الثواني الأخيرة
بقلم: عماد سعد إبراهيم
منذ أيام قليلة، فجعنا بزلزال مفاجئ مدته ثوان معدودة هزّ الأرض من تحت إخواننا في تركيا وسوريا، جعل من المدن أنقاضا وركاما وأثراً بعد عين. فهل اهتزت قلوبنا كما اهتزت بيوتنا؟!. اغلق عينيك لمدة ثوان معدودة… وتخيل أنها الأخيرة من حياتك وأنك مفارق بعدها لكل ما تحمله كلمة حياة من معنى… الأهل، الأحباب، الولد، المال، الجاه، السلطة، الأصدقاء والأعداء… وإن ملك الموت أصبح أقرب إليك من كل هؤلاء. ما من إنسان على وجه الأرض إلا ويخافُ فكرة الموت. هذا الشعور الفطري خُلقنا به؛ ولا يستطيع الإنسان إخفاءه أبدًا، أو الهروب منه مهما بلغ من قوة إيمان. نعلم أن الموت حَقّ وأن الساعة لا ريب فيها؛ يقول تعالى {إِنَّك مَيِّت وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}- 30 الزمر- ورغم ذلك نتشبّث بالحياة حتى الرمق الأخير. ويرجع السبب في ذلك إلى تلك الغريزة المتأصلة فينا نحن البشر، غريزة “حب البقاء”. إذًا ماذا لو كانت هذه الثواني هي الأخيرة من حياتك؟ ماذا لو كنت تعرف مسبقًا أنك اليوم ستُقبض وأنك مفارق؟ تُري كيف ستتعامل مع يومك الأخير هذا أو مع هذه الثواني الأخيرة؟!
حوار مع النفس
فكّرتُ في الأمر كثيراً وأخذتُ الأمر على محمل الجَدّ، وحاولت ترويض نفسي حدّ الاقتناع بمبدأ، أن اليوم يومي الأخير في هذا العالم، أو ربما الثواني الأخيرة. يبدون الأمر وكأنّه مجرّد تَحَدٍّ، إلا أنّ ثمة خوفا بل قل زلزلة شديدة ما انفكّت تتوغّل بداخلي. حالة هائلة من الخوف والارتباك ممزوجة بصمت غريب مع عدم القدرة علي التخيل أو الكتابة؛ ماذا لو انقلب السّحر على السّاحر؟! وأصبح التحدي حقيقة حتميّة؟! وإذا بي أحضر ورقةً وقلمًا وشرعت في كتابة الأشياء التي أريد فعلها في اللحظات الأخيرة قبل رحيلي عن هذه الدنيا. بدا الأمر وكأنني القاضي والمتّهم في ذات الوقت. وجدت نفسي غريق في بحر من مشاعر متضاربة ما بين الأمل والرجاء، فأتذكر أخطائي ومواطن تقصيري وكيف يجب أن أعالجها تارة، وأحصر آمالي وطموحاتي التي لم تصل حتى الآن إلى مرساها تارة أخرى. وجدتني أتنازل وبكل سهولة عن كثير مما يستحوذ على أغلب وقتي ويشغل جُل تفكيري، وأتجه إلى أمور أخرى لم تكن في صدارة اهتماماتي، فأصبح الكثير من المهم لا يعني لي شيئا، وصعد كثير من المؤجل إلى أعلى سلم الأولويات! لكن الأهم هو اختياري لعمل صالح، تنسدل عليه ستار الفصل الأخير من رحلتي في هذه الحياة، اقتداءً برسولنا في الحديث الشريف: “إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها”، كان الأمر وكأن شريط حياتي الماضي والقادم يُعرض أمام عيني في ثوان معدودة!… حقيقة لم يبدوا الأمر سهلاً كما تخيلت! ما أضعفك أيها المسكين!!
دروس وعِبر
ثلاثون ثانية فقط حملت لنا في طياتها أروع الدّروس وأكثرها تحريكا للقلوب وهزاً للأرواح، لعلّنا نراجع أنفسنا وعلاقتنا بديننا وأمّتنا… رأينا بأعيينا علي شاشة التلفاز، السيدة التركية التي أعطت لنساء وبنات المسلمين في العالم درساً لا ينسي، حينما وصلت إليها فرق الإنقاذ فوجدتها على قيد الحياة، فطَلب منها بعضهم أن تخرج، لكنّها رفضت الخروج من تحت الأنقاض حتى يعطوها خِماراً (حجاب) تضعه على رأسها… في الوضع الذي كانت فيه يباح لها أن تتعجّل الخروج من تحت الهدم حاسرة الرأس؛ لأنّها لا تأمن أن تسقط عليها الجدران في أيّ لحظة، ولكنّها أبت إلّا أن تستر نفسها قبل ذلك فتلقي ربها بحجابها… فلله درّها.
درس آخر قدّمه شيخ سوري قضى ما يقارب 40 ساعة تحت الأنقاض، وصلت إليه فرق الإنقاذ، وقبل أن يَتمّ انتشاله من تحت الركام، طلب الماء ليتوضّأ في ذلك الجوّ البارد، فلمّا قالوا له: إنّك معذور في وضع لا يسمح لك بالوضوء. ألحّ على أن يحضروا له الماء، غير عابر بتعبه ووضعه وأبي إلا أن تكون لحظاته الأخيرة يقضيها بين يدي الله… فكمْ من الناس من يستهين بصلاته ويؤْثِر الواحد منهم دفء الفراش على القيام بين يدي الله… فلله دَرّك أيها الشيخ.
درس آخر سطره تاجر تركي مسلم، يملك بقالة كبيرة للمواد الغذائية، حينما حصل الزّلزال، فتح أبواب محلّه، ونادى في النّاس ورفع لافتة كتب عليها:“ خذوا كل بضاعتي للمتضررين، ولا تتركون منها شيئاً”. وآثر ما عند الله، نحسبه كذلك، لسان حاله: ((مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ))… فلله درك.
والدروس والعبر كثيرة جِدًّا، فمن الجرحى من يخرج من بين الركام يقرأ القرآن ولا يتوقف لسانه عن ذكر الله. ومنهم من يخرج من تحت الإنقاض مبتسماً صابراً محتسباً على الرغم من علمه بفقد كامل عائلته ولسان حاله: رضينا بقضائك يا الله، ولا يُري الله من نفسه إلا خيرا… فلله دَرّك.
حقيقة الدنيا
وها هو أحد الناجين من الزلزال, يلخص حقيقة الدنيا، ويقول: “قبل أيام، طردني مالك البيت بعد أن طالبني بزيادة مجحفة في الإيجار. ثم حدث الزلزال. الآن أنا ومالك البيت نتدفأ بنفس النار في خيمة الإيواء”.. ينبغي علي كل منّا أن يتذكّر أنّ كلّ يوم يستيقظ فيه وهو في عافية، وأهله وأبناؤه حوله بخير حال، وبيته سليم دافئ في برد الشّتاء، وعنده متاعه وطعامه، هو يوم يستحقّ أن يحمد الله في صباحه بقلبه وجوارحه وعروقه قبل لسانه. ينبغي عل كل منّا وهو يرى ما حلّ بإخوانه في ثوان معدودة اهتزت فيها القلوب قبل البيوت وأصبحت أثراً بعد عين، أن يتدبر بقلبه وعقله قول الحبيب r “من أصبح معافًى في بدنه، آمنا في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها”.
ضبط البوصلة
يقول الكاتب – علي جابر الفيفي – في كتابه الرقيق ( لأنك الله) , ” لماذا ننتظر جائحة تردنا إليه؟ ومصيبة تذكرنا باسمه؟ وكارثة نعود بها إلي المسجد؟ ألا يستحق أن نخضع ونلتجئ إليه دون جوائح وكوارث ومصائب؟هل كل ما أعطانا إيّاه من حياة وصحة وإيمان وأمان وسعادة قليل حتي لا ننكّس رؤوسنا إليه إلا ببليّة تنسينا كل أوهامنا, ولا يبقي في عقولنا معها إلا الله!عدّل بوصلة قلبك باتجاهه ثم سر إليه ولو حبوًا علي ركبتيك, ستصل بإذن الله, { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ}”.
يقول أحد الحكماء ” عش كل يوم في حياتك وكأنه اليوم الأخير، فأحد الأيام سيكون كذلك “..لا أحد يعلم متى وأين وكيف سيموت، ولا أحد منّا يدري لعله أول الراحلين صباح الغد، فلماذا هذه الغفلة يا ترى؟ ما دمنا سنهرع إلى الله، وسنعتذر لمن أخطأنا في حقهم، وسنقضي وقتاً سعيداً مع مَن نحب، إن علمنا أن الغد هو آخر أيامنا، فلماذا لا نقوم بذلك من الآن ما دام من المحتمل أن يكون الأمر كذلك؟! إنها دعوة لأن نراجع أنفسنا، ونعيد ترتيب حياتنا، ونعيد النظر في أولوياتنا ومشاغلنا، حتى نكون مستعدين للرحيل بقلوب أكثر رضا واطمئنان بما قدمناه في هذه الحياة.. جاء جبريل – عليه السلام – إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس”.