لم يكنْ للنّاس في بداية أمرهم مِن سبيلٍ إلى تبادلِ السلعِ والخدماتِ إلا المقايضة، أي تبادل سلعة بسلعة، هذا الأسلوب في التداول كان يسبب عَنَتًا وحرجا بالغًا، إضافةً إلى تهديده للنشاط الإنسانيّ بالضمور، فاضْطُّرَّ الناس إلى اعتماد بعض السلع التي تتميز بخفتها وصمودها وثبات قيمتها كسلعة وسيطة، إلى أن اهتدوا إلى الذهب والفضة، وهذان أيضا شهدا تطورا، إلى أن تمَّ ضربُ الدرهم والدينار كعملتين أو نَقْدَيْن، فاشْتُهِرَ بين الناس في التعامل الدرهمُ الفارسيّ والدينارُ الروميّ.
الدرهم والدينار في الجاهلية والإسلام
استمر هذان النّقدان وسيطًا معتمدًا للتعامل والتداول حتى جاء الإسلام، فأقرّ التعامل بهما، وبنى على أساس اعتمادهما أحكامًا شرعية، كأحكام الزكاة والصرف والخراج، لكنّ الواقع آنذاك شهد بأنّ هذين النقدين تَعَرّضا لشيء من الغش في نهاية الدولتين الرومية والفارسية، تسبب في فساد ومظالم؛ مما دعا الحكام آنذاك لمراجعة الأمر، وتمخض ذلك عن ضرب النقْدِ الإسلاميّ من الذهب والفضة، بعد ضبط وزنهما، وفي الأحكام السلطانية للماورديّ أنّ أول من ضرب الدراهم المنقوشة عبد الملك بن مروان، وكانت العَشَرَةُ من الدراهم تساوي في الوزن سبعةَ مثاقيل، وهذا – بحسب ابن خلدون – إجماعٌ مقطوعٌ به منذ عهد الصحابة، أمّا المثقال فكان ثابتا محددا منذ أبد الدهر.
وقد اجتهد المعاصرون في بحث مسألة انضباط النقد الإسلاميّ واستقراره، وكذلك في معايرته بالأوزان المعاصرة، من ذلك أنّ الدكتور محمد ضياء الدين الريس نقل عن دائرة المعارف الإسلامية، وكذلك علي مبارك في كتابه “الميزان في الأقيسة والأوزان” أنّ وزن دينار عبد الملك هو 4.25 جراما، وهو ذاته وزن المثقال، وأنّ وزن الدرهم العربيّ بالجرامات يساوي 2.975 جراما، لأنّ 7 دنانير تزن 10 دراهم.
العملة الورقية وبداية الكوارث
في البداية دأب الناس في أوربا على إيداع أموالهم لدى صيارفةٍ يهود، ومع ازدياد الحركة الاقتصادية ازدادت ظاهرة الإيداع، فلمّا رأى الصيارفة أن نسبة كبيرة من الودائع تبقى لديهم فترة طويلة طفقوا يقرضونها ويأخذون عليها أرباحا، وكانوا يعطون المودعين إيصالات أمانة (لحامِلِهِ)، ثم اكتشفوا أنهم يستطيعون طباعة المزيد من الإيصالات الورقية أكثر مما لديهم من ذهبٍ، وإقراض تلك الأوراق المالية وتحصيل أرباح عليها، وكان هذا هو ميلاد نظام البنوك ونظام العملة الورقية ونظام الاحتياطي الجزئي.
ظهرت وانتشرت بالتدريج البنوك المركزية والبنوك التجارية، التي كانت مملوكة لعائلات يهودية مثل “روتشيلد” و”روكفلر”، وانتشر كذلك التعامل بالعملات الورقية ذات الرصيد الذهبي، وكانت تُعْتَبَرُ يومها إيصالات لحاملها بما أودعه من ذهب في البنك، وبعد الحرب العالمية الثانية فكر النظام العالمي في إحداث سلام نقدي على التوازي مع السلام السياسي، فظهرت فكرة إنشاء نظام نقدي دولي، وفي معاهدة “بريتن وودز” تم الاتفاق على إنشاء صندوق النقد الدولي، واعتماد الدولار الأمريكي عملة معيارية عالمية على أن يكون ثمن أونصة الذهب = 35 دولارا.
وتحت وطأت ظروف داخلية لجأت الولايات المتحدة إلى حيلة افتراسية، حيث أعلنت في 15 أغسطس عام 1971م تحللها التام من الالتزام بربط الدولار بقيمته الذهبية، واستمرار الدولار كعملة معيارية عالمية دون غطاء الذهب، ثم مع صعود نجم مدرسة “ميلتون فريدمان” وظهور اقتصاد السوق أطبقت القبضة الإمبريالية على الخلق، وبحسب “ألفريد أكس الابن” فقد “عَزَّزَتْ عولمةُ أواخرِ القرن العشرين كلًا من نقاط القوة ونقاط الضعف؛ إذ رفع مَدُّ العولمة الكثير من السفن وقلب غيرها”.
المخاطر الوبيلة للمنظومة المعاصرة
إنّ أخطر ما تمارسه البنوك اليوم هو عملية خلق النقود، هذه العملية التي تسببت في خلق الأزمات الكبرى والانهيارات الحادة التي يتعرض لها اقتصاد البشرية، يقول عالم الاقتصاد الشهير “إيرفينغ فيشر”: “يمكن أن نستنتج من ذلك أنّ أموالنا تحت رحمة عمليات الإقراض التي تقوم بها المصارف، والتي تمنح قروضًا لا على شكل نقود، وإنّما على شكل وعود بأن تمنح النقود التي لا وجود لها في حوزتها”، ويشير صاحب كتاب “استعباد العالم” “فالنتين كاتاسونوف” إلى آلية خطرة من آليات خلق النقود: “إنّ سندات الخزينة المزيفة تُمنَح من قبل المصارف على شكل قروض؛ هنا يُطِلُّ النظام المصرفي القائم على نظام الاحتياطي الجزئي برأسه الخبيث”، ويخلُص من ثم إلى نتيجة مزعجة: “إذا مضينا في نقاشنا أبعد فسوف نصل بكل تأكيد إلى نتيجة مثيرة للقلق: إنّ المنظومة المصرفية المعاصرة بالكامل غير شرعية”.
إنّ كلَّ دولار يطبعه اليوم البنك الفيدرالي الأمريكي؛ يقضم من ثروات شعوب الأرض، ويسلب من جيوب ساكني هذا الكوكب؛ بقدر ما يحدثه من تضخم حتميّ عالميّ لا يتوقف، ولسوف تبقى الأمم تعاني من هذا الظلم القائم الجاثم الدائم حتى تتحرر من هذه المنظومة البالغة القسوة؛ فأين السبيل؟!
هل من سبيل للخلاص؟
لا سبيل للخلاص من لكل ما تعانيه البشرية إلا بالعودة إلى كل ما هو فِطريّ، والنظامُ النقديّ الموافق للفطرة والمنسجمُ مع قوانين العدالة هو النظام المرتبط بالنقدين الفطريين: الذهب والفضة، يقول ابن خلدون في المقدمة: “ثم إنّ الله تعالى خلق الحجرين المعدنين، من الذهب والفضة؛ قيمةً لكل مُتَمَوِّلٍ، وهما الذخيرة والقَنِيّة … وهما أصل المكاسب”؛ ولعل ذلك هو السرّ في اختصاصهما ببعض الأحكام التي لا تنحصر الحكمة منها فيما ذكره البعض، وإنّما تتعداها إلى حفظ نظام العالم؛ بحفظ هذين النقدين وضبط التعامل بهما، فَقَدْ حَرَّمَ القرآنُ اكتنازهما، وحَرَّمَ النبيّ اتخاذهما أوعية للطعام والشراب، وشُرِعَتْ لهما أحكامُ الصرف؛ لضبط التعامل بهما والتداول لهما.
يقول الإمام الغزاليّ في الإحياء: “وكل من اتخذ آنية من ذهب أو فضة فقد كفر النعمة … وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة وظلم؛ لأنهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما … وموقعهما في الأموال كموقع الحرف من الكلام كما قال النَّحَويون إن الحرف هو الذي جاء لمعنًى في غيره”، وفي إعلام الموقعين لابن القيم كلام قريب في معناه من كلام الغزاليّ وابن خلدون.
إنّ الكوكب الأرضيّ اليوم يحاول التخلص من هيمنة العولمة ومن سطوة النظام الدولاري، ويحاول أن يجد سبيلا لمنظومة بديلة تتعدد فيها الأقطاب ويجري بينها التنافس، فلعل الأعوام القادمة تتمخض عن شيء يتيح هامشا للأمة الإسلامية والعربية، المهم هو تَوَفُّرُ الإرادة واستقلالُ القرار السياسيّ.
المصدر: الجزيرة مباشر