حكم المقاومة للعدو الصهيوني .. طوفان الأقصى أنموذجًا
الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
تتعدد وتتنوع فصائل المقاومة للعدو الصهيونيّ في فلسطين، فهناك “كتائب عزّ الدين القسام”، وهناك “سرايا القدس”، وغيرها من الفصائل التي تقاوم الاحتلال الصهيوني لفلسطين، فما حكم ممارستها لهذا العمل من الناحية الشرعية؟ ما هو تكييف هذا الأداء بنظر الشريعة الغراء، هل هو من قبيل جهاد الطلب والغزو؟ أم من قبيل جهاد الدفع؟ أم من قبيل دفع الصائل الباغي؟ أم ماذا؟
المقاومة لغة واصطلاحًا
المقاومة (لغة) مفاعلة من القيام، وهي تستعمل معنويًّا في قيام الناس بعضهم على بعض، يقال: قاومه في المصارعة وغيرها، وتقاوموا في الحرب أي قام بعضهم لبعض([1])، وقاومَ يقاوم، مُقاومةً وقِوامًا، فهو مُقاوِم، والمفعول مُقاوَم، وقاومَ العدُوَّ: واجَهَهُ([2])، و(اصطلاحًا) هي: “مواجهة المعتدَى عليهم للمعتدِي بالقوة؛ بغرض رده عن عدوانه”، والمعتدي قد يكون محتلًا غازيًا، وقد يكون حاكمًا مستبدًا غاصبًا للسلطة، وقد يكون صائلا على النفس أو المال أو العرض، وقد شهد التاريخ حركات مقاومة كثيرة، كمقاومة الجزائريين للاحتلال الفرنسي، ومقاومة عمر المختار ومن معه للاحتلال الإيطالي، ومقاومة الفيتناميين للعدوان الأمريكيّ، والمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيونيّ بكافّة مراحلها.
التكييف الشرعيّ
من المعلوم للكافّة أنّ العدو الصهيونيّ قام باحتلال أرض فلسطين، ولم يكن له فيها أدنى حقّ، فهي أرضٌ إسلامية، فتحها المسلمون زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فليس لحاكم – أيًّا كان وضعُهُ – الحقُّ في أن يتصرف فيها بالتمكين لأعداء الأمّة منها؛ ليقيموا على أرض الإسلام دولة للكفر، ولو فعل حاكم ذلك بطل تصرفه ووجب ردُّه؛ لأنّ “تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة”، ولا مصلحة في ذلك للمسلمين، بل إنّه المفسدة المحضة، وفعلٌ كهذا يَبطُل ولو تم إنفاذه، وينقض ولو بأثر رجعيّ، وقد يسري البطلان على شرعية الحاكم نفسه وولايته؛ لأنّه يكون خيانة وهدمًا لمقتضى عقد الولاية في الإسلام، هذا على فرض أنّ له شرعية من الأساس؛ فكيف وقد علم بالاضطرار من الواقع السياسي المعاصر أنّ هذا النظام العربيّ الذي ولد من سفاح على فراش سايكس بيكو لا يسعد بأدنى درجات الشرعية، وأنّه يحكم الشعوب العربية باستدامة شريعة الغصب بقوة السيف؟
فلا معاهدات السلام التي اعترفت بدولة إسرائيل، ولا التطبيع الذي بنى عليها وانطلق منها إلى تحويل العلاقة مع الكيان المحتل الغاصب إلى علاقة طبيعية تحظى بالاحترام وتسعد بالشرعية، ولا جميع اتفاقيات الإذعان التي أبرمت ابتداء من كامب ديفيد ومرورًا بوادي عربة وأوسلوا وانتهاء بالاتفاق الإبراهيمي الذي يمهد لردة شاملة، لا شيء من ذلك كله يمكن أن يجعل للصهاينة حقٌّ في شبر من أرض فلسطين، وهذا كله على فرض أنّ المشروع الصهيونيّ لا غاية له إلا مجرد احتلال الأرض وغصبها؛ فكيف وقد علم بالاضطرار أنّ غاية المشروع الصهيونيّ – بالتحالف مع الصليبية – إجهاض المشروع الإسلاميّ؟
وعليه فإنّ الكيان الصهيونيّ كيان معادي، أغار على بلاد الإسلام ومقدساته، مدعومًا من النظام الدوليّ الصليبي الأمريكي الكافر؛ يستهدف – إلى جانب الاستيطان والغصب لأرض الإسلام ومقدساته – يستهدف الإسلام والأمة الإسلامية، ويمثل بهذا تهديدًا كبيرًا وخطيرًا ومستمرًا للشعوب المسلمة ولدينها؛ فمقاومة هذا العدوان ودفعه – ليس فقط عمَّا احتله في النكسة 1967م ولا عمّا اغتصبه بعد ذلك بالاستيطان – وإنّما عن جميع أرض فلسطين، هذه المقاومة في حقيقتها من جنس جهاد الدفع الذي تكلم عنه العلماء، وميَّزوه بأحكامه وشروطه عن جهاد الطلب، فهي ليست من جنس جهاد الطلب والغزو الذي هو فرض كفاية، وإنّما من جنس جهاد الدفع الذي هو فرض عين، وليس من قبيل ردّ الباغي ولا دفع الصائل؛ لأنّ البغاة – والخوارج والصائلين والمحاربين – كل هؤلاء مسلمون، وقتالهم له أحكام تختلف عن أحكام قتال الكفار المعاندين المحاربين لدين الإسلام.
الحكم الشرعيّ
إذا كانت المقاومة من جنس جهاد الدفع؛ فحكمها هو حكم جهاد الدفع، وحكم الجهاد – الذي هو القتال في سبيل الله – هو أنَّه فرض لازم وواجب محتم، هذا هو حكم الجهاد على وجه العموم، سواء كان جهاد دفع أو جهاد طلب، ومن المسلم به شرعًا وعقلا أنّ جهاد الدفع آكد من جهاد الطلب؛ ومن ثمّ فجميع ما يستدل به على وجوب الجهاد عمومًا من قرآن وسنة وإجماع ينصرف إلى جهاد الدفع قبل جهاد الطلب، ودلالته على وجوب جهاد الدفع أولى من دلالته على وجوب جهاد الطلب، وبتعبير أدقّ فإنّ أدلة وجوب الجهاد تدل على وجوب جهاد الطلب، ودلالتها على الدفع من باب أولى.
فالجهاد في سبيل الله دفعًا وطلبًا واجب، “ودليله الأوامر القطعية”([3]) الواردة في محكم التنزيل، والقاضية بالوجوب، بدلالات لا تردد في قبولها والعمل بها، كل دليل منها يقترب من القطع في دلالته على الوجوب، لكنها في مجموعها تفيد القطع واليقين وتورث العلم الضروري، وكم من قضية في كتاب الله تعالى حُسِمت وقُطع عنها الشك والارتياب بتعانق الآيات وتضافر دلالاتها، وإن كانت الآية الواحدة منها كافية في الدلالة على المقصود وفي ترتيب العمل والتكليف، وهذه هي سنة الشريعة وطريقتها مع المسائل الكبرى والأمور العظام، التي لها بالغ الأثر في أمَّة الإسلام.
ولو أنَّه لم ينزل في كتاب الله تعالى إلا هذه الآية من سورة البقرة لكانت كافية في إلجام المخَذِّلين وإفحام المثَبِّطين، وهي قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرهٌ لَكُم وَعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئًا وَهُوَ خَيرٌ لَكُم وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُم وَاللَّهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لَا تَعلَمُونَ} (البقرة 216)، فبإيجاز شديد: “هذا هو فرض الجهاد”([4])؛ فهذا الخطاب الرباني الواضح الصريح “يدل على فرض القتال؛ لأنَّ قوله: {كُتب عليكم} بمعنى: فُرِضَ عليكم، كقوله: {كُتب عليكم الصيام} [البقرة: 186]”([5]).
والإشباع يتجلى في إزجاء الأمر المفيد للوجوب داخل سياق يناقش بموضوعية وواقعية مبررات الوجوب، فالله تعالى في هذه الآية “أَمَرَ بالجهاد وهو مكروه للنفوس، لكن مصلحته ومنفعته راجحة على ما يحصل للنفوس من أَلَمِهِ، بمنزلة من يشرب الدواء الكريه لتحصل له العافية، فإن مصلحة حصول العافية له راجحة على ألم شرب الدواء”([6])، ومن هنا يُعَدُّ الجهاد – على ما فيه من مشقة – من مظاهر يسر هذه الشريعة؛ لأنّه يدفع مشقةً أكبر وعنتًا أشد وأفدح – لذلك جمع الله تعالى بين الأمر بالجهاد ونفي الحرج عن الشريعة؛ فقال: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78).
ولعل متحذلقًا يجد في جوفه بقيّةً من زفير الكلام فيجتهد في نفخه؛ زاعمًا – وكم بالمزاعم من مضحكات – أنّ هذه الآية كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيكُم إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوتُ إِن تَرَكَ خَيرًا الوَصِيَّةُ لِلوَالِدَينِ وَالأَقرَبِينَ} [البقرة:180] وإذا كانت الوصية ندبًا وليست بفرض فالجهاد مثلها! فيقال له: “قد كانت الوصية واجبة بهذه الآية، وذلك قبل فرض الله المواريث، ثم نسخت بعد الميراث، ومع ذلك فإن في حكم اللفظ الإيجاب إلا أن تقوم دلالة للندب، ولم تقم الدلالة في الجهاد أنه ندب”([7]).
وبرغم قوة الدلالة في الآية السابقة؛ أرى أنَّ الأقوى منها دلالة على الوجوب، والأشد منها دفعًا إلى العمل وسرعة الاستجابة هذه الآية العجيبة: {فَقَاتِل فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفسَكَ وَحَرِّضِ المُؤمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا} (النساء 84)، فما أقواها وما أجداها؛ حيث تدل على فرضية الجهاد ووجوبه من وجهين: “أحدهما: بنفسه؛ بمباشرة القتال وحضوره، والآخر: بالتحريض والحث والبيان”([8]).
وعظمة القضية تتجلى في أنَّ التكليف بالقتال هنا لا يرتفع وإن انفرد المكلَّف؛ لأن “في الآية إيماء إلى أنه صلى الله عليه وسلم كُلِّف بقتال الكافرين الذين قاوموا دعوته بقوتهم وبأسهم وإنْ كان وحده”([9])، فكأنَّ الآية تقرر الأصل الذي يجب أن يُستصحب ما لم يأت من الله ما يغيره، وهو أنَّ المسلم مكلف ولو كان وحده بالقتال؛ ليكف الله به بأس الذين كفروا، لكن رحمة الله الواسعة اقتضت إدخال الرخصة على هذا الأصل؛ فيُعَلَّق وجوب الغزو إلى حين الاستطاعة، مع بقاء واجب الإعداد له.
ومن تفرس في السياق علم أنَّ الخطاب إنما هو للرسول ولمن وراءه، يقول ابن عطية: “هذا أمر في ظاهر اللفظ للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، لكن لم نجد قَطُّ في خبرٍ أن القتال فرض على النبي صلى الله عليه وسلم دون الأمة مدةً ما، والمعنى – والله أعلم – أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في اللفظ … أي أنت يا محمد – وكل واحد من أمتك القول له – فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك، ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يستشعر أن يجاهد ولو وحده، ومن ذلك قول النبي عليه السلام «والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي» وقول أبي بكر وقت الردة: “ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي”([10]).
وهذه آياتٌ ثلاث، جاءت في سورة التوبة التي تأخر نزولها إلى العام التاسع؛ فلم ينسخ منها حكم، ولم يقدم على ما ورد فيها من أوامرٍ أمرٌ، جاءت متوالية لم يفصل بينها إلا آية تعهد فيها الحق تبارك وتعالى بنصرة رسوله ولو تخلى عنه كل الناس، وهي هذه الآيات البينات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُم إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلتُم إِلَى الأَرضِ أَرَضِيتُم بِالحَيَاةِ الدُّنيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} (التوبة 38)، {إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبكُم عَذَابًا أَلِيمًا وَيَستَبدِل قَومًا غَيرَكُم وَلَا تَضُرُّوهُ شَيئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ} (التوبة 39)، {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَموَالِكُم وَأَنفُسِكُم فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُم خَيرٌ لَكُم إِن كُنتُم تَعلَمُونَ} (التوبة 41).
ولقد تنوعت دلالات الوجوب في هذه الآيات وتقاربت، وتعانقت وتضافرت؛ لتنتج حزمة من الإلزامات الجازمة الحاسمة، فمن الاستنكار للقعود والتوبيخ عليه، إلى التهديد على ترك النفير والتوعد الشديد عليه، إلى الأمر المتناول لما خفَّ وثقل، باستقصاء لا يكاد يترك فسحة للاستثناء، والسبب في نزول هذه الآيات – وهو لا ريب يسهم في فهم المراد وإن كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب – هو ما روي عن ابن عباس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر حيًّا من العرب، فتثاقلوا عليه؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية([11])، ولعل هذا كان في تبوك، لذلك قالوا إنَّها نزلت في الحثَّ على غزوة تبوك([12]).
وقد “أورد المفسرون عن السلف أقوالًا في تفسير {خفافا وثقالا}؛ فقال بعضهم: كهولًا وشبانًا، وقال بعضهم: أغنياء وفقراء، وقال آخرون: مشاغيل وغير مشاغيل، وقيل: نِشاطًا وغير نِشاط، وقيل: ركبانًا ومشاةً، وقيل: ذا ضَيعَة، وغير ذي ضَيعة”([13]) ، لكنك إن عرفت طريقة السلف في التفسير وجنوحهم إلى ضرب الأمثلة التي يقاس عليها؛ تأكّدَ لك أن جميع هذه الأقوال داخلة في المعنى، واستطعت أن تسحب المعنى ليكون أكثر شمولًا، كما فعل الطبريّ؛ فبعد أن ساق الأقوال قال: “وقد يدخل في [الخفاف] كل من كان سهلًا عليه النَّفر، لقوة بدنه على ذلك، وصحة جسمه وشبابه، ومن كان ذا يُسرٍ بمالٍ وفراغ من الاشتغال، وقادرًا على الظهر والركاب، ويدخل في [الثقال] كل من كان بخلاف ذلك، من ضعيف الجسم وعليله وسقيمه، ومن مُعسِرٍ من المال، ومشتغل بضيعة ومعاش، ومن كان لا ظهرَ له ولا ركاب، والشيخ وذو السِّن والعِيَال”([14]).
وكثيرًا ما يتردد أنَّ الآية أو السورة إذا تكرر نزولها – وإن لم يتكرر ذكرها في المصحف- يكون تكرار نزولها هذا دالًّا على جلالة الأمر الذي انطوت عليه، كسورة الفاتحة مثلًا، فكيف إذا كانت الآية قد تكرر نزولها، وتكرر ذكرها بنصها وحروفها في المصحف؟! هذه الآية هي التي أضطَرُّ إلى ذكرها هنا بنصها الواحد في الموضعين: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغلُظ عَلَيهِم وَمَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَبِئسَ المَصِيرُ} (التوبة 73)، {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغلُظ عَلَيهِم وَمَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَبِئسَ المَصِيرُ} (التحريم 9)، والأصل في الأمر أنَّه للوجوب، مالم ترد قرينة صارفة، والأصل في الخطاب الموجه للنبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه له ولعموم أمته، ما لم يرد ما يقيده أو يخصصه، ولا قرائن قط من أي نوع في هذا الموضع ولا في غيره؛ فلا مناص من القول بالوجوب بكل ثقة وقوة ويقين.
والأمر هنا يتسع؛ ليشمل مع الكفارِ الصرحاء المنافقين الخبثاءَ؛ لكونهم تهديد للإسلام ودعوته أشد من تهديد الكافرين، وإن اختلف العلماء في الوسيلة التي يجاهَدُ بها المنافقون؛ أهي القتال أم الجدال، ولعل الأمر – وليس ههنا موضع البسط – يختلف من حال لآخر، فإن لم تقم بَيِّناتٌ ماديةٌ ينبني عليها قضاء، وكان نفاقهم يُعرف بالمواقف المحتملة، وبفلتات الألسنة والأقلام، وبالتفرس بآلياته المختلفة؛ اكتُفِيَ في جهادهم بالجدال، وإذا قامت بَيِّناتٌ يقوم بها قضاء فالحكم عندئذٍ هو حكم الزنديق الذي يُقتل دون أن يستتاب، وإن كانوا مع كونهم زنادقة متترسين بشوكة ومَنَعَةٍ وجب قتالهم كطائفة ممتنعة، وإن ثبت أنَّهم ليسوا سوى وكلاء لأعداء الأمة محتلين لبلاد المسلمين بالوكالة وجب قتالهم كقتال الكفار؛ ولعل هذا يفيد في توجيه اختلاف العلماء وفي تنزيله على الواقع المختلف زمانًا ومكانًا، وبهذا يمكن التعامل مع اختلاف العلماء في تفسيرهم حيث “قال بعضهم: أمره بجهادهم باليد واللسان، وبكل ما أطاق جهادَهم به… وقال آخرون: بل أمره بجهادهم باللسان… وقال آخرون: بل أمره بإقامة الحدود عليهم”([15]).
وبآية السيف نختم الاستدلال من القرآن – وإن لم تكن آخر الأدلة – ففي صدر سورة براءة التي أرسل بها النبيَّ صلى الله عليه وسلم عليًّا إلى أبي بكر ليؤذن بها في الناس وردت هذه الآية المحكمة: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشهُرُ الحُرُمُ فَاقتُلُوا المُشرِكِينَ حَيثُ وَجَدتُمُوهُم وَخُذُوهُم وَاحصُرُوهُم وَاقعُدُوا لَهُم كُلَّ مَرصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التوبة 5)، وبعدها بقليل جاءت هذه الآية متممة ومؤكدة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِاليَومِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعطُوا الجِزيَةَ عَن يَدٍ وَهُم صَاغِرُونَ} (التوبة 29)، وهاتان الآيتان وغيرهما – مما ورد في هذه السورة حاملًا الأمر للمؤمنين بقتال المشركين وأصناف الكافرين – لم تُنسخ قطعًا، والخلاف فقط إنَّما هو في مسألة: هل هي ناسخة لما قبلها من المراحل ومقررة للمرحلة الأخيرة فقط، أم إنها ليست ناسخة ولا منسوخة، وأنَّ العمل ماضٍ بكل آية في الواقع المشابه للمرحلة التي نزلت بتشريعها، والراجح – حسب ما عليه المحققون – الثاني دون الأول؛ إذ لا دليل على النسخ، ومجرد الترتيب الزماني واختلاف تواريخ النزول لا يكفي في القول بالنسخ، ولاسيما في جلائل الأمور.
وعلى التوازي تمضي مع الآيات أحاديث تفيد ما تفيده الآيات؛ ليتكامل الوحيان في إنضاج المحكم وتقريره، فهذا حديث ابن عمر مرفوعًا: «أُمِرتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشهَدُوا أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُم وَأَموَالَهُم، إِلَّا بِحَقِّ الإِسلَامِ وَحِسَابُهُم عَلَى اللَّهِ»([16])، وقريب منه في الدلالة على ما نحن بصدده ما روي عن أنس بن مالك مرفوعًا: «أُمِرتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا وَصَلَّوا صَلَاتَنَا وَاستَقبَلُوا قِبلَتَنَا وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا، فَقَد حَرُمَت عَلَينَا دِمَاؤُهُم وَأَموَالُهُم إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُم عَلَى اللَّهِ»([17]).
والمعنى في الحديثين أبين من أن يفتقر إلى بيان، عدا قوله «وحسابهم على الله» فالمقصود بها: حسابهم موكول إلى الله “فيما يستسرون به دون ما يُخِلُّون به من الأحكام الواجبة عليهم في الظاهر”([18])، وكذلك قوله: «إلا بحقها» وهذه فسرها الصديق للفاروق في حديث أبي هريرة الذي يدعم هذين الحديثين في أصل ما يدلان عليه؛ حيث قال له: «فإنَّ الزكاة حقّ المال» وذلك عندما قال له عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُمِرتُ أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَن قَالَهَا فَقَد عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ»([19])، فهذا الحديث الصحيح برواياته المتعاضدة من أكبر أدلة وجوب الجهاد؛ إذ صرَّح فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنّه أُمر بذلك.
وعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: «اغزُوا بِاسمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَن كَفَرَ بِاللَّهِ اغزُوا، وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغدِرُوا وَلَا تَمثُلُوا وَلَا تَقتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشرِكِينَ، فَادعُهُم إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَو خِلَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ، فَاقبَل مِنهُم وَكُفَّ عَنهُم ثُمَّ ادعُهُم إِلَى الإِسلَامِ، فَإِن أَجَابُوكَ، فَاقبَل مِنهُم وَكُفَّ عَنهُم ثُمَّ ادعُهُم إِلَى التَّحَوُّلِ مِن دَارِهِم إِلَى دَارِ المُهَاجِرِينَ، وَأَخبِرهُم أَنَّهُم إِن فَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَهُم مَا لِلمُهَاجِرِينَ وَعَلَيهِم مَا عَلَى المُهَاجِرِينَ، فَإِن أَبَوا أَن يَتَحَوَّلُوا مِنهَا، فَأَخبِرهُم أَنَّهُم يَكُونُونَ كَأَعرَابِ المُسلِمِينَ يَجرِي عَلَيهِم حُكمُ اللَّهِ الَّذِي يَجرِي عَلَى المُؤمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُم فِي الغَنِيمَةِ وَالفَيءِ شَيءٌ إِلَّا أَن يُجَاهِدُوا مَعَ المُسلِمِينَ، فَإِن هُم أَبَوا فَسَلهُمُ الجِزيَةَ، فَإِن هُم أَجَابُوكَ، فَاقبَل مِنهُم وَكُفَّ عَنهُم، فَإِن هُم أَبَوا، فَاستَعِن بِاللَّهِ وَقَاتِلهُم»([20])، وعَن أَنَسٍ أَنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «جَاهِدُوا المُشرِكِينَ بِأَموَالِكُم وَأَنفُسِكُم وَأَلسِنَتِكُم»([21])، وعن أبي هريرة قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَن مَاتَ وَلَم يَغزُ وَلَم يُحَدِّث بِهِ نَفسَهُ مَاتَ عَلَى شُعبَةٍ مِن نِفَاقٍ»([22]).
هذه الأدلة من الكتاب والسنة جعلت العلماء من كافة المذاهب ينصُّون نصًّا على الوجوب([23])، وجعلت الكثيرين ينصون على الإجماع؛ ليكون دليلًا يضاف للآيات والأحاديث يقطع التشغيب ويورث التسليم، فقد نقل القرطبي عن ابن عطية قوله: “والذي استمر عليه الإجماع أن الجهاد على كل أمة محمد صلى الله عليه وسلم فرض كفاية، فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين، إلا أن ينزل العدو بساحة الإسلام فهو حينئذ فرض عين”([24])، ويؤكد ابن رشد ذلك قائلًا: “فأما حكم هذه الوظيفة فأجمع العلماء على أنها فرض على الكفاية”([25])، ويدعم الخطيب الشربيني بالنقل عن القاضي عبد الوهاب، فيقول: “وَحَكَى القَاضِي عَبدُ الوَهَّابِ فِيهِ الإِجمَاعَ”([26])، وقد صرح القاضي عبد الوهاب في المعونة فقال: “ولا خلاف بين الأمة في وجوبه”([27])، وكذلك التميمي في الجامع لمسائل المدونة([28])، وقال الجصاص في جهاد الغزو: “ولا نعلم أحدا من الفقهاء يحظر قتال من اعتزل قتالنا من المشركين وإنما الخلاف في جواز ترك قتالهم لا في حظره فقد حصل الاتفاق من الجميع على نسخ حظر القتال لمن كان وصفه ما ذكرنا”([29])، كل هذه الإجماعات واقعة على وجوب الجهاد عمومًا وعلى وجوب جهاد الطلب على وجه خاص، وهذا ما سوف نضطر لاستدعائه مرة أخرى بعد قليل.
لذلك كله ولغيره معه لم يُلتفت إلى ما ورد عن بعض العلماء – وهم قلة – أنَّ الجهاد تطوع لا فرض؛ ليس لأنَّهم لا يستحقون الالتفات، فهم علماء أجلاء وخلافهم لو كان حقيقيًّا لعاق الإجماع، لكن لأنَّ العلماء فهموا من كلامهم أنَّهم يعنون أنَّ الجهاد الذي هو فرض كفاية يكون تطوعًا في حق الباقين من المسلمين إذا انعتق الكافَّة من عهدته بتحقق الكفاية بمن قام به منهم، لذلك وجه الإمام الجصاص قولهم هذا فقال: “يعنون به أنه ليس فرضه متعينًا على كل أحد كالصلاة والصوم، وأنه فرض على الكفاية”([30])، وفي موضع آخر قال: “وقد ذكر أبو عبيد أن سفيان الثوري كان يقول: ليس بفرض، ولكن لا يسع الناس أن يجمعوا على تركه، ويجزي فيه بعضهم على بعض، فإن كان هذا قول سفيان فإن مذهبه أنه فرض على الكفاية”([31])، وإلى قريب من توجيه الجصاص ذهب الكمال بن الهمام؛ حيث قال: “ويجب حملُهُ إنْ صحَّ على أنه ليس بفرض عين”([32])، وبعض العلماء لهم توجيه آخر بحمل كلامهم على حال أخرى فيقول: “وأما النافلة من الجهاد فإخراج طائفة بعد طائفة وبعث السرايا في أوقات العزة وعند إمكان الفرصة والإرصاد لهم بالرباط في مواضع الخوف”([33])؛ فما عاد هناك متسع للقول بخلاف الوجوب البات، وكل ما هو خلاف ذلك – على قلته – محمول على أوجه مقبولة تتسق مع القول بالوجب الذي عليه إجماع العلماء.
والحكم بالوجوب فصَّله العلماء، وبَيَّنوا أنَّه تارة يكون فرض كفاية وتارة يكون فرض عين، فالأصل أنَّهم إذا تكلموا عن الجهاد وعن وجوب القتال وجوبًا كفائيًّا فإنَّما يعنون بذلك الغزو، أي يقصدون جهاد الأعداء ابتداء، وهو ما يسميه الفقهاء جهاد الطلب، أمَّا الوجوب على التعيين فهو في حالات أهمها الدفاع عن بلاد المسلمين إذا غزاها الأعداء، فإذا تصفحت كتب الفروع في جميع المذاهب وجدتهم يتحدثون عن الجهاد الذي هو جهاد الطلب والغزو والفتح وينصون على أنّه فرض كفاية، ثم يتحدثون عن الواجب العيني فيذكرون منه جهاد الدفاع عن ديار الإسلام.
يقول ابن قدامة المقدسي – بعد أن بين فرض الكفاية – مبينًا النوع الثاني الذي يجب على الأعيان، ومفصلًا الحالات التي يتعين فيها الوجوب: ويتعين الجهاد في ثلاثة مواضع؛ أحدها: إذا التقى الزحفان، وتقابل الصفان؛ حرم على من حضر الانصراف، وتعين عليه المقام؛ لقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا} [الأنفال: 45]، وقوله: {واصبروا إن الله مع الصابرين} [الأنفال: 46]، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار} [الأنفال: 15]، {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله} [الأنفال: 16]، الثاني: إذا نزل الكفار ببلد، تعين على أهله قتالهم ودفعهم، الثالث: إذا استنفر الإمام قومًا لزمهم النفير معه؛ لقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} [التوبة: 38]، الآية والتي بعدها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «وإذا استُنفِرتم فانفروا»([34]).
ويقول المرغياني في الهداية: “الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به فريق من الناس سقط عن الباقين، أما الفرضية فلقوله تعالى: {وقاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة} [التوبة: 36] ولقوله – عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الجهاد ماض إلى يوم القيامة» وأراد به فرضًا باقيا، وهو فرض على الكفاية … إلا أن يكون النفير عاما فحينئذ يصير من فروض الأعيان لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {انفروا خفافا وثقالا} [التوبة: 41] وقال في ” الجامع الصغير “: “الجهاد واجب إلا أن المسلمين في سعة حتى يحتاج إليهم”، فأول هذا الكلام على أن الجهاد يجب على الكفاية، وآخره إلى النفير العام … وقتال الكفار واجب وإن لم يبدءوا للعمومات … فإن هجم العدو على بلد وجب على جميع الناس الدفع، تخرج المرأة بغير إذن زوجها، والعبد بغير إذن المولى؛ لأنه صار فرض عين”([35])، فلا شيء غير هذين: الوجوب الكفائي والوجوب العيني، فأمّا الكفائي فهو أصل الجهاد، أي جهاد الطلب لتكون كلمة الله هي العليا، والعيني للدفع.
ويقول الإمام ابن عبد البر المالكيّ: “والغرض في الجهاد ينقسم أيضا قسمين: أحدهما: فرض عام متعين على كل أحد ممن يستطيع المدافعة والقتال وحمل السلاح من البالغين الأحرار؛ وذلك أن يحل العدو بدار الإسلام محاربا لهم، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافا وثقالا وشبابا وشيوخا، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أو مكثر، وإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا قلوا أو كثروا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة، حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضا الخروج إليهم، فالمسلمون كلهم يد على من سواهم، حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها واحتل بها سقط الفرض عن الآخرين، ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضا الخروج إليه، والقسم الثاني: من واجب الجهاد فرض أيضا على الإمام إغزاء طائفة إلى العدو كل سنة مرة، يخرج معهم بنفسه أو يخرج من يثق به ليدعوهم إلى الإسلام، ويرغبهم ويكف أذاهم ويظهر دين الله عليهم، ويقاتلهم حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية، فإن أعطوها قبلها منهم، وإن أبوا قاتلهم وفرض على الناس بأموالهم وأنفسهم الخروج المذكور، حتى يعلم أنَّ في الخارجين من فيه كفاية بالعدو وقيام به، فإذا كان ذلك سقط الفرض عن الباقين وكان الفضل للقائمين على القاعدين أجرا عظيما وليس عليهم أن ينفروا كافة، وأما النافلة من الجهاد فإخراج طائفة بعد طائفة وبعث السرايا في أوقات العزة وعند إمكان الفرصة”([36])، فالقول بأنّ الجهاد نافلة وليس فرضًا منصرف إلى الإكثار من سرايا الغزو واحدة تلو الأخرى في وقت العزّ.
وبناء على ماسبق فإنّ مقاومة العدو الصهيونيّ الذي يحتل أرض فلسطين جهاد دفع، وهو فرض عين، يجب على كل من قدر عليه أن ينهض إليه، ولا يجوز التخلف عنه إلا بعذر، والوجوب العينيّ هنا يلزم أولًا أهل البلاد التي تعرضت للاحتلال، ويبقى على غيرهم من المسلمين فرضًا على الكفاية، فإن لم يكن بأهل تلك البلاد قدرة على دفع العدوان انتقل الوجوب العينيّ إلى من وراءهم، إلى أن يعمّ الأمة كلها، وحتى لو قيل في بعض الحالات بأنه فرض كفاية؛ فإنّ فرض الكفاية لا ينعتق المسلمون من عهدته حتى تتحقق الكفاية بالقائمين به؛ فإن لم تتحقق الكفاية بمن قام بالفرض أثم الجميع.
ويترتب على هذا أنّ معركة “طوفان الأقصى” التي وقعت في السابع من أكتوبر 2023م تعدّ من قبيل جهاد الدفع، الذي هو فرض عين، ويعدّ القائمون بهذه المعركة قائمون بجهاد دفع، يؤدون واجبًا عينيًّا عليهم؛ فيجب دعمهم، وتجب نصرتهم، ولا يجوز لومهم ولا التثريب عليهم، أمّا عن مدى إصابتهم في اختيار التوقيت وما شابه ذلك فهذا أمر يرجع إليهم فهم أهل الثغر وأصحاب الميدان، وهم مأجورون على اجتهادهم أصابوا أم أخطاوا ثم مأجورون على جهادهم، وإذا كان هناك من نصيحة تقدم لهم في هذا الصدد فينتظر بها إلى ما بعد انتهاء الحرب، أمّا تأنيبهم وتتبع عوراتهم والتثريب عليهم فهو إثم.
كما يترتب على ما سبق أنّ الأمة الإسلامية بأسرها يجب عليها أن تهب لنصرة أهل غزة وأهل فلسطين، وجميع المقاومين في كل مكان يعتدى عليه وكافّة المعتدى عليهم من المسلمين، بالترتيب ذاته الذي فصله العلماء، وأنّ الإثم يقع كل من تخلف وهو قادر على النصرة، فإن منعه من ذلك حاكم باء بإثمه، ويبقى على المسلمين واجب الضغط على الحكام ليصححوا مواقفهم من المقاومة، وأن يبذلوا وسعهم في الجهاد بالمال وبالدعاء وبالدعوة وبالدعم الإعلاميّ وغير ذلك؛ فإنّ المسلمين أمة واحدة، كالجسد الواحد، والمؤمنون أخوة، والميسور لا يسقط بالمعسور، وما لا يدرك كله لا يترك كله.
خلاصة البحث
1- طوفان الأقصى وسائر عمليات المقاومة الفلسطينية جهاد دفع، وجهاد الدفع واجب وجوبًا عينيًّا؛ فيجب على كل قادر على الجهاد بالنفس أو المال القيام في ذلك، وإذْ لم يكف أهل فلسطين بالقيام بدفع المعتدي فالواجب يتسع في تعلقه ليشمل بلاد الطوق ثم من وراءهم، إلى أن يشمل الأمة كلها.
2- يأثم الحكام الذين يمنعون المسلمين من المشاركة مع إخوانهم الفلسطينيين في دفع العدو الإسرائيليّ، كما يأثمون بامتناعهم عن المشاركة بالجيوش التي ينفق عليها من أموال المسلمين، وعلى الشعوب أن تمارس الضغط عليها لتتخذ مواقف أكثر مناسبة للحدث، إلى جانب واجب الإنفاق وغير ذلك.
3- اتخاذ قرار الحرب من حيث المناسبة والتوقيت والإعداد والجاهزية وغير ذلك يرجع إلى أهل الثغر، فهم أدرى بذلك من غيرهم، وإذا كان ثم نصيحة في هذا الشأن فينتظر بها إلى انتهاء الحرب، والواجب الآن هو التسديد والمقاربة والنصرة والتشجيع والكف عن كل ما يفت في عضض المقاومة.
والله تعالى أعلم
كتبه دكتور عطية عدلان .. 14/12/2023م
ثبت المراجع
- أحكام القرآن أحمد بن علي أبو بكر الرازي الجصاص الحنفي – دار الكتب العلمية بيروت – لبنان – الطبعة: الأولى، 1415هـ/1994
- الأم محمد بن إدريس الشافعي أبو عبد الله دار المعرفة بيروت، ط الثانية 1393 ه
- بداية المجتهد ونهاية المقتصد – اربن رشد الحفيد – دار الحديث – القاهرة – ط 2004م
- البناية شرح الهداية – أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين الغيتابى الحنفى بدر الدين العينى – دار الكتب العلمية – بيروت، لبنان – الطبعة: الأولى، 1420 هـ – 2000 م
- تفسير ابن أبي حاتم تفسير القرآن العظيم – أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن الرازي ابن أبي – مكتبة نزار مصطفى الباز – المملكة العربية السعودية – الطبعة: الثالثة – 1419
- تفسير ابن عطية المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز – أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي – دار الكتب العلمية – بيروت – الطبعة: الأولى – 1422
- تفسير البغوي معالم التنزيل – البغوي أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء – ت: عبد الرزاق المهدي – دار إحياء التراث العربي –بيروت – الطبعة : الأولى ، 1420
- تفسير الطبري ( جامع البيان عن تأويل آي القرأن ) لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري دار الفكر بيروت ط 1995
- تفسير القرطبي أحمد بن مصطفى المراغي – شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر – الطبعة: الأولى، 1365 هـ – 1946
- تفسير المراغي أحمد بن مصطفى المراغي – شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر – الطبعة: الأولى، 1365 هـ – 1946
- الدر المختار وحاشية ابن عابدين – ابن عابدين، محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز عابدين – الناشر: دار الفكر-بيروت – الطبعة: الثانية، 1412هـ
- الذخيرة للقرافي – أحمد بن إدريس القرافي – دار الغرب بيروت ط 1944
- سنن أبي داود – أبو داود السجستاني – المكتبة العصرية – صيدا – بيروت – بدون
- سنن الدارمي أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بَهرام بن عبد الصمد الدارمي – دار المغني للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية – الطبعة: الأولى، 1412 هـ – 2000
- الشرح الكبير لأبي البركات أحمد الدردير،تحقيق محمد عليش،دار الفكر لبنان بيروت
- صحيح البخاري الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه – محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري – دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي) – الطبعة: الأولى – 1422
- صحيح مسلم المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم – مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري – محمد فؤاد عبد الباقي – دار إحياء التراث العربي – بيروت
- الفتاوى الكبرى تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية – دار الكتب العلمية – الطبعة: الأولى، 1408هـ – 1987
- فتح القدير شرح الهداية محمد بن عبد الواحد المعروف بالكمال ابن الهمام، دار الفكر، بيروت، ط: ثانية.
- الكافي في فقه أهل المدينة – أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر – مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، المملكة العربية السعودية – الطبعة: الثانية، 1400هـ/1980
- المحلى بالآثار – علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري أبو محمد – دار الآفاق الجديدة، بيروت
- مختار الصحاح – أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي – المكتبة العصرية – الدار النموذجية، بيروت – صيدا الطبعة: الخامسة، 1420هـ / 1999م
- مسند الإمام أحمد بن حنبل – أبو عبد الله أحمد بن محمد بن الشيباني – مؤسسة الرسالة – الطبعة: الأولى، 1421 هـ – 2001
- معالم السنن – أبو سليمان الخطابي – المطبعة العلمية – حلب – ط أولى 1932م
- معجم اللغة العربية المعاصرة – د أحمد مختار عبد الحميد عمر – بمساعدة فريق عمل – عالم الكتب – ط: الأولى، 1429 هـ – 2008
- المعونة على مذهب عالم المدينة القاضي عبد الوهاب البغدادي – ت حميش الحق – مكتبة نذار مصطفي الباز – السعودية ط أولى 1423
- المغني – موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة – مكتبة القاهرة – طبعة: 1388هـ – 1968م
- مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج – شمس الدين، محمد بن أحمد الخطيب الشربيني – دار الكتب العلمية – الطبعة: الأولى، 1415هـ – 1994
([2]) معجم اللغة العربية المعاصرة (3/ 1875)
([3]) البحر الرائق شرح كنز الدقائق، ومنحة الخالق وتكملة الطوري 5/ 76.
([5]) أحكام القرآن للجصاص، ط: العلمية، 1/ 389.
([6]) الفتاوى الكبرى لابن تيمية 3/ 14.
([7]) أحكام القرآن للجصاص، ط: العلمية، 3/ 148.
([8]) أحكام القرآن للجصاص، ط: العلمية 3/148.
([10]) تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 2/ 86.
([11]) تفسير ابن أبي حاتم، محققًا 6/ 1797.
([12]) تفسير البغوي، طيبة، 4/ 48.
([13]) راجع: تفسير الطبري= جامع البيان، ت: شاكر، 14/ 263-266.
([15]) تفسير الطبري = جامع البيان، ت: شاكر، 14/ 358 – 359.
([16]) متفق عليه:البخاري ك الإيمان باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة (25)، ومسلم ك الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله (22).
([17]) رواه البخاري ك الصلاة باب في استقبال القبلة 1/87 (392).
([19]) متفق عليه: البخاري ك الزكاة باب وجوب الزكاة برقم (1399) مسلم ك الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله 1/ 51 برقم (20)
([20]) رواه مسلم ك الجهاد والسير بَابُ تَأْمِيرِ الْإِمَامِ الْأُمَرَاءَ عَلَى الْبُعُوثِ، وَوَصِيَّتِهِ إِيَّاهُمْ بِآدَابِ الْغَزْوِ وَغَيْرِهَا 3/1357 (1731)
([21]) رواه أبوداود في السنن (2147)، والدارمي في السنن (2356)، وأحمد (13375).
([22]) رواه مسلم كتاب الجهاد والسير باب ذم من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه به 3/1517 (1910).
([23]) ر: الدر المختار وحاشية ابن عابدين 4/ 122، الكافي في فقه أهل المدينة 1/ 462، الشرح الكبير للشيخ الدردير 2/ 173، الذخيرة للقرافي 3/ 385، الأم للشافعي 4/ 170، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج 6/ 8، المغني لابن قدامة 9/ 196، المحلى بالآثار 5/ 340، وغيرها.
([25]) بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2/ 143.
([26]) مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج 6/ 8.
([27]) المعونة على مذهب عالم المدينة (ص: 601)
([28]) الجامع لمسائل المدونة (6/ 36)
([29]) أحكام القرآن للإمام الجصاص 2/278
([30]) أحكام القرآن للجصاص، ط: العلمية، 3/ 147.
([31]) أحكام القرآن للجصاص، ط: العلمية، 3/ 146.
([32]) فتح القدير شرح الهداية محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بالكمال ابن الهمام 5/437، دار الفكر، بيروت، ط: ثانية.
([33]) الكافي في فقه أهل المدينة 1/ 463.
([34]) المغني لابن قدامة 9/197.