د. عطية عدلان
ها هي الأمة تقع من جديد في الفخّ ذاتِهِ الذي وقعت فيه من قبلُ إبّان ثورة الخومينيّ وما بعدها، وكأنّنا نحن فقط – من بين خلق الله – متخصصون في فنّ الرقص في الشباك واللعب بين براثن الشِراك! ما هذا العبث الذي انغمست فيه الألسنة والأقلام إلى أذقان الخطباء والكتاب البلغاء؟ ما هذا الدجل الذي غرقت فيه العمائم والطرابيش وسبح فيه المتفيهقون والدراويش؟ أهكذا بكل بساطة وأريحية وبرشقات صاروخية متوشحة بالخجل تنطلق في السماء على استحياء؛ تصبح الميلشيات – التي لم تُؤَسَّسْ في الأصل إلا لتحقيق الحلم الصفويّ على جثث المسلمين – حصنَ الأمّة ودرعَ الملّة؟! ويصبح حسن نصر الله (لبنان المناضل) وعبد الملك الحوثيّ (اليمن المجاهد)؟! ويقال عن ذلك المثلث الكئيب الجاثم فوق ثبج الأحداث (إيران وحزب الله وجماعة أنصار الله)، يقال عنهم – خداعًا وختلًا – محور المقاومة؟! أيّ حضيض هذا الذي انحدرنا إليه ونحن باسمون؟! أيّ فتنة عمياء هذه التي حاقت بالأمة وأحاطت بها من جميع أطرافها؟!
لا تلاعبني بعبارات زئبقية تنقبض وتنبسط وتتدحرج كأنّها تعاويذ ساحر؛ فإنّني بسيط كعقيدتي، مباشر وواضح كشريعتي، لا أحسن التعامل مع الدجل الذي يلبس ثوب السياسة، ولا الخبل عندما يدعي الحصافة والكياسة، لا تقل لي: “إنّ حسن نصر الله له مواقف سابقة مخزية ومواقف حالية مشرِّفة، فهو أفضل بكثير من حكامٍ لأهل السنة جميع مواقفهم مخزية”؛ لأنّنا – أولًا – لا نَعُدُّ هؤلاء الحكام إلا مجرد امتداد للمشروع الصهيونيّ، فليسوا منّا ولسنا منهم، ونَعُدُّ إيران وأذرعها مشروعًا لا يقلّ عن الصهيونية معادة للأمّة الإسلامية؛ فلا تُحَمّلنا ما لا طاقة لنا به بتجشم المقارنة العبثية بين عدوٍ وعدو، ولأنّنا – ثانيًا – لا نرى موقفه اليوم الذي يتظاهر فيه بنصرة القضية إلا جزءًا من مشروعه التوسّعيّ الإجراميّ، الذي يستهدف قتل المسلمين واحتلال بلادهم وطمس معالم دينهم، أي أنّه ما وقف هذا الموقف إلا لغسل الجرائم السابقة والتسويغ للجرائم اللاحقة، والترويج للمشروع الذي سمح له بالتمدّد لئلا تقوم للإسلام قائمة.
لا تحاصرني بهذه التحليلات اللولبية التي تلتف حول أعناق المتابعين كأذرع الأخطابوط؛ فإنّني أمّيٌّ من أمّةٍ أمّيّة، من أمّة أصرح وأوضح من الماء القراح، أمّةٍ لم تعرف يومًا أنّ اجتماعَ الوصفين المتضادّين (سفاح عربيد – مقاوم شهيد) في شخص واحد داخلٌ في حيّز الإمكان، ولم نجد في تراثها – الذي صمد كثيرًا أمام عبثنا – ما يُسَوِّغ في الشرع والأثر أو العقل والنظر أن يكون الشخص الواحد في العراق وسوريا عدوًا محادِدًا، وفي فلسطين والقدس صديقًا مجاهدًا، ولم نجد في شريعتها أن يختلف الولاء والبراء تجاه شخص واحد أو كيان واحد، فيتخذه بعض المسلمين عدوًا ذميمًا ويتخذه بعضهم وليًّا حميمًا، إذا لم يكن هذا هو العبث بعينه فماذا يكون؟ لقد اختلّت الموازين، وطاشت المعايير، فالحكم لله العليّ الكبير.
ولا تحاول أن تغزو عقلي وقلبي بطرحٍ صار ممجوجًا، لا تحاول أن تقنعني بهذه الثنائية الدخيلة: سنة وشيعة، فالحقيقة التي يرفضها عقلك المفتون بالنسبية أنّ أهل السنة هم أهل الإسلام، وأنّ فِرَق الروافض فِرَقٌ ضالة، كانت موجودة في العهود الأولى، أمّا اليوم فَجُلُّها مَسْخٌ يتمسح في التشيع، ونحن لا نحكم عليهم بحكم واحد، فمَنْ لم يَقُلْ بما استجدّ من عقائدهم، التي انغمس فيها إلى النخاع الخوميني الهالك وخامنئي المتربص، ولم ينخرط في ذلك المشروع الإجراميّ؛ فلا نتجشم إخراجهم من دائرة أهل القبلة، أمّا الحكام ومن تآمر معهم من الملالي ومن تشيع لهم وناصرهم من جند وميليشيات؛ فهؤلاء أعداء لأهل القبلة، انخرطوا في مشروع مُلْتَبسٍ لا يتميز فيه النَّفَس الشيعيّ عن الروح المجوسية والمزاج الصفويّ والطبيعة الباطنية؛ ومِنْ ثمَّ فإنّ دائرة أهل القبلة التي تتسع لتشمل كثيرًا ممن سموا في أدبيات العقيدة بالفرق الضالة تضيق عن هؤلاء الذين أفصحوا عن مذهبهم المحادد لله ورسوله والمؤمنين بما ارتكبوه من مجازر.
ولستَ معذورًا، لستَ أنت أيها المنظِّر الرابض في الفضائيات، القابع في مواقع التواصل، لست من أهل العذر، دَعْ العذرَ للمرابطين الساهرين على الثغور، دعْهُ لأهل غزة والقدس وسائر الثغور، وقِفْ أنت على ثغر العقيدة والشريعة والحقيقة، وبَيِّنْ لأهلَ الإسلام أنّ التحالف العسكريّ مع المشركين أو المبتدعة، وكذلك الاستعانة بهم في الحرب؛ جائز بشروط، منها أن يكون الأمر المتحالَف عليه لا يخالف الشرع، وألّا تكون راية الشرك أو البدعة هي الظاهرة، وألّا يكون التحالف ضدّ مسلمين أو معاهَدين، وأن تكون الحاجة داعية إليه، ولا مانع أن تستطرد: ونحن نرى أنّ إخواننا في غزة وفلسطين محافظون على شروط الجواز لم يحيدوا عنها، فإن كنت جريئًا في الحقّ فَزِدْ محذرًا ومنذرًا: وما نخشاه هو أن يتحول التحالف إلى تحالف استراتيجيّ فتتعانق المشاريع؛ مما يؤدي – حتمًا – لابتلاع القويّ منها للضعيف، وذوبان الضعيف منها في القويّ، فإن كنت ناصحًا أمينًا فقف على شُرفٍ معلنًا: ومما نأمله أن تتحرك شعوب الأمة فتعدِلَ بحكامها إلى الرشد والنجدة أو تعدِلَ عنهم إلى أهل رشدٍ ونجدة، أي: تخطو بهم أو تتخطاهم.
ولستُ بمكترثٍ بتلك المقابلات التي مللناها كما يملّ الأسير قيده ومرقده وطعامه، تقولون: إنّ إيران صاحبة مشروع، وإنّ إسرائيل صاحبة مشروع، أمّا نحن أهل السنة فبلا مشروع؛ وفي هذا الظرف (الدقيق!) ينبغي أن نوازن بين المشاريع، ولا شكّ أنّ المشروع الصهيونيّ أخطر من المشروع الإيرانيّ؛ فإذا تطاحن المشروعان المتضادّان فمع أيّ مشروع نقف؟ فما أسمج هذه (الفزورة)! من الذي قال إنّنا يجب أن نكون مع واحدٍ من العدوين المتعاديين؟ ومن الذي قال إنّهما عدوان متضادّان تضادّ الليل والنهار؟ ولماذا لا يكون هذا التضاد نسبيًّا وإنّ الأصل هو تزاحم قوى يدفع بعضها بعضًا حينًا ويفسح بعضها لبعض أحيانًا؟ ثم من الذي قال إنّ الأبعد دينًا هو الأخطر دائمًا؟ فمن المقرّر تاريخيًّا أن الصراع بين المذاهب أشدّ دموية من الصراع بين الأديان؟ وأوضح مثال على ذلك الحروب المذهبية التي دمرت أوربا قبل الحربين الكبيرتين، ولماذا نذهب بعيدًا؟ كم عدد الذين قتلتهم أيران وأذرعها من المسلمين في عقد واحد بالنسبة لمن قتلتهم إسرائيل في سبعة عقود أو يزيد؟ ثمّ هل نسيت أنّ العدو الظاهر أخفّ في خطورته من المتخفّي؟
يقول بعض الطيبين الذين نحبهم ونواليهم: “سنقاتل إيران حين تقاتلنا، أمّا حين تقاتل إيران إسرائيل فلنكن معها ضدّ إسرائيل”، وأقول له: أبشر؛ فقد قاتلتنا إيران وقتلتنا وإبادت منّا شعوبًا، وأحبطت ثورات وجهاد الشعوب في ثلاثة أقاليم هي أعظم أقاليم الإسلام والعروبة، أمّا أن إيران ستقاتل إسرائيل فهذا حلم يتراءى لنا كما يتراءى الطائر المحلق في السماء لجائع ليس ماهرًا في الاصطياد، وسلام على الطيبين.
اقرأ أيضا: