هل النظام العالمي صادقٌ في دعواه وفي رفْعِهِ للدعاوى ضدّ خلق الله؟ هل هو صادقٌ في حمايةِ أمنِ الشعوب من الإرهاب، وفي صيانة الأطفال مما يخمش الحياء، وفي منع تجارة المخدرات والسلاح؟ وهل هو جادٌّ في محاربة هذه المخاطر وغيرها حتى يُصرّ على فرض الرقابة الصارمة على مواقع التواصل؟
أم إنّها الهيمنة التي تفرض نفسها على الخلق وتدسّ أنفها في خصوصيّاتهم وتأبى إلا أن تحاصر عقولهم وتطارد أفكارهم وتقمع أحلامهم وآمالهم؟ وكيف يكون صادقًا فيما يدعيه وما حلّتْ هذه الكوارث وغيرها إلا على يده ولا راجت إلا على عينه؟
أوليس هذا النظام هو الذي يروج عن قصْدِ للشذوذ وما بعد الشذوذ؟ أوليس الإرهاب الحقيقيّ أحد أدواته المفضلة للهيمنة؟
فلو كان عَهْدُنا عليه أنّه يتوخى الصلاح؛ لأعطيناه كامل الحقّ في أن يقلق على حاضر البشرية ومستقبلها، أمّا وقد عَلِمَ الكافّةُ بالضرورة أنّه محاربٌ للإنسان والإنسانية فلا والله لا نعطيه إلا الإنكار وما وراء الإنكار مما يسوقنا إليه الواحد القهار. ولست أعني بالنظام إلا ذلك النظام الواحد المتألِّه الذي يمتطي بالعسف ظهر الإنسانية، ويُطلق عليه النظام العالميّ ومن ورائه الرأسمالية المهيمنة.
بافيل دوروف بين فكونتاكي وتليغرام
هناك في روسيا الاتحادية حيث تحتدم الرغبة في منافسة التكنولوجيا الغربية المهيمنة وُلدت منصة منافسة محليًّا للفيسبوك وتويتر، وهي منصة “فكونتاكتي”، على يد شاب ذكيِّ طموح هو “بافيل دوروف”، وككل أنظمة العالم التي لا تمثل إلا تروسًا في “النظام العالميّ المهيمن” طفق بوتين وأجهزته الأمنية يمارسون التضييق على المنصّة الوليدة، ففي عام 2011م عندما تحرك عشرات الآلاف من الروس في الشوارع احتجاجا على عودة بوتين للترشح أرسلت الأجهزة الأمنية لدوروف أمرًا بإغلاق سبع مجموعات كان لها دور في تأجيج الاحتجاج، لكنه رفض ثم نشر على حسابه على تويتر صورة من الرسالة ومعها صورة لكلب يخرج لسانه، ما أفضى إلى اضطهاد الأجهزة الأمنية له؛ فقرّر الهجرة إلى الغرب.
ولم يتردد النظام في إقصاء الإدارة التابعة لدوروف ومن ثمّ في الهيمنة على المنصة، وقد كفاه الرأسماليون المتحالفون معه مؤنة ممارسة العنف؛ بأن قاموا بشراء جميع أسهم المنصة، فاتجه إلى إنشاء منصة تليغرام، التي انطلقت منذ ميلادها صوب القمة لتسجل اليوم 900 مليون مشترك، متجهةً بقوة إلى المليار، لكنّ النظام أبى إلا أن يعوق سيرها ويعرقل مسيرتها؛ فإذا بمذكرة اعتقال تصدرها الحكومة الفرنسية ضدّ دوروف الذي كان قد حصل على جنسيتها منذ مدّة، وفي المطار أثناء عودته لفرنسا تمّ إلقاء القبض عليه وتوجيه الاتهام، ولا يدري أحدٌّ ماذا سيكون مصير المنصة، لكنّ أقلّ الأضرار التي يمكن أن تحدث هو حجب المنصة عن كثير من دول الغرب على رأسها فرنسا وأمريكا.
الدلالات القريبة للحدث
لا نستطيع أن نتنبأ بمدى قدرة الرجل على الصمود أمام هذه التحديات الجسام، فعلى الرغم من “الشياكة” التي يبديها الغرب في ممارسته للعنف يبدو أنّه صارم في كلّ ما يتعلق بالهيمنة، فالدول الغربية لا تقمع الشعوب إذا تظاهرت ولا تكمم أفواهها إذا اعترضت، لكنّ ذلك كله لا يثني عزمها ولا يصرفها عن مواصلة سيرها نحو الهدف مهما كان متدنّيًا ولاإنسانيًّا، هكذا فعلت عندما غزت العراق وقتلت الأطفال بعشرات الآلاف، وعندما وقفت بإصرار مع الكيان الصهيونيّ الذي يرتكب المجازر في حقّ الأطفال بغزة، ومِن قبلُ فعلت أمريكا لدى حربها على فيتنام، فالمتوقع أن تستمرّ الدول الغربية التي تشكل الهيكل العام للنظام في اضطهادها وتضييقها؛ بما يعني أنّ الصمود لابد له من حشود، أمّا بشكل فرديّ فإنّنا نُحَمّل المنصةَ وصاحبَها ما لا طاقة لها ولا له بالقليل منه؛ وهنا تتجلى أهم الدلالات الظاهرة، وهي أنّ الحرية الحقيقية محاصرة ومضَيّقٌ عليها حتى في الغرب الذي يدَّعي حماية الحريات وتمكين الديمقراطية، والواقع أنّ الديمقراطية في أزمة؛ لأنّها بلا حرية حقيقية، وربما كان “أَلان دونو” متلطفًا عندما قال: “لنتّفِقْ على أنّ النظام الذي نَجِدُ أنفسَنا فيه الآن ما عادَ يهدد الديمقراطية؛ لقد نَفّذَ التهديدات بالفعل، فَلْنُسَمِّ هذا النظام أوليغارشية .. طغيان برلماني .. شمولية مالية .. أو أيَّ شيء آخر”.
الدلالات الأكثر خطرًا
يقول مؤلفو كتاب “استخبارات وسائل التواصل”: “إنّ البحث المعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي قد يساهم في فهمنا لعدد من الظواهر، وقد يشمل ذلك قياس مستويات العنف ومؤشراته، والظروف التي تسمح به، والسبل التي تقود للتشدد، وتحليل كيفية تشكل الأفكار وتغيرها”؛ وهذا دليل صريح على اعتماد أجهزة المخابرات بشكل أساسيّ على وسائل التواصل الاجتماعيّ، لكنّ كذب هذه الأنظمة، وتوسعها في استعمال ما تراه حقًا لها، وانحرافها في كل مرحلة من مراحل ممارستها لهذا الحقّ المزعوم؛ يجعلنا نذهب إلى الاعتقاد بأنّ الهيمنة والتأله والاستبداد الرأسماليّ وراء كل هذه الممارسات الفجة، وبأنّ الشعوب تعيش اليوم حبيسة حدودها الجغرافية تحت قبضة “النظام!”.
يقول مؤلفا كتاب ” الأناركية .. الثورة والإنسان”: “أكثر فأكثر أخذ الناشطون يحاولون لفت الانتباه إلى حقيقة أنّ الرؤية النيوليبرالية للعولمة محدودة إلى حد بعيد بحركة رأس المال والبضائع، وتزيد فعلا الحواجز أمام التدفق الحر للبشر والمعلومات والأفكار، وقد تضاعف حجم حرس حدود الولايات المتحدة الأمريكية ثلاث مرات تقريبا منذ التوقيع على اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا)، وهذا ليس مدهشا على الإطلاق؛ إذْ لو لم يكن ممكناً أن تسجن فعليا أغلبية الناس في العالم في معاقل بائسة فلن يكون ثمة حافز لدى شركة Nike أو The Gap لنقل الإنتاج هناك بادئ ذي بدء، مع إتاحة حرية الأشخاص سينهار مجمل المشروع النيوليبراليّ … فالإنجاز الأساسيّ للدولة/الأمّة خلال القرن الماضي كان تأسيس منظومة متجانسة من الحواجز ذات الحراسة المشددة حول العالم”.
وللإسلام الكلمة الفاصلة
لم ير علماء الإسلام فرقًا بين الحاكم والمحكوم في وجوب الخضوع لهذا النهي الصارم: (ولا تجسّسوا)، فكما لا يجوز للفرد أن يتجسس على آخر؛ لا يجوز للدولة أن تتجسس على الأفراد، ولا أن تخترق خصوصياتهم بذريعة الحفاظ عليهم، فمن قام عليه الدليل الماديّ حُكِمَ عليه بِهِ، وإلا فالأصل البراءة.
اقرأ أيضا