ما أشَدَّ احتياج الحياة السياسية التركية إلى جبهة معارضة حقيقية تمارس السياسة بحكمة وكياسة؛ لتُسْهِمَ في تنضيج الحالة السياسية، وتنميةِ الوعي السياسي لدى الجمهور التركيّ، ولِتَحْمِلَ الحكومة بالحجة والمنطق على تصحيح أخطائها، ولِتَكونَ البديلَ الواعدَ الذي يُشْعِرُ المواطنَ التركيّ بأنّ اختياره يأتي في سياق تداول السلطة بين أنداد أكفاء، وليس من قبيل التصويت العقابي الانفعاليّ أو التعبير عن مجرد الرفض السياسي للحزب الحاكم! فإنّ الملاحظ بقوة أنّه لا توجد جبهة سياسية يمكن أن تُقْنِعَ الجمهور بأنّها تصلح لأن تكون بديلا عن أردوغان وعن العدالة والتنمية، وإنّما الذي يوجد – وبقوة وعنف – هو حالة من التشنج والهياج السياسي والإعلامي، بلا برنامج ولا رؤية ولا مشرع، فهل لإعلام المعارضة دور في صناعة هذه الحالة من الكآبة، التي تتمثل في رفض الوضع السياسي مع افتقاد الأمل في البديل؟
هل تمتلك المعارضة قوة إعلامية ضاربة؟
على الرغم من سعي الحزب الحاكم في تركيا لامتلاك وسائل الإعلام المؤثرة والقادرة على صناعة الرأي العام؛ فإنّ المعارضة التركية – بدعم من جهات داخلية وخارجية عديدة – لا تزال تمتلك قوة إعلامية أكثر نفوذًا وتأثيرا، وتمتلك إلى جانب ذلك إمكانية للكذب والتضليل ربما يتجانف الحزب الحاكم عن التلبس بها في غالب أمره، ومن هنا فهي أقدر على صناعة الوعي المزيف من قدرة الحزب الحاكم على صناعة الوعي المضاد لذلك الوعي المزيف، والجماهير حَسْبَما بَيَّنَ “غوستاف لوبون صــ 36-80” تتسم – حال توجهها الغاضب – بالنزق والسذاجة والخفة وسرعة الانفعال والتأثر والتصديق لأيّ شيء يقال؛ فمن السهل لِمَنْ يفقدُ الأخلاقَ ويحوزُ الإعلامَ أن يفعل ما كان يُؤصّلُ له “إدوارد بيرنيز” تلميذ فرويد، الذي قال بصراحة ووقاحة: “لو أنّنا فهمنا آليات العقل الجماعي ودوافعه؛ أليس من الممكن السيطرة على الجماهير؟ وإخضاعهم لنسق موحد حسب رغبتنا، دون أن يدركوا ذلك؟”.
لقد استطاعت المعارضة التركية أن ترسخ في أدمغة الجماهير أكاذيب أسطورية، أشد إيغالا في الخيال الدراماتيكي مما يصنعه إعلام الأنظمة المستبدة في كثير من بلدان العالم، وذلك عبر تقنيات تستعمل – بحسب سيكلوجية الجماهير – الصور والكلمات والخطب والشعارات والأوهام والإلحاح؛ في التأثير على الجماهير، أحد هذه التقنيات التكرار، وقد خبر السياسيون هذه التقنية وجربوها، فهذا جورش بوش يوجه حملته الدعائية قائلا: “عليك أن تكرر الأشياء مرة بعد مرة حتى تستقر”، ومن هذه التقنيات ما تسميه نظرية “بافلوف” بالتعليم الشرطيّ، وهي تعتمد – حسب كتاب هندسة الجمهور – على ثلاثة عناصر مرتبة متتالة؛ أولها: تداعي المعاني، حيث يتم الإقران بين المثير الحقيقي والمثير الإضافي؛ فيتعدى أثر الحقيقي إلى الإضافي بكثرة التكرار، ثم يستقل الإضافي بالتأثير، كإقران مشهد إرهاب كمثير رئيسي بمشهد مسلم يصلي في ثياب بيض كمثير إضافي، ومع التكرار يكفي مشهد المثير الإضافي للتأثير في الجماهير، ثانيها: التعزيز والتدعيم، فمثلا تستخدم بعض المحفزات الجنسية لتدعيم وتعزيز المثير الإضافي، ثالثها: المحاكاة، مثل أن يأتي في الدعايات السياسية مشهد جماعة – هم ممثلون في الحقيقة – ليظهروا بمظهر السعداء بمنح أصواتهم لمرشح معين، وغير ذلك من التقنيات التي تستخدم الوسائل المتعددة سواء منها المقروءة أو المسموعة أو المرئية أو وسائل التواصل الاجتماعي كالفيسبوك وتويتر وغيرهما.
وللكآبة مصادر صناعية
لم يستطع زلزال القرن الذي ضرب عشر ولايات تركية فتركها يبابا وخلفها خرابا أن ينافس إعلام المعارضة التركية في صناعة الكآبة، بل إنّه لولا استثمار هذا الإعلام للكارثة في نشر سحائب الكآبة لتمحضت لغرس روح التحدي، في شعب ترجع أصوله إلى قبائل رحالة، صارعت الظروف الطبيعية وغير الطبيعية وعاندت التحديات الجسام من أجل أن تجد لها وطنا مستقرا، لقد نجح هذا الإعلام العجيب الخارق في صنع أسطورة تربط بين مصاب الأمة التركية في الزلزال ومصابها في حكم أردوغان بحيث تبدو الكارثة وكأنّها حلقة في سلسلة الكوارث التي لا مبدأ لها ولا منتهى إلا هذا الحكم، فما أقبح الكذب!
هذا الإلحاح الإعلاميّ الذي لا يكل ولا يمل على معنى واحد هو شيطنة حكم أردوغان، هذا الإلحاح المرضيّ عندما لا توجد معه رؤية مقابلة ملهمة، ولا مشروع مواز مقنع، ولا أشخاص معارضون يوثق بهم؛ تكون النتيجة هي حالة من الكآبة العامّة الطامّة؛ مصدرها شعور الناس بالورطة مع عدم رؤيتهم للبديل، هذا الشعور عندما يستقر ويستمر لا تبصر أعين الناس قط ما تفعله الحكومة لهم، كأنّ الكآبة المصنوعة غشت عليها، وهذا في الواقع من أفدح الظلم للشعوب وللأنظمة الحاكمة على السواء.
وعلى التوازي توجد تقنية إعلامية أخرى تعمل على بث الكآبة، عن طريق تصوير العالم خارج حدود تركيا – ولاسيما العالم الغربيّ – على أنّه جنة أرضية في متناول الخلق وبين أيديهم، مع تصوير الحياة داخل تركيا على أنّها التعاسة والشقاء قد تجسدا في صورة شعب بائس محروم، والتكرار والإلحاح كفيلان وحدهما بتحويل الخرافة إلى حقيقة؛ لذلك – وعلى الرغم من الوثبة الحضارية الواعدة على كافّة الأصعدة – تجد نسبة كبيرة من الشباب تقفز أحلامهم خارج أسوار تركيا الحديثة؛ لا لشيء إلا لما يرسخه إعلام المعارضة من الشعور بالضياع العام؛ فهل هذه معارضة يمكن أن يعول عليها إذا آل إليها الحكم؟!
أين المخرج للتجربة التركية الرائدة؟
لا بديل – إِذَنْ – عن هذا الوضع الكارثيّ إلا بالإحلال والإبدال، أعني إحلال معارضة محلّ معارضة، وزحزحة هذه المعارضة البغيضة المريضة بالمزاحمة السياسية الصادقة بعيدا عن حلبة الصراع السياسي، أمّا حكم أردوغان وحزبه وحلفه فلا خوف عليه، فسوف يستمر على الرغم من الجعجعة السياسية للطاولة السداسية؛ هذه هي نواميس الحياة وقوانين السياسة، ولعل المجتمع الدولي أدرك ذلك فخفف من لهجته ضد أردوغان، لكنّ الخوف من ضمور الحياة السياسية بعد ذلك وانحدارها إلى شيخوخة مبكرة؛ بسبب غياب المعارضة الحقيقية، أو غياب ما يسميه الفقه السياسي الإسلامي بالحسبة السياسية، تلك التي لا وجود لها في تركيا، لا على المستوى السياسي ولا الأكاديمي ولا حتى الشرعي.
المصدر: الجزيرة مباشر