بين هذين الحالين يتقلب الإنسان أَبَدًا، بين حال القدرة والاختيار وحال الضعف والاضطرار؛ لذلك قامت فلسفة التشريع في الإسلام على التفريق بين أحكام العزيمة وأحكام الرخصة، وجاءت آيات الأحكام في القرآن في كثير من الأحيان مُذَيَّلَةً بهذه التعقيبات التي تراعي حال الضرورة، من مثل قول الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (المائدة: 3)، لكنْ ما يجب ألا نغفله أنّ ميدان السياسة هو أكثر الميادين التي يتجلى فيها أثر الاختلاف بين الحالين؛ ربما لأنّ ما كان من الأمور متعلقًا بالشأن العام أكثرُ تعرُّضًا لتقلُّب الأحوال، فهل من فِقْهٍ يُنظم هذا الاختلاف؟
التفريق الدقيق بين الحالين
فأمّا حال القدرة والاختيار، فهو الحال الذي تتحقق فيه للأمّة جملةٌ من المؤهلات، على رأسها الوحدة والتماسك الداخليّ، مع قدر كبير من التكافل والتضامن، بل والتحالف المتين في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية، إضافةً إلى مقومات النهضة المستمدة من الهوية الإسلامية للأمة ومن عمقها الحضاريّ والثقافيّ، والمحققة للشروط الواجب توافرها لتحقيق الوثبة الحضارية، كالحرية والعدل، وشرعية الحكم، واستقلال القرار السياسيّ، والخلاص من الهيمنة السياسية والاقتصادية العالمية، ففي هذه الحال تكون الأمةُ في مجموعها متمتعةً بالحدّ الأدنى من التمكن والاستطاعة؛ وعندئذ يجب عليها الأخذ بالعزيمة في كل ما يتعلق بالشأن العام، فَتَصْدُرُ عن أحكام العزيمة في جميع -أو أغلب- ما يسكن المساحات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، دونما تسويف أو تحريف، وهذا هو مقتضى قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 102).
وأمّا حال الضعف والاضطرار، فلا نجد له مثالًا أكثر وضوحًا وصراحة من هذا الحال، الذي تعيشه أمتنا اليوم، من التمزق والتشتت والتخلف والضياع وتسلط الأعداء، وغير ذلك مما لا يتسع المقام لذكره، ففي هذه الحال إذا وُجِدَتْ بلدانٌ قليلةٌ استطاعت -على وجه الاستثناء- أن تحقق قدرًا من الْمُكْنَةِ مع قدر غير يسير من الاستقلال السياسي والاقتصادي، لكنّها -لِمَا تَتَعرض له من تَرَبّص داخليّ وتضييق خارجيّ- لا تملك أن تحقق لأبنائها ما تصبو إليه قلوبهم من تطبيق أحكام العزيمة في شريعة الله تعالى، في الفضاءات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها؛ فعندئذ تعمل بأحكام الرخصة بضوابطها الشرعية؛ لتحقق قول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16).
والسياسةُ مسارِبُها دقيقةٌ ومسالكُها عويصة، وخياراتها في كثير من المواقف غاية في الصعوبة، لذلك فإنّ مبناها على الموازنة الدقيقة بين المصالح والمفاسد، وما من عملٍ فيها إلا وهو مشدود بين الطرفين: الخير والشر، وعَمَلُ السياسيّ هو تغليب الخير على الشر بقدر الإمكان؛ لذلك كان تعريف ابن عقيل للسياسة غاية في الدقة، إذ قال: “السياسة ما كان من الأفعال؛ بحيث يكون الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول ولا نزل به وحي”، وهو قريب من معناها في اللغة، حيث نقلت المعاجم استعمالاتها بما يكشف أنّها كلمة محمَّلة بحشد كبير من المعاني تدور جميعها حول الإصلاح والاستصلاح بقدر الإمكان، هذا الفرق بين الحالين يبيّنه الإمام الموصلي بهذه الطريقة الفذَّة: “مدار الشريعة على قوله تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} المفسر لقوله تعالى: (اتقوا الله حق تقاته) وعلى قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)”.
قواعد الممارسة السياسية في حال الاضطرار
لكنّ الأمر في حال الاضطرار ليس متروكًا لأهواء الناس، وإنّما وُضِعت القواعد الكلية التي تضبط المسار وتمسك الأمة من الانحدار، يأتي على رأس هذه القواعد قاعدة “الميسور لا يسقط بالمعسور”، ويفسرها قولهم: ما لا يُدرَك كلُّه لا يُترَك جُلُّه، وضرب ابن تيمية مثلًا لذلك بحال يوسف عليه السلام والنجاشي رضي الله عنه، فأمّا يوسف فبرغم ما بلغه من التمكين لم يكن في حال يؤهله لإقامة الحقّ كله وتحكيم منهج الله كاملًا، فأقام ما يمكن إقامته من الدين، وكذلك فعل النجاشيّ، برغم كونه ملكًا.
ومن القواعد الضابطة كذلك قاعدة “الضرورة تُقدَّر بقدْرها”، فلو فرضنا مثلًا -وهذا بعيد لو اعتصمنا بالوحدة- أنّ البلاد المسلمة غير قادرة على تحرير فلسطين وطرد اليهود، وحَمَلَتْها الضرورةُ على الكفّ مؤقتًا عن القتال، فيجب أن تكتفي بهذا المقدار، ولا يصح أن تتجاوز هذا الحدّ إلى التطبيع؛ لأنّ الضرورة تُقدَّر بقدْرها، وهذه القاعدة هي المقيِّدة لقاعدة “الضرورات تبيح المحظورات”، ومن المقيدات كذلك قاعدة “ما جاز لعذر بطل بزواله”، وقاعدة “إذا زال المانع عاد الممنوع”، وذلك حتى لا يستمر المكلف عاملًا بحكم الضرورة حتى بعد زوالها وانقشاع غمّتها، وجميعها قواعد متَّفَقٌ عليها، ومدوَّنة في مجلة الأحكام العدلية، وكتب القواعد الفقهية والأشباه والنظائر وغيرها من كتب أهل العلم.
أمّا القاعدة الأكثر شيوعًا والأوسع أثرًا فهي قاعدة “التصرف على الرعية منوط بالمصلحة”، وإذا كانت المصالح تتزاحم والمفاسد مثلُها تتدافع، بحيث يصعب جلب المصلحتين معًا أو دفع المفسدتين معًا؛ فإنّ الشريعة قد وضعت من القواعد ما يضبط الأداء بميزان دقيق، من هذه القواعد: “اختيار أهون الشرّين” و”ارتكاب أخف الضررين” و”تحصيل أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما”، فإن تساوت فإنّ “دفع المفاسد مقدَّم على جلب المصالح”، ثم تأتي القاعدة الأم “الأمور بمقاصدها” لتكون بمثابة (رمانة الميزان)، وهي تعني أنّ “الفعل الواحد يختلف حكمه باختلاف نية فاعله وقصده منه”، فقد يسافر إلى إحدى العواصم مسؤولان أحدهما مصيب مأجور والآخر خاطئ مأزور، وما فرق بينهما إلا القصد، وهو لا يُعرف بشق الصدر أو النبش في القلب، وإنّما يُعرف ويُقَيَّم في ضوئه المسؤول بقرائن الأحوال، وأدلة السياق والمساق والحال، وعلى المسؤول في دولة من تلك الدول القليلة النادرة أن يراعي تلك القواعد، وعلى آحاد الناس وجماعاتهم أن يصبروا عليه وينصحوا له، وعلى الجميع أن يسددوا ويقاربوا، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
المصدر : الجزيرة مباشر