مَدَى مسؤولية الشعوب عن الديون القذرة

ما الذي جَنَتْهُ الأجيالُ القادمة؛ حتى تُولَدَ مقيدةً بآسار الديون الشائنة؟! بل: ما الذي جَنَتْهُ الشعوب التي ظَلَّتْ على مدى عقود ترزح تحت أغلال الاستبداد والفساد؛ حتى يُكْتَبَ عليها أن تلقى رَبَّها بعد طولِ عناء وشقاء مثقلةً بالديون لصالح المترفين الأثرياء؟! أليس من العقل والعدل أنْ نحكم على القوانين التي تحكم العالم بأنّها – على الأقل – عاجزة عن تحقيق العدالة؟ لماذا يجب علينا أن نبقى أبدًا مُعظمين لتلك القوانين وأن نظلَّ دَوْمًا مشدودين بوثاقها مربوطين في سواريها؟ هل يسوغ للبشرية أن تظلّ تتشدق بمعاني الإنسانية وهي ترى ما يُبْرَمُ من عقود بين الدائن والمدين ليس إلا مؤامرة ضدّ شعوب معذبة؟ تساؤلاتٌ صالتْ وجالتْ في الوسط العام؛ ليتمخض الوضعُ عن نظريةٍ وُلِدَتْ ثم تطورت ثم صار التعامل بها واقعا؛ فما قصة النظرية التي تعرضت للديون الكريهة؟ وما السبيل إلى تفعيلها؟ وكيف يمكن لشعوبنا إذا شاءت أن تتخذها سندًا للخلاص من آسار الديون المقيتة؟

ميلاد نظرية الدين غير المشروع

تنصُّ المادة 28 من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان على أنّ “لكل فرد حقّ التمتع بنظام اجتماعيّ ودولي يمكن أن تتحقق في ظله الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الإعلان تحقيقا تامًّا”، ويترتب على هذه المادة أنّ إسقاط الشعب للنظام يعني أنّ ما كان يبرمه من عقود – بما في ذلك الديون – لم تكن في الغالب محلّ رضى من الشعب؛ ومن ثمّ فالأصل أنّها لا تلزم الشعب؛ لأنّه ما سعى في إسقاط هذا النظام إلا وهو يرى أنّه لا يمثله.

    وانطلاقًا من الواقع المرير، وتجاوبًا مع أصداء التّظَلُّمِ الأُمَمِيّ من الممارسات التمويلية الشائنة؛ أصدر الفقيه الروسي “ألكسندر ساك” في عام 1927م “نظرية الدين البغيض” وذلك في مؤلفين له، اعتنى فيهما بقضية “إلتزامات الأنظمة الوارثة”، هذه النظرية “الكلاسيكية” للدين الكريه تنص على أنّه “إذا أَبْرَمَتْ سلطةٌ استبدادية دَيْنًا لا يخدم حاجيات الدولة ومصالحها، بل يُعَزِّزُ نظامَها الاستبدادي، ويقمع السكان الذين يقاومونها، فإنّ هذا الدين يكون دينًا كريها، وليس مُلْزِمًا للأمّة”.

موقف القانون الدولي والمحاكم الدولية

بموجب المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية؛ تُعَدُّ “نظرية الدين البغيض” مرجعًا للقانون الدولي العام، غير أنّ الأصل أن یُلزم القانون الدولي – بحسب مبدأ استمراریة الدولة – نظامَ الحكم الجدید بوراثة الإلتزامات القانونیة لنظام الحكم السابق؛ وذلك لأن التغیرات التي تطرأ على شكل نظام الحكم لا تؤثر في المركز القانوني للدولة، إلا أنَّ هذه القاعدة العامة لیست مطلقة؛ وذلك لأن نظریة التوارث في القانون الدولي لا ینطبق علیها ما ینطبق على نظریة التوارث في القانون الخاص، لذلك – وبحسب أستاذ القانون الدولي بجامعة بغداد محمد أحمد حمد – فإنّ هـذا الإلتـزام الأصليّ العـام لا یسـري تلقائیـاً علـى الـدیون، إذْ یجـب أن نفـرق فـي هـذا الصـدد بـین نوعــین مـن الدیــون، الأول تكـون الدولـة مُلْزَمَـةً به برغم حـدوث تغییـر فـي شـكل الحكـم؛ بوصـفها عقـود تـم إبرامهـا مـن جانـب الدولـة للمصـلحة العامـة للشـعب، أمّا الثـــاني فـإن الحكومـة الجدیـدة لا تكـون ملزَمة به.

    وإذا كانت خبرات ونظريات مشاهير القانونيين مرجعا للمحاكم الدولية فإنّ “ساك” لم ينفرد بهذه النظرية، فلقد تطرق إليها الكثيرون، من هؤلاء (هوغو كروشیوس) الذي أَكّـد أن العقـود التـي أُبْرِمـت مـن قِبَـلِ سـلطة؛ لأغـراض لا تحقـق المصـلحة العامـة یجـب ألّا تحتـرم، وأن العقـود التـي أُبرمـت مـن قِبَـلِ نظـام غاصـب أطـاح بنظـام شـرعي یجـب أن لا تحتـرم أيضا، أمّا “إريك توسان” فإنّ كتاباته تركزت على تبديد الغموض الذي يغشى نظرية الدين الكريه، وبحسب “حسين العزّي” فإنّ ما كتبه “توسان” يقتضي إدخال تعديلين على نظرية “ساك”، الأول: عدم إلزام الدولة المدينة بالرجوع لمحكمة دولية في تعريف الدين المقيت، والثاني: إلقاء عبء الإثبات على الدائن لا على المدين؛ لكون الديون المقيتة صارت من الوضوح بمكان، ويُعَدُّ ما جرى في الإكوادور في الفترة 2007-2009م سابقة تعطي الحق في تطوير نظرية الدين البغيض بما يسمح للدولة المدينة – بمشاركة وضغط المواطنين – بالقيام من جانب واحد بتعليق سداد الدين البغيض.

سوابق تاريخية ومسوغات واقعية

تُعَــُّد “معاهــدة فرســاي” مــن المعاهــدات التــي أشــارت مبكرا إلــى فكــرة الــدین المقیــت قبل ميلاد النظرية، فقد أعفت المــادة (254) من المعاهدة (بولنــدا) مــن ديونها التي كانت قد أبرمت لصالح ألمانيا؛ لكون الإجراءات التي اتخذتها ألمانیـا تعسفية استعمارية، وقبل ذلك أنكـــرت الحكومـــة المكســـیكیة الدیون التي أبرمهـا الـرئیس المخلـوع للمـدة مـن 1863 إلى 1867م، وفي 10 كانون الثاني من العام 1898 تضمنت معاهدة السلام الموّقعة في باريس رفض اعتراف أمريكا بالديون المترّتبة على كوبا، ثم بعد ذلك وفي 1947م تضمنت معاهدة السلام المبرمة بين إيطاليا وفرنسا: “من غير المتصور أن تتحمل إثيوبيا عبء الديون التي فرضتها إيطاليا من أجل ضمان هيمنتها الأراضي الإثيوبية”.

السبل الواقعية والحجج الداعمة

بحسب موقع (CADTM) “الشبكة الدولية للجنة: من أجل الديون غير المشروعة” فإنّ الحلول لن تكون قانونية قضائية محضة، لأنّ القوى والمحاكم الغربية تمثل حجر عثرة؛ لذلك فإنّ الحلول غالبا ستكون سياسية، وبضغوط شعبية، وعندئذ يقتصر دور الحجج القانونية على تحييد القوى الداعمة للدائنين، وبحسب المثالين النرويجي والأكوادوري فإنّ عدم توفر وصف الصالح العام في الدين هو المعيار الحاسم في وصف الدين بأنّه غير مشروع، كما يكفي بحسب (CADTM) إثبات أنّ الدائنين كانوا يعرفون أنّ النظام المقترض يخالف وقت إبرام القرض هذه المبادئ الأساسية.

    وثَمَّ مبادئ قانونية يقرّها الشرع الإسلاميّ، ويزيد عليها من لَدُنْهُ قواعدَ حاكمة، فمبدأ “منع التعسف في استعمال الحقّ”، ومبدأ “حسن النية في العلاقات الدولية”، ومبدأ “البطلان الجوهري للفعل القانوني في القانون الدولي”، جميعها مبادئ تقرها الشريعة، وتزيد عليها قواعد داعمة، مثل: “تصرُّف الإمام على الرعية مَنُوطٌ بالمصلحة”، و”الأمور بمقاصدها” و”العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني”، إضافة إلى ما اتفقت فيه المواثيق الدولية مع الشريعة من تقرير حقوق الإنسان ورفع الظلم والقهر عنه، وجميعها ثوابت داعمة للتحرير الكبير، عندما يأتي أوانه، وإنّه لآت، وكل آت قريب.

المصدر: الجزيرة مباشر