مصابٌ كبير وخطبٌ جَلَل حَلَّ بالأمة الإسلامية، زلزالٌ هائل ضرب جزءًا من قلب العالم الإسلاميّ، فخلَّف دمارًا مريعًا وموتًا ذريعًا، كمْ من عائلةٍ بأكملها مُحِيَتْ من الوجود محوًا، فلم يبق منها من يروي أخبارها أو يحكي للناس ما تقلبت فيه على مَرِّ الأيام وتَصَرُّمِ الأعوام من أفراح وأتراح! وكم من مَنْكوب فَقَدَ عائلته! وعائلةِ نُكِبَتْ في عزيزٍ أو أعزاء لديها! كمْ من طفل تَيَتَّم! وزوج تَأَيَّم! وأبٍ لم يَبْقَ له من ولد أو زوجة إلا ذكرياتٍ هائمة وأمانيَّ حالمة! كمْ من جريح لا يجد له في زحام الجرحى موضعًا يضع فيه جنبه المكلوم المشحون بالهموم والغموم! ثم بعد ذلك: كمّ من الأموال والأوقات والجهود ستبذل من أجل إماطة الخراب وإحلال العمران محلّ أسراب اليباب! كم من خسائر سياسية واقتصادية واجتماعية على المستويات كلها! كل هذا وقع في لحظة تراخت فيها الثواني وامتدت عَلَّها تبلغ الدقيقةَ أو تدنو منها، حَسْبُ الخلقِ كلِّهم من وصف ما وقع أنّه لا يفي به بيان ولا يحيط بضخامته لسان أو بنان.
وللحريق بَريق
ذاك كان الوجهَ المرعبَ المخيف، وعلى الجانب الآخر يتوارى وجهٌ رقيق لطيف، ألم تَرَ إلى الفَزْعَةِ الإنسانية كيف هبّت رياحُها لتمطر الرحمات على قلوب الفَزِعين الْمُرَوَّعين؟! كيف شَغَلَنا غسقُ الليل عن فَلَقِ الصبح؟ كيف أَلْهَتْنا النذارة عن البشارة؟! إنّ هذه الفزعةَ التي فزعتها الأمة لهي أكبر دليل وأقوى برهان على أنّها -برغم كل الضربات التي توالت على رأسها وظهرها وبطنها وكل مصون منها- لا تزال حيّة قوية فَتِيَّة، هذه الروح النابضة هي سرُّ البقاء، وهي القادرة على غَرْس الحياة بين أدغال الموت.
لقد رأينا الآيات والأحاديث كائناتٍ حيّةً تمشي على الأرض، وتغدو وتروح بين الخلق، لقد لمسنا عن كثب كيف تحول هذا المثل إلى واقع حيّ: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)، ورأينا كيف زحف الناس إلى الجنوب التركيّ والشمال السوريّ في مشهد يجسد هذا الشعار القرآنيّ العليّ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10)، إنّك لتستعيد في مخيلتك مشهد التدافع في مطار إسطنبول، لا لشيء إلا لِتُسَلِّيَ النفسَ عن هموم الحدث باستجرار ذكريات الشهامة والمروءة والنجدة، وإنك لتستحضر صور المتطوعين ومشاهدهم هناك وهم يعملون في دأب وحرص، فقط من أجل استجرار مشهد التكبير مع كل طفل ينقذونه في الرمق الأخير، أليس هذا يصدر عنك ويقع منك لما استقر وجدانك من عظمة الموقف ورقيّ المشهد؟
من تحت الأنقاض نولد من جديد
ما هذا التجلد وهذا الصبر وهذه النزعة الإيمانية التي أبدتها الأمة وهي تحت الأنقاض؟ وما هذه الرحمة وهذا الوفاء وهذه الإنسانية التي أبدتها -ولا تزال تبديها- وهي وسط الخراب تظلل بالقلوب والمشاعر والعواطف المغيبين تحت الأكوام العسرة، وتمطرهم بدموع أصفى من الندى وأصدق من همس القلوب؟ كم هو مهيب وجليل مشهد طفل يخرج من تحت الركام باسمًا للجموع التي تهتف بالتكبير! وكم هو طهور وقُدْسيّ مشهد امرأة تمد يدها من تحت الهدم طالبةً غطاءَ رأسِها لأنّ حياءها أعلى وأغلى من حياتها! كم كان التكبير رائعًا وهو يدوّي كأنّه العيد مع كل فقيد يولد من جديد!
إنّنا -وإن كنّا نعيش مأساة القرن- نرْقُب الفجر الوضيء، ونستشرف الصبح المضيء، ونرى نهاية الليل في اشتداد ظلمته، وإذْ زُلْزِلْنا بعد أنْ مَسَّتْنا البأساءُ والضراء، فإنّنا ننتظر نصر الله، ونراه قريبًا بإذن الله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة: 214)، وهذه علامات قربه وإرهاصات قدومه: التراحم والتكافل والتضامن والتعاطف، والاستغاثة بالله والتضرع إليه، والتشبث بعرى الإيمان رغم اشتداد الخطوب، والاعتصام بحبل الله رغم جثوم الأهوال والكروب، فأبشروا وبَشِّروا ولا تُرَوِّعوا ولا تنفروا، وضمدوا جراحكم وسيروا، وغالِبوا ما تبقى من الليل، فعند الصباح يحمد القوم السري.
صَحِّحْ رؤيتَك واضْبُطْ بَوْصَلَتَك ثم انْطَلِقْ
اغلق نوافذك في وجه الخواطر الرديئة والمفاهيم الركيكة، لا تسمح لها بالولوج إلى قلبك أو التمكن من نفسك، مخطئٌ مَنْ يُعَمِّمُ القولَ بأنّ الزلازل عقوبةٌ من الله للمنحرفين والعصاة، وأَفْحَشُ منه خطأً مَنْ يُسْلِمُهُ البلاء إذا امتدّ واشتدّ إلى ضعف الثقة في صلاحية هذه الأمة للانطلاق من جديد، فليس صحيحًا ذلك التعميم، وليس واقعيًا ذلك التيئيس، إنْ هي إلا أوهامٌ نَتَجَتْ عن ضعف الفقه مع اشتداد الرغبة في الوعظ والإرشاد بلا رَوِيَّةٍ ولا رشاد.
ينبغي أن تُفَرّقَ بين الخوارق والكوارث، فأمّا الخوارق فهي التي يَخْرِقُ الله بها القوانين لتكون معجزةً لنبيّه أو كرامةً لوليّه، أو لتكون عقوبة لأعدائه أو تأييدًا لأوليائه، فَأَخْذُ اللهِ لقوم هود بالريح العاتية ولقوم صالح بالصيحة المدوِّية من قبيل الخوارق لإيقاع العقوبة بقوم كفروا وفجروا، أمّا ما يجري بمقتضى القوانين والنواميس التي أودعها الله في الكون فهذا أمر آخر، كأن يقع زلزال لأسباب جيولوجية، أو يهب إعصار لأسباب مناخية، فهذه كوارث تجري وفق نواميس كونية، على سُنَنٍ إلهية متنوعة.
تجري بقدر الله تعالى لتحقق وظيفتين، الأولى: تحقق مراد الله في الكون، الأخرى: تحقق مراد الله تعالى بابتلاء قوم واصطفاء آخرين، فإن أصابت مِنْ خلق الله مَنْ أصابت فليسوا سواءً، فأمّا الذين آمنوا واتقوا فهي لهم اصطفاء واجتباء، وأمّا العتاة الظالمون فهي لهم عقوبة عاجلة قد تخفف من الآجلة، ثم إنّها للمجتمع الإنسانيّ كله موعظة، ليعلم النّاس أنّ الله على كل شيء قدير، ولِيَرَوا: كَمْ هو الإنسان ضعيف أمام قوة الواحد القهار! فلعلهم يرجعون إلى ربهم وينتهون عن غيهم.
وأختم بهذه البشرى النبوية التي تبدد غيوم البؤس والنّحس: (الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله)، نسأل الله لجميع من لقوا حتفهم تحت الهدم، من إخواننا الأتراك والسوريين، أن يتغمدهم برحمته وأن يهبهم رتبة الشهادة في سبيله.
المصدر: الجزيرة مباشر