لا أدري إذا كان الأزهرُ قد قام بمراجعة هذا المسلسل البائس أم لا، ولا أدري -كذلك- ما إذا كان المؤلفُ والمخرج والمنتج وغيرُهم ممن تَوَلَّوا هذا العمل المتخلف لهم تَوَجُّهٌ مُعَيَّنٌ هو الذي حملهم على هذا التشويه للإمام؟ أم إنّه -فقط- الهبوط والإسفاف ورداءة الأداءِ الفنيّ؟ كلُّ الذي أدريه -ولا أعتقد أنّ أحدًا ممن شاهدوا ولو مقطعًا واحدا من المسلسل لا يدريه- أنّ الْمُنتَج النهائيَّ ليس إلا صورة هزيلة ومشوهة للإمام الشافعيّ، ومع استمرار عرض مسلسل «رسالة الإمام» برغم ما تعرض له من انتقاداتٍ شديدة؛ يتأكد لكل من له حظ من الفهم أنّ إظهار الشافعيّ الإمام بصورة مبتذلة ممتهنة أمرٌ مقصود ومُتَعَمَّد؛ فلماذا يفعلون هذا؟ ولماذا الشافعيّ تحديداً؟ وهل ثَمّ سياقٌ مُتَّهَمٌ جاءَ فيه هذا المسلسل؟
لهذا السبب يستهدفون الإمام
في سياق الحملة المسعورة التي تستهدف تجديد الخطاب الديني، يحتل النقد الأبيستمولوجي موقع الصدارة في أعمال الحداثيين العرب، وهؤلاء لا يريدون أن يعترفوا لهذا الدين بأنّه جاء للناس بنظرية في المعرفة غاية في الرشد، وفي الوقت ذاته لا يجرؤون على مواجهة الإسلام نفسه بما لديهم من نظرية أبيستمولوجية مناهضة لمنهاجه الحكيم؛ فآثروا أن تكون المعركة مع رمز كبير يحمل التُّهمة عن الإسلام؛ وهنا يبرز الشافعيّ؛ أليس هو من وضع علم أصول الفقه في كتابه «الرسالة»؟ ألم يكن هو المؤطر للنظرية المعرفية في ميدان الفقه؟ فليحمل هو عن الإسلام اللوم والتسفيه، لا سيما وقد اشتُهر من بين الأئمة الأربعة بإعراضه عن الاستحسان والاستصلاح، إضافة إلى كونه أسس وكرَّس للإجماع الذي يثير ويلهب غدة تسكن في مناخيرهم، أمّا كراهيته لعلم الكلام -الذي تأثر كثيراً بالمنطق الأرسطيّ- ونهيه عنه، وحكمه فيمن يتعاطونه أن يضربوا بالجريد والنعال فتلك عند القوم سوأة لا تغتفر؛ فليتخذوه غرضًا بديلاً عن الإسلام نفسه، وليسرفوا في الحطّ من شأنه بعد أن يوهموا الخلق أنّه هو من أطر العقل العربيّ المريض!
ولنبدأ بأحدث نموذج وأقربه، فهذا أحد أبناء مؤسسة «مؤمنون بلا حدود»! وهو حاج دواق، يقول في مقطع مسجل له: «العقل الذي لا يزال يتكئ على الشافعيّ في القرن الثاني هو عقل يعيش أزمة نوعية.. الشافعيّ الذي ينتمي إلى شرطية تاريخية هي شرطية القرن التاسع للميلاد القرن الثاني للهجرة، الشافعي الذي أطَّر للوعي الإسلامي في زمان مضى وفق جهده وإمكاناته وأدواته الاجتهادية.. ألا يزال العقل الإسلاميّ يعتاش على تلك الآلية إلى يوم الناس هذا؟! إنَّ إنساناً مات منذ قرون لا يزال يؤطر عقلاً يفترض فيه أن يكون حيًّا! يجب على العقل الإسلاميّ أن يُسْتَفزّ استفزازاً جذرياً..»!
«الرسالة».. كتاب الشافعي الذي أصّل أصول الفقه
وإنّه لمن العجيب أن ينسب إلى الشافعي أنّه هو الذي أطّر العقل العربيّ أو الإسلاميّ لمجرد أنّه وضع كتابه «الرسالة» في أصول الفقه، مع أنّ الشافعيّ لم يبتكر هذه الأصول كلها، وإنّما جل هذه الأصول كان موجوداً، وأغلب ما قام به الشافعي هو الجمع والترتيب، ومن لديه أدنى اطلاع على أقوال وفتاوى السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم يدرك أنَّ الأسس والركائز لم تكن غائبة عنهم ولا نائية عن مداركهم، تلك الأسس والركائز التي تشكل ما يمكن أن يسمى بنظرية المعرفة التي أطَّرت العقل الإسلاميّ قبل الشافعي وإخوانه من أصحاب المذاهب، التي منها أنّ الكتاب والسُّنة هما مصدر التشريع، وأنَّ السُّنة حجة في العقائد والأحكام تلي الكتاب العزيز، وأنَّ العقل ليس بشارع استقلالاً رغم كونه أداة الاجتهاد، وأنَّ النصّ القرآنيّ -وإن كان منه المحكم والمتشابه- بيان للناس، وأنّ المتشابه فيه يُرَدُّ إلى المحكم، كل هذه الركائز كانت ولا تزال تنظم المعرفة وتؤطر للوعي من لدن الصحابة رضوان الله عليهم، وجميعها مصدرها الوحي، وليس فيها ما هو دخيل على الثقافة الإسلامية.
وكل هذا وغيره مما توسعت فيه كتب أصول الفقه إنّما هو في ميدان الشرعيات، وبالتحديد في مجال الفقه والتشريع، أمّا باقي الميادين سواء في الإلهيات أو الكونيات فإنّ القرآن الكريم قد وضع فيها أسس التفكير والنظر، بما في ذلك المنهج التجريبي والمنهج القياسي وغير ذلك، وجاءت في الكتاب العزيز أمثلة للاستدلال تجمع بين متانة البرهان وحلاوة البيان وجلال العرفان، مثل قول الله تعالى: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ {78} قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يس)، هكذا بإيجاز وإنجاز وإعجاز أقام القرآن برهاناً قاطعاً ساطعاً على قدرة الله تعالى على البعث، وردّ شبهة الملحد الذي تساءل: كيف يحيي العظام وهي رميم، وذلك في أخصر عبارة وألينها وأوضحها وأجملها، «فلو رام أعلم البشر وأفصحهم وأقدرهم على البيان، أن يأتي بأحسن من هذه الحجة، أو بمثلها بألفاظ تشابه هذه الألفاظ في الإيجاز ووضوح الأدلة وصحة البرهان لما قدر».
نظرية المعرفة في الإسلام
وقد بُنِيَ البرهان هنا على توفير المقدمات المتينة الراسخة؛ لأنّه «لا سبيل إلى دَرْكِ مطلوبٍ مجهول إلا من قِبَلِ حاصلٍ معلوم»، فذَكَّرَهم بخلقهم أول مرة؛ وفي هذا دليل على قدرة الله على الإعادة؛ «لكونهِا كالإنشاءِ بل أهونُ منْهُ في قياسِ العقلِ»، وذلك هو القياس المنطقيّ المسمى عند المناطقة بالقياس الحمليّ، وهو أعلى مقامات القياس المنتج للعلم الضروريّ، لذلك سموه القياس الجزميّ, ويأتي في الذروة من القياس الحمليّ الجزميّ هذا قياسُ الأَوْلى، كالذي اعتمدته الآية الكريمة؛ بما «يدل على أن إعادة الخلق أولى بالإمكان من ابتدائه»، والأمثلة في كتاب الله لا تكاد تحصر إلا بالاجتهاد.
فالإسلام جاء بنظرية أبيستمولوجية (نظرية معرفة) غاية في الرشد والمتانة، وجاء علم أصول الفقه ليؤطر المساحة المتعلقة بالتشريع فقط، وهو علم لم ينفرد الشافعي بوضعه، وإنّما درج عليه السلف، وهم كذلك ليسوا بواضعيه، وإنّما استلهموه من ملاحظتهم لمنطق الشارع الحكيم، لكنّ الحداثيين لا يعترفون بشيء من هذا، ولا يحبون أن يكونوا من أهل الاتباع؛ لأنّ الاتباع بزعمهم يلغي دور العقل.
ويلخص محمد عابد الجابري المنهج المرتضى عندهم، الذي استقوه من المدرسة «البنيوية»، فيرى أنّه لا بد من اتباع ثلاث خطوات للتعامل مع النص؛ الأولى: المعالجة البنيوية، ويجب التحرر من الفهم الذي تؤسسه المسبقات التراثية أو الرغبات الحاضرة، واستخلاص معنى النص من ذات النص من خلال العلاقات القائمة بين أجزائه، الثانية: التحليل التاريخي وذلك بربط النص بمجاله التاريخي بكل أبعاده الثقافية والاجتماعية والسياسية، الثالثة: الكشف عن المضمون الأيديولوجي للنص“.!
ولأجل الكشف عن المضمون الأيديولوجي للنص ذهب الجابريّ هذا المذهب المشين: «إنّ تنظير الخلافة والتشريع للحكم كان يتطلب وجود قواعد للتفكير تستطيع أن تبرر الواقع وتقننه بإضفاء الصبغة الشرعية عليه، وهذه القواعد لم تتوفر للعقل العربي بشكل مضبوط إلا مع الشافعيّ»! وعلى نفس دربه يمضي نصر حامد أبو زيد، الذي وضع كتاباً عن الشافعي بعنوان «الإمام الشافعيّ وتأسيس الأيديولوجية الوسطية»، يقول فيه: «.. هذا بالإضافة إلى أنّ النصّ كان قد ثبتت قراءته بلغة قريش؛ الأمر الذي يسوغ لنا افتراض أنّ دفاع الشافعي عن نقاء لغة القرآن من الأجنبيّ الدخيل ليس دفاعاً عن اللسان العربيّ كله فحسب، بل كان بالإضافة إلى ذلك دفاعاً عن نقاء لغة قريش، وتأكيداً لسيادتها وهيمنتها على لغات اللسان العربيّ، والحقيقة أنّ هذا الموقف لا يخلو من انحياز أيديولوجي للقرشية التي أطلت برأسها أول ما أطلت بعد نزول الوحي في الخلاف حول قيادة الأمة في اجتماع السقيفة»!
ولأنّ الشافعيّ اتكأ على العربية في الإبداع الأصوليّ، ولا سيما فيما يتعلق بدلالة الألفاظ على المعاني، فإنّ هذه اللغة التي برع فيها الشافعيّ وأتقنها ستكون عند حسن حنفي عقبة في طريق التجديد، فها هو يقول في كتابه «التراث والتجديد»: «يسيطر على هذه اللغة القديمة الألفاظ والمصطلحات الدينية مثل: الله، الرسول، الجنة، النار، الدين، الثواب، العقاب؛ كما هو الحال في علم أصول الدين، أو القانونية مثل: الحلال، الحرام، الواجب، المكروه؛ كما هو الحال في علم أصول الفقه، هذه اللغة لم تعد قادرة على التعبير عن مضامينها المتجددة طبقًا لمتطلبات العصر نظراً لطول مصاحبتها للمعاني التقليدية الشائعة التي نريد التخلص منها، ومن ثم أصبحت لغة عاجزة عن الأداء»!
البديل عن العقل العربي عند مهاجمي الشافعي
والبديل عن العقل العربيّ الذي أطره الشافعيّ بزعمهم هو عند الجابريّ المنطق الأرسطيّ، ويشترط أن يكون ذلك بالشرح الذي قدمه ابن رشد، أمّا وفق ما أدخله الغزاليّ من تعديلات فلا؛ فالغزاليّ هذا شافعيّ المزاج، يقول الجابري: «المنهج الأرسطي الذي أراد منه صاحبه أن يكون تحليلاً وأن يكون طريقة برهانية لتحصيل العلم من معارف يقينية سابقة، إن هذا المنهج الذي سمي المنطق قد تحول مع الغزالي إلى مجرد آلية ذهنية شكلية ! وكأنّ الرجل لا يريد شيئاً من الشرق الذي أخرج لنا الشافعيّ، فتراه رابضاً في الغرب وحده، فبعد أن اعتمد الأرسطية بنسخة ابن رشد طفق يثني على ابن حزم -الذي لم يعتمد القياس أصلاً- ويقول فيه هذا الكلام: «يصدر ابن حزم -إذن- عن رؤية للعالم ترفض جميع العناصر الأساسية في الرؤية البيانية.. ويتبنى طبيعيات أرسطو ومفاهيمها ونظرياتها البرهاني”!
أمّا البديل عن آليات الاجتهاد الأصولي لتجديد التراث فهي عندهم أدوات الحفر التي ابتكرتها المدرسة البنيوية في الغرب على يد سوسير، وليفي ستراوس وغيرهما، مثل الفليلوجيا والهرمنيوطيقا، وأزمة الحداثيين العرب وسائر العلمانيين أنّهم نَقَلَةٌ مقلِّدون، تدفعهم عَجَلَةٌ ليست بريئة باتجاه التعميم الذي لا يفرق بين التراث الغربي وما يلزم لنقده من آليات، وبين التراث الإسلاميّ وما يلزم لتجديده من آليات مختلفة، فالتراث الإسلاميّ مدعوم بالأسانيد محفوف بموانع التحريف والتبديل، أمّا التراث الغربيّ فَإنّه لِكَثرة ما تعرض له من انكسارات حادّة، مع كونه عار عن الأسانيد؛ يحتاج إلى نقد فيلولوجيّ وتفكيك بنْيَوِيّ عوضًا عن النقص الحاد في مستوى الأمان النقليّ عبر التاريخ.
هذه هي الأسباب العميقة التي تكمن وراء تعمد التشويه للإمام الشافعيّ، وليس خافياً على المتابعين ما دار من جدل في الفترة الماضية في مصر حول مسألة تجديد الدّين، حتى إنّها طرحت على القنوات الفضائية وفي برامج حوارية عديدة، ومن هنا جاء المسلسل ليبرز الشافعيّ وكأنّه شخص عاديّ، وفي صورة مبتذلة؛ حتى يسقط من نظر الجماهير كإمام، ويبقى شخصاً عادياً يسوغ بعد ذلك الهجوم عليه وعلى منهجه، أو بالأحرى الهجوم على الإسلام في شخصه وفي صورة منهجه، والله غالب على أمره.
المصدر: مجلة المجتمع