سؤالٌ لَطالَما راوَدَ عشّاق الحرية في كل مكان! ولَطالَما راود أيضًا الطامحين المنافسين الذين لا يَقِلُّون عن أمريكا في النزوع للهيمنة، ولكنّهم يَنْفسون عليها تفردها بها، سؤالٌ أثاره قادة الفكر وأرباب السياسة معًا منذ نهاية الحرب الباردة، ومنذ قيام ذلك النظام المتمحور حول قطب واحد؛ فهل سيتحقق ذلك الحلم الكبير؟ وهل سيتيح -إنْ تحقق- فرصةً لمن يَروم الخلاصَ ويَنْشُد الحريّة؟
الكلمة الأولى للقوانين الإلهية
وللقوانين والنواميس الإلهية الكلمةُ الأولى في هذا الباب، فإنّ الله تعالى -إذْ خلق الإنسان واستخلفه في الأرض- لم يتركه سدًى، وإنّما وضع له نوعين من النواميس، الناموس الشرعيّ والناموس الكونيّ، فالشرعيّ هو الذي أنزل الله به الكتب وأرسل به الرسل وناطَ به اختيار الإنسان، أما الكونيّ الإلهيّ فهو الذي وضعه الله في الحياة الاجتماعية على وجه الجبر، لا اختيار للإنسان فيه، فَمِن القوانين التي اشتمل عليها هذا الناموس سنّة التدافع، التي يحفظ الله بها للناس مصالحهم الدنيوية والدينية على السواء، لأنّ تدافع القوى لا يسمح ولا يتيح لقوة واحدة مهيمنة أن تطغى طغيانًا كاملا على الخلق فتُفْسِد عليهم معاشَهم ومعادَهم، وقد ورد في ذلك آيتان من كتاب الله، قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} (البقرة: 251)، وقال سبحانه: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (الحج: 40)، وبمقتضى هذه السنّة -{وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}- فإنّ تَمَحْوُرَ الوجودِ البشريّ بعد الحرب الباردة حول قطب واحد كان أمرًا استثنائيًّا مؤقتا؛ ما كان له أن يدوم ولا أن يطول، والاستثناء لا يضر بالقاعدة، بل يزيدها ثباتا ورسوخًا، وربما -وهذا مجرد اجتهاد شخصيّ- لولا تزاحم السنن لما وقع هذا الاستثناء، والله يفعل ما يشاء، لا رادّ لقضائه ولا معقب لحكمه ولا غالب لأمره.
لم يَلْبَث العلمُ أنْ قال كلمتَهُ مُبَكّرًا
بالأمس كان “ابن خلدون” واليوم “هنتنجتون” و”فريد زكريا” وغيرهما، فمِنْ قَبْلُ أَلْمَحَ ابن خلدون في المقدمة إلى القاعدة المطّردة، حيث شَبّه الدولة بالإنسان، وقرر أنّ “الدول لها أعمار طبيعية كالأشخاص”، وذلك قبل أن يستطرد في بيان المراحل والأطوار التي تمرّ بها؛ لتنتهي إلى الطور الخامس، طور “الإسراف والتبذير”، وهو عين ما ينغمس فيه المجتمع الأمريكيّ الآن، حتى صار سلوكًا استهلاكيًّا يصعب -بحسب نيال فيرجسون- تغييره ولو على المدى البعيد.
وما إن استوت أمريكا على عرش النظام الدوليّ معلنة تفردها بالهيمنة حتى انهالت عليها التنبؤات العكسية، وانسلت الأقلام لتسطر رؤية العلم المضادة للطموحات الأمريكية التي تترّست بأشواق “نهاية التاريخ” عند “فوكو ياما”، ويبدأ “هنتنجتون” تقرير نظريته في صدام الحضارات بالتنويه إلى حقيقة واقعية، فيقول: “في الوقت الذي تظهر فيه توقعات بعالم واحد في نهاية الصراعات الرئيسية نجد أنّ الميل للتفكير بعالمين كان يتردد دائمًا عبر التاريخ الإنسانيّ”، وفي موضع آخر: “ما يراه الغرب عالميًّا أو كونيًّا يراه غير الغربيين غربيًّا، وما يرحب به الغربيون كتكامل كوني حميد مثل انتشار الإعلام على مستوى العالم يستنكره غير الغربيين كاستعمار غربيّ شائن”، وبعدها يسهب في بيان المؤشرات الواقعية، فكان مما قال: “الاستعمار الأوربيّ انتهى، الهيمنة الأمريكية تنحسر، وذلك يتبعه تآكل في الحضارة الغربية، حيث تهب الأعراف العميقة الجذور واللغات والمعتقدات والمؤسسات الأصلية لتؤكد نفسها، القوة المتنامية للمجتمعات غير الغربية الناتجة عن التحديث تؤدي إلى إحياء الثقافات غير الغربية في أنحاء العالم”.
ثم يأتي “فريد زكريا” في كتابه “عالم ما بعد أمريكا” ليؤكد أنّ الهيمنة الأمريكية إلى زوال، فينقل عن “جابور شتاينغارت” في صحيفة “دير شبيغل”: “خسرت الولايات المتحدة صناعاتها الرئيسية، وتوقف شعبها عن توفير المال، وتزداد حكوماتها اقتراضا من المصارف المركزية الآسيوية، في حين أنّ منافسيها يزدهرون”، ويستمر في استقراءاته ليصل إلى نتيجة مفادها أنّ “الميزان يتغير مع كل عام ينقضي”.
وعلى تُؤَدَةٍ يتَجه الحراكُ السياسيّ صَوْبَ الهدف
“لستم مؤهلين لمخاطبة الصين من موقع قوة” كلمةٌ لها دلالات عميقة، لا أحسب أنّ سياسيًّا بوزن “يانغ جيه تشي” عضو مجلس الدولة الصينيّ يقولها للوفد الأمريكي إلا وهو يعبر عن دولة لها طموحاتها الكبرى، ولا أحسب أمريكا غافلة عن هذه الحقيقة المرعبة، فها هو وزير الخارجية الحالي “بلينكن” يحذر من سعي الصين إلى فرض هيمنة تكنولوجية؛ إذْ إنه في حال تحقق ذلك فإن العواقب على مكانة أمريكا العالمية ستكون هائلة، أمّا الثعلب العجوز “كيسنجر” فيرى أنّ ظهور بكين على أنها صانعة سلام من شأنه أن “يغير الإطار المرجعي للدبلوماسية الدولية في المنطقة”؛ وأشار إلى أن الدور الذي تقوم به الصين حاليًّا برعايتها للتقارب السعودي الإيرانيّ سيجعل إسرائيل أكثر حيرة.
ويتحدث الكثيرون عن مؤشرات واقعية لقرب زوال هيمنة القطب الواحد وحلول التعددية القطبية محلّه، ومن هذه المؤشرات تراجع دور مجلس الأمن -الذي يُعَدُ أكبر أدوات النظام القائم- بشكل كبير، ظهر ذلك جليًّا في شَلَلِهِ التام حيال الأزمة الأوكرانية، ومنها أنّه لا يصدّق أحد أنّ أمريكا يمكنها التدخل المباشر ضد الصين في أزمتها مع تايوان؛ بعد أن أحجمت عن التدخل المباشر ضد روسيا في أوكرانيا، وأنّ خروجها المهين من أفغانستان وقبل ذلك من العراق سيحتم عليها التريث، هذا إضافة إلى التراجع الكبير في العولمة؛ على أثر العقوبات الاقتصادية على موسكو.
أيمكننا نحن المسلمين فعل ذلك؟
ولم لا؟ فها هو هنتنجتون يتوقع فيقول: “إنّ دولة مركز إسلامية يجب أن يكون لديها موارد اقتصادية وقوة عسكرية وكفاءة تنظيمية وهوية إسلامية، والتزام بأن تكون قيادة سياسية ودينية للأمّة”، ثم يستطرد: “ماذا لو أعادت تركيا تعريف نفسها عند نقطة ما؟ يمكن أن تكون تركيا مستعدة للتخلي عن دورها المحبط والمهين كمتسول يستجدي عضوية نادي الغرب، واستئناف دورها التاريخيّ الأكثر تأثيرًا ورقيًّا”.
المصدر : الجزيرة مباشر