“المسار والآثار”
لَمْ يَلْبَثْ إلا قليلا بعد تَوَلِّيهِ رئاسة الدولة – بشكل مؤقت – حتى تمخض عن قانون صغير، لكنّه كفأر حقير، وُكِّلَ بهدم سد كبير؛ لتغرق بلاد بأكملها بلا إنباء ولا نذير، إنّه قانون رقم 32 لسنة 2014م الذي أصدره عدلي منصور؛ والذي يمنع كل من هم خارج طرفي التعاقد من الطعن على عقود البيع والاستثمار التي تبرمها الدولة مع أي جهة داخلية أو خارجية، بما في ذلك قرارات تخصيص العقارات.
نصٌّ مشئوم لقانون غَشُوم
ينص القانون في مادته الأولى على منع الطعن ببطلان العقود التى يكون أحد طرفيها الدولة أو أحد أجهزتها، وفي مادته الثانية ينص على أنّ المحكمة تقضي من تلقاء نفسها بعدم قبول الدعاوى أو الطعون المتعلقة بالمنازعات المنصوص عليها فى المادة الأولى، والمقامة أمامها بغير الطريق الذى حددته هذه المادة، بما فى ذلك الدعاوى والطعون المقامة قبل تاريخ العمل بهذا القانون.
هذا القانون يَغُلُّ يد الشعب المصري المالك الأصلي لأموال الدولة وأصولها، ويهدر حق المواطنين والعمال في كشف شبهات الفساد بتلك العقود التي غَدَتْ محصنة بالقانون، ويسهل عملية تمرير بيع الأصول ولو كانت سيادية، ويسهم في إهدار مقدرات الأجيال ولو كانت مصيرية، من أجل ذلك رفع بعض العمال دعوى عام 2016 بعدم دستورية القانون، وبسبب أخطاء إجرائية قررت المحكمة الدستورية – فى غرفة مشورة – عدم قبول الدعوى، ومصادرة الكفالة، وإلزام المدعى المصروفات! وفي عام 2017م أعدت لجنة من المحكمة الدستورية برئاسة المستشار طارق شبل تقريرا كتبه المستشار حسام فرحات، مفاده عدم دستورية قانون عدلي منصور لكون البرلمان فشل في التصويت عليه بنسبة الثلثين مع كونه من القوانين المكملة للدستور، وبحسب “الحرة” فإنّ المحكمة الدستورية قضت مؤخرًا للمرة الثانية برفض دعوى بطلان القانون؛ مما يؤكد أنّ الرئيس المؤقت كان يمهد للبيع الذَّريع.
الوثيقة المريبة والصندوق العجيب
وفي ديسمبر من العام المنصرم أعلن “مدبولي” عن موافقة السيسي على ما سمي حكوميا ب”وثيقة سياسة ملكية الدولة”، وسمي إعلاميا ب”وثيقة بيع أصول الدولة”، وتهدف الوثيقة حسب المعلن إلى إعادة هيكلة اقتصاد الدولة لصالح القطاع الخاص؛ ليصل إلى 65% ويُحَصِّل على مدى ثلاث سنوات 40 مليار دولار لخزينة الدولة، وبموجب ذلك يتم التخطيط للخروج الكامل من 62 قطاعا، وتخفيض الاستثمارات في 56 قطاعا، على مدى الأعوام القادمة.
ومن قَبْلُ – وفي ذات السياق – جاء إنشاء الصندوق السيادي، وقد أعطى قانون إنشاء الصندوق الحق للسيسي في نقل ملكية الأصول إلى ذلك الصندوق، بما يعني فتح الباب لبيع الآلاف من الأصول السيادية، مهما كانت أهميتها، صحيح أنّ الصناديق السيادية في العالم تربو على المائة، وأنّ بعضها كصندوق النرويج وصندوق الصين يربو على التريليون دولارا، لكن الغرض من إنشائها لم يكن قط في أيّ بلد من تلك البلدان من أجل جمع العملة الصعبة لسداد الديون، وإنّما غرضها الرئيسي هو جمع الفوائض من الموارد التي يتباطأ مسار تنميتها، وجعلها تحت تصرف الحكومة المباشر؛ من أجل تنميتها بشكل أفضل واستغلالها في جلب الاستثمارات وفي ضخ الأموال في البلاد للتنمية المستدامة.
واللافت للنظر أنّه بمجرد إنشاء الصندوق والإعلان عن الوثيقة والاهتمامُ منحصرٌ في بيع أصول المؤسسات الناجحة المحققة لأرباح عالية، لصانديق سيادية خارجية، والسؤال الذي يطرح نفسه – بحسب زياد بهاء الدين – لماذا لا يتم “انتهاز ذات فرصة انخفاض أسعار الشركات المصرية الكبيرة والناجحة من أجل حشد مدخرات المصريين واقتناص ذات الفرص التى جذبت الصناديق الأجنبية؟ لِمَ لا تكون صناديق الاستثمار المصرية هى الوسيلة الأساسية لجمع مدخرات الناس، وشراء أسهم الشركات الرائدة فى مثل هذه الظروف، والحفاظ على ملكيتها لمصريين دون التدخل فى آليات السوق أو فرض قيود على الاستثمار؟” أم إنّها الرغبة العاجلة فقط في حل أزمة ديون سَبَّبَها الفسادُ وسوءُ التخطيط؟! لقد خسرت البلاد كثيرًا في أواخر عهد مبارك بسبب موجة الخصخصة التي اجتاحت القطاع العام، والتي انحازت كثيرا للقطاع الخاص الداخليّ؛ فهل سنشهد موجة ثانية تنحاز هذه المرة لرأس مالٍ مُحْتَلٍّ؟!
الإحراق والإغراق
وتبلغ الأزمة ذروتها عندما يتم الجمع بين أمرين، كل واحد منهما على انفراده كفيل بِطَمْرِ الأجيال في الفقر والمسغبة، أحدهما إحراق والآخر إغراق، فأمّا الإحراق فهو بيع الأصول الذي لا يتوقف ولا يعرف أحد له نهاية، وأمّا الإغراق فهو الاستدانة التي – هي أيضا – لا تتوقف ولا يرى أحد لها نهاية، وأَنَّى لشعب أن يرى لنفسه حاضرا أو مستقبلا؛ والإحراق يطارده والإغراق ينتظره، على هذا النحو المخيف؟!
لقد حدث في أقل من عام بيع حصص ضخمة من شركات كبرى في قطاعات الموانئ والأسمدة والقطاع المالي بأثمان دون الأثمان العادلة بكثير، وبذلك وقعت خسارة حقيقية للاقتصاد المصري تقدر بعشرات المليارات من الدولارات؛ في ظلِّ فسادٍ وعدمِ شفافيةِ وغيابٍ كاملٍ لحريةِ تداولِ المعلومات، فقد تمّ على مدى عام 2022م إبرامُ صفقاتٍ والتفاوضُ في أخرى، جميعُها من أصولٍ رابحة ناجحة، كان منها – سواء ما أبرم بالفعل أو ما يقع فيه التفاوض – حِصَصٌ وأسهمٌ كبيرة من: أبوقير للأسمدة، وموبكو و”الإسكندرية لتداول الحاويات” و”توتال إنرجيز مصر” و”أوراسكوم” المالية وشركة(TCI) لنقل البضائع، و”الدلتا للسكر”، و”عبور لاند” للجبن والألبان، ومجموعة “أبوعوف” المصرية للأغذية، وشركة “مدينة نصر للإسكان”، و”مصر للألومنيوم”، وكذلك “البنك التجاري الدولي”، و”فوري” للخدمات المصرفية، وغيرها، هذا بالإضافة إلى ما تسرب من أنباء حول موانئ ومطارات يتم التفاوض على بيعها للصين، وحصص من قطاعات الغاز يتم التفاوض عليها لصالح شركات فرنسية وإنجليزية، أمّا قناة السويس فما يُرَتَّبُ لها يُعَدُّ الجائزة الكبرى للمتربصين والمصيبة العظمى لمصر.
دروس من الحاضر والماضي
إنّ أكبر صندوقين سياديين في العالم موجودان في النرويج والصين، كلاهما يركز جهوده على إعادة تفعيل الأرصدة الخاملة وادخارها للأجيال القادمة، هذه هي السياسة الرشيدة للصناديق السيادية، أمّا أن نحرق الحاضر ونغرق المستقبل فهذا انتحار إجباريّ لعشرات الإجيال، ولقد كان للمسلمين عبرة في تصرف أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب؛ عندما رفض تَخْميس الأرض المغنومة في سواد العراق وغيرها من البلاد المفتوحة، وفَضَّلَ أنْ تُوقَفَ على المسلمين؛ لئلا تحرم أجيال المسلمين القادمة منها؛ فهلا تعلمنا؟!
المصدر: عربي 21