إلى أين تذهبُ إسرائيل؟
سؤالٌ يطرح نفسه بإلحاحٍ على الكيان الصهيونيّ، وبإلحاحٍ أشدّ على كلّ فرد صهيونيّ غادرَ وطنَهُ وهاجر إلى ما حسِبَهُ الأرضَ الموعودة، إلى أين يذهب الكيانُ الدخيل المخْتَلَق الأكذوبة؟ وإلى أيّ مصيرٍ حتميٍّ أسودٍ يجرّه نتنياهو؟ وهل لهذه الدوّامات الفَوَّارة الْمَوَّارة من آخِر؟ ها هو أكتوبر قد أظَلَّهم بما يحمله من ذكريات أليمةٍ، ها هو يحلّ عليهم وقد غرقوا إلى الأذقان في مستنقع جنوبي لبنان، فهل سيحمل لهم من الفواجع ما يثير جروح السادس من أكتوبر وقروح السابع من أكتوبر؟ أمْ إنّ كبيرَهم الذي يَعِدُهم ويُمَنِّيهم عندَهُ حلولٌ تُجدِّد حالة الفزع؟
السادس من أكتوبر والوثبة المرعبة
لم تكن عاديّةً تلك الوثبةُ العاليةُ التي تحققت للأمّة في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973، لأنّها لم تكتَفِ بإيقاع هزيمة عسكريّة بالعدوّ الصهيونيّ، ولم تقتصر آثارُها على العبور العظيم للقناة والاقتحام الأسطوريّ لخط بارليف، وإنّما تغلغلت بقوة إيحائها وبما تحمله من دلالات داخل النفسيّة الصهيونيّة، واقتحمت فيها جميع خطوط الكبرياء والعنجهية الزائفة، وأورثتها فِصامًا حادًّا لم يلتئم إلا بسلسلة متصلة من الانتصارات السياسية، نجح العدو بها في قلب الهزيمة نصرًا، ولئن كانت القيادة السياسية المصريّة آنذاك دون المستوى في الطموح العسكريّ، ولَئِنْ كان السادات يومها يخوض المعركة وهو يخطط لسلام زائف، فإنّ المخلصين من قيادات الجيش ومعهم جنود مصر البواسل قد خاضوا معركة عسكريّة مجيدة بكلّ المقاييس، مجيدةً فيما حققته من إنجاز أسطوريّ ملهمٍ للأجيال، ومجيدةً في نظافتها وقدسيتها وخلوّها من أوزار الحروب المعاصرة، ومجيدة باعتصامها بتلك الصيحة الخالدة (الله أكبر)، ولَئِنْ كانت إسرائيل قد نجحت في محو شيء من العار فإنّها لم تستطع أن تمحو أيّ شيء من الفزع.
السابع من أكتوبر والحلم الصهيونيّ الضائع
لا تقصرْ نظرَك على ما آلت إليه الأمور في غزة من خراب ودمار، وعلى ما تعرَّض له أهلها من قتل وسحل وترويع، لأنّ ما أصاب الكيان الصهيونيّ والمشروع الصهيونيّ من تصدّع يُعَدُّ إنجازًا تهون في سبيله كل التضحيات، فإذا كانت إسرائيل قد خبّأت الفزع الذي أصابها من صحوة المارد في السادس من أكتوبر 1973، فإنّها قد فوجئت في السابع من أكتوبر 2023 بوثبة لا تقلّ -على الرغم من صغر حجمها عسكريًّا- عن أختها التي سبقتها بأكثر من خمسين عامًّا، في آثارها النفسية والعَقَدية على الصهاينة ومشروعهم المزعوم، فلم تكتفِ بإيقاظها للفزع القديم، حتى جاوزَتْه إلى إِحْداث خلخلة عَقَدِية، لا تمحو آثارَها ترسانةٌ عسكرية جبارة ولا هجماتٌ وحشية تمارَس بلا أدنى رادع من ضمير أو أخلاقٍ أو حتى قانونٍ إنسانيّ دوليّ، ولا صولات تقوم بها أذرعٌ طويلةٌ مُهَدِّدَةً زعماءَ المنطقة كلِّها ومرسلةً لهم جميعًا رسالةً مفادها: أنّنا نستطيع أن نصل لمن نشاء وقتما نشاء وهو على سريره.
ونتائج الحروب لا تقاس دائمًا بالحسم العسكريِّ، ولا حتى بالمقارنة بين حجم الخسائر البشرية والمادية عند الطرفين، وإنّما صارت تقاس بمدى النجاح في تحقيق حزمة الأهداف الموضوعة للحرب، ومن المؤكد أنّ التحرير الكامل وتحقيق النصر الشامل لم يكن في حسبان الفتية الذين انطلقوا بأدواتهم البسيطة في مساحة لا تعدو كونَها “غلافًا” لغزّة، ولا في حسبان قياداتهم القابعة في أنفاق وسراديب على “شمال” الدنيا المسكونة بالترسانات المتربصة التي لا تكفّ عن الزئير، إنّما كان هدفهم الأول والأكبر هو اقتلاع الحلم الصهيونيّ من أدمغة الصهاينة، واجتثاث الأمل في بقاء مريح بالأرض الموعودة، لِعِلْمِهم أنّ المشروع الصهيونيّ بغير الاستيطان مصيرُه الحتميّ هو الزوال، ولقد نجحوا إلى أبعد مدًى في تحقيق هذا الهدف، فها هي فكرة العودة تترسخ يومًا بعد يوم، وها هي الهجرة العكسيّة تتوالى وتتابع في موجات هادرة تعلو شاطئ الصهيونية العالمية معلنة خطورة ووعورة الإبحار في مشروع آذن بالرحيل، بل إنّ فكرة الصهيونية ذاتها بدأت تذبل وتجف وتضمر، فما أعنف الكوارث التي حلت بالكيان!
أكتوبر من جديد؟ يا له من فزع!
وما كانت إلا لحظة عابرة أحسّ فيها الزعيم المغرور بأنّه قادر على إعادة هيكلة المنطقة على وفق ما يهوى ويريد، حتى فاجأه هول من نوعٍ جديد، ها هي أقدامه تغوص في مستنقعٍ لا يعلم إلا الله متى يمكن أن يجد منه خلاصًا أو يظفر فيه بالفكاك منه، ها هي الأنباء تتوالى عليه وعلى شعبه المبتلى بحماقته، تتلوها نعوش الجنود والضباط، تهبّ كلها عليه من الضاحية الجنوبية ومن الجنوب اللبنانيّ كله، لقد كان هو وجيشه وشعبه في سعة بانحصار الخطر في زاوية واحدة، فما كانت ضربات (حزب الله) ولا جبهات الإسناد كلها إلا مناوشات كالحذف بالحصى في معركة تصبّ فيها السيوف الْمَنونَ والحتوف، فالآن أوان الدفاع عن النفس، وهيهات أن تجد في حنايا التاريخ جيشًا واجه المدافعين عن أنفسهم ثمّ خرج سالمًا معافى، فما أنت يا أكتوبر؟! أيّ فزع ورعب ذلك الذي تحمله للصهاينة؟!
هل ثمّ طريقٌ لاستعادة المسار؟
يتساءل الساسةُ الذين لاذوا بالعقلانية لا لشيء إلا لأنّهم عاجزون عن الجنون: هل بالإمكان عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الطوفان؟ وعلى الرغم من قدرة السوابق التاريخية على حسم الإجابة لصالح آمال هؤلاء المسالمين عنوة، فإنّ المؤشرات التي تحملها المتغيرات الكبرى لا تبشر بشيء من تلك الأوهام، لقد تغيرت الظروف وتبدلت، لأنّ وِجْهة العالم كلِّه تغيرت وتبدلت، فلم يَعُدْ الاستقرار -ولو على خطأ وعوار- هو الهدف الطافي لتدافعات الكبار، الآن العالم كله يعي أنّ النظام الدوليّ في طريقه إلى تغيير كبير وإعادة هيكلة على نحو خطير، الأمر الذي جعل أصحاب المشاريع الكبرى على عجلة من أمرهم، وصار الكلّ يستدعي ما توارى خلف أستار التفاهمات والمواءمات من ثقافات وبقايا حضارات، وهذا هو السرّ في تداعي كلّ المشاريع على أمتنا، فأين مشروعُنا نحن المسلمين؟!
اقرأ أيضا: