج الله عندما أداروا ظهرهم للشارع وولوا وجوههم شطر العسكر ومن حولهم من أساطين الفساد، فكيف يكون النصر حليفهم والله يقول: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) (هود: 113)، واتخذنا منهم ركائز في حكمنا سهلت عليهم الانقلاب علينا، والله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا) (آل عمران 118)، وتلكأنا في القصاص من أئمة الإجرام وأكابر المجرمين، والله يقول: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) (الأنفال: 4)، ثم بعد ذلك تَفَرَّقْنا وتَمَزقنا وسَلَّمَ بعضُنا رقابَ بعضِنا للذبح، وخالَفْنا منهج الله جملة وتفصيلا؛ فما الفرق الكبير بيننا وبينهم حتى يُكْتَبَ لنا النصر عليهم؟! فيا أيها الخطباء والكتاب والنشطاء والنقاد رويدكم، فما أخطأنا يوم أن ثرنا ولا يوم أن سعينا للحكم، إنّما كانت أخطاؤنا في ممارسة الثورة وممارسة الحكم على غير المنهج القويم، فلا تلوموهما ولوموا أنفسكم، وتواضعوا من فضلكم.
المصدر: رسالة بوست