حكم مظاهرة الصهاينة على المقاومة في غزة
د.عطية عدلان
من الملاحظ الذي لا يخفى على الخاصة والعامة هذه المواقف المخزية من الأنظمة العربية مع الكيان الصهيونيّ؛ فهي لم تكتف بأنّها غرقت كلها – إلا من رحم الله وقليل ماهم – في مستنقع التطبيع، وإنّما ذهبت إلى ما هو أبعد من هذا الباطل الصريح القبيح؛ إذْ إنّها وقفت مع العدو الصهيونيّ في ناديه وتخندقت في خندقه، وعاونته وناصرته وظاهرته على المسلمين في غزة، وشاركت في حصار شعب غزة وفي تعقب المقاومة وخذلانها، وفي التحالف مع العدو ضدها، وفعلت الشيء نفسه مؤخرًا مع بشار الأسد المجرم الزنديق عدو الله ورسوله وعدو المؤمنين، ومع امريكا في حربها على العراق وأفغانستان، واتهمت المقاومة في كل هذه البقاع بالإرهاب لتبرر لنفسها أمام الرأي العام قبح فعلها؛ فما الحكم في هذه الأنظمة الظالمة المجرمة؟ هذا هو ما أردنا التعرض له في هذا البحث الصغير.
معنى المظاهرة وصورها
والمظاهرة (لغةً)([1]): المعاونة، والتظاهر: التعاون، واستظهر به: استعان به، والظَّهيرُ: العَوْنُ والْمُعِينُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ وَفِي التَّنْزِيلِ {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}، والمُظاهر: المُعاونُ، وهما يَتَظاهرانِ أي: يَتَعاونان، وظاهره: عاونه، وشرعًا هي “مظاهرة ومعاونة المشركين والكافرين وأعداء الدين على المسلمين، والتعاون معهم المؤمنين، ونصرتهم بالمال أو القتال أو الدعم المعلوماتيّ أو غير ذلك على أهل الإسلام، والوقوف في صفهم والتخندق في خندقهم، سواء كان ذلك معلنًا ظاهرًا أو مستسرًا مستترًا”، ومن أمثلة ذلك موقف المنافقين في المدينة مع يهود بني النضير، وفيهم أنزل الله قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (الحشر: 11)، ومن أمثلته في الواقع المعاصر موقف الأنظمة العربية والإسلامية المطبعة مع الكيان الصهيونيّ وهو يعادي المؤمنين ويتربص بالمسجد الأقصى ويمكؤ بأهل الإيمان، وبعضها يشارك في حصار أهل غزة ويتهم المقاومة بالإرهاب دعمًا للرواية الصهيونية التي تعتمد عليها في تسويغ الحرب المجرمة على عباد الله.
حكم المظاهرة
كأنّ هذه الآيات من سورة المائدة تنزل اليوم؛ لتجسد الحالة الواقعية للأنظمة العربية المعاصرة كافّة: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56)) (المائدة: 51-56).
فها نحن نراهم جميعا يسارعون في الصهاينة المجرمين، وما كان يخفيه إخوانُهم الأولون في النفاق الأكبر أعلنوه وتبجحوا به، لسانُ حالهم ومقالهم يقول: نخشى أن تصيبنا دائرة، لقد بلغ التطبيع مع الكيان الصهيونيّ المحارب لله ورسوله والمحتل للأرض الإسلامية والمقدسات الإسلامية، والقابع في خاصرة الأمة يدبر لها ويمكر بها، بلغ بالقوم مبلغ المظاهرة للكافرين على المسلمين، هذه المظاهرة تُعَدُّ أخطر صور الولاء للأعداء، وهي كفر مستبين، بل إنّ ما هو دون المظاهرة من صور الولاء للأعداء إذا بلغت مبلغ المناصرة لهم مع المودة والمحبة فإنّه يكون كفرا بنص الآية: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ).
هذا الولاء للأعداء من اليهود والنصارى ناقض لعرى الإسلام هادم لشرعية الحكام، لأنّ الولاء إنّما يكون لله ورسوله والذين آمنوا، أمّا الولاء للأعداء فهو خيانة وعمالة ونذالة، إنّ هؤلاء الحكام الذين يبتغون العزة بولائهم للقوى المعادية للحق وأهله هم المنافقون حقا: (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139)) (النساء: 138-139)، وهؤلاء المنافقون لا يمكن أن يكونوا حكامًا لهم على المسلمين السمع الطاعة.
ويقول الله تبارك وتعالى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) (آل عمران: 28)، ويقول عزّ وجل: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة: 22)، ويقول سبحانه: (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (المائدة: 81)؛ فالذين يبلغ بهم الولاء إلى حدّ المودة الكاملة للكافرين وإعانة ومظاهرة الكافرين على المسلمين؛ هم من هؤلاء الكافرين لا من المؤمنين، وليسوا من الله في شيء، ولا يتصور أن يكون قد بقي في قلوبهم إيمان أصلًا؛ فلو كان في قلوبهم إيمان ما فعلوه.
يقول ابن تيمية: “وهذا كقوله تعالى: {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} فأخبر أنك لا تجد مؤمنا يواد المحادين لله ورسوله فإن نفس الإيمان ينافي موادته كما ينفي أحد الضدين الآخر فإذا وجد الإيمان انتفى ضده وهو موالاة أعداء الله فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه؛ كان ذلك دليلا على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب. ومثله قوله تعالى في الآية الأخرى: {ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون} {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون}؛ فذكر ” جملة شرطية ” تقتضي أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط بحرف ” لو ” التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط فقال: {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء}، فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب. ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء؛ ما فعل الإيمان الواجب من الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه، ومثله قوله تعالى {لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم}، فإنه أخبر في تلك الآيات أن متوليهم لا يكون مؤمنا، وأخبر هنا أن متوليهم هو منهم؛ فالقرآن يصدق بعضه بعضا”([2]).
ويقول الإمام ابن حزم: “وصح أن قول الله تعالى {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار – فقط – وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين”([3])، ويقول الإمام الطبريّ: “إن الله تعالى ذكره نهَىَ المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارًا وحلفاءَ على أهل الإيمان بالله ورسوله، وغيرَهم، وأخبر أنه من اتخذهم نصيرًا وحليفًا ووليًّا من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزُّب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان”([4]).
والعجيب أنّ قضية الولاء والبراء هذه امتدت في كتاب الله تعالى لتملأ مساحات واسعة، في سور عديدة، كالمائدة والنساء وآل عمران والممتحنة والمجادلة وغيرها؛ فلا تكاد توجد قضية توفّر فيها مستند الإجماع كهذه القضية؛ لذلك قيل إنّها أجلى قضية بعد التوحيد في القرآن، والله المستعان.
([1]) كتاب العين (4/ 37) – أساس البلاغة (1/ 628) – مختار الصحاح (ص: 197) – المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (2/ 387)