
“حضرتك.. تَعَرَّضتَ لحملة شرسة وممنهجة من التشويه والطعن؛ نسألُ اللهَ أن تكون في ميزان حسناتك يوم القيامة”؛ بهذه الكلمات التي تموج بالحنان الدافق افتتح المحاور حلقته التي طرح فيها العديد من الأسئلة على الشيخ “ياسر برهامي”، لم تكنْ هذه الافتتاحية البهيجة الدليلَ الوحيد على أنّ الحلقة مُعَدَّةٌ بطريقة احترافية لتصحيح أو -على سبيل التَّنَزُّل- توضيح موقف الشيخ “برهامي” في تصريحاته الآنفة، وللحقّ: إنّ من حقّ كل فصيل أن يصنع ما شاء من السيناريوهات التي يصحح أو يوضح بها مواقفه، لكنْ في المقابل من حقّ المستمع ألّا يعتبر هذا حوارًا يستهدف الوصول للحقيقة، فَشَتَّانَ بين الحوار المتجرّد – وإنّ التجَرُّدَ لعزيزٌ- وبين السيناريوهات المرتبة التي لا تعدوا أن تكون تبريرًا للمواقف، فما الذي جرى في تلك الحلقة التي أذيعت من منصة سلفية تسمى: “همزة وصل”؟
أسئلة ضروريّة لم تطرح
هبْ أنّ حماس أخطأت في قرارها -ولو خطأً غير مغفور- فهل الدفاع عن المستضعفين في غزة مسؤولية حماس وحدها؟ دعونا من حماس الآن وأجِّلوا حسابها إلى غدٍ؛ فهل لدى حكام المسلمين الاستعداد لاتخاذ موقف صارم؟ ماذا لو اجتمعت الأنظمة التي بينها وبين العدو الصهيونيّ معاهدات سلام ووجهت للعدو تهديدًا بإلغاء المعاهدات وإنهاء التطبيع؟ أليس من الوجاهة القول بأنّ إسرائيل ستعيد التفكير ألف مرة في قرارها باستمرار الهجوم ومواصلة العدوان؟ وإذْ تقاعست الأنظمة عن ذلك؛ أليس من الواجب على الشعوب أن تواصل ضغطها على حكوماتها؛ لتتخذ موقفًا سياسيًّا محترمًا يضع الصهاينة ومَنْ وراءَهم في حالة موازنة بين مصلحة الاستمرار في سحق المقاومة وبين مفسدة اضطراب مسار التطبيع؟ ثمّ أين دور برهامي وجماعته التي تقاربت مع النظام بذريعة تحقيق المصالح ودفع المفاسد؟ ما الذي فعلوه مع النظام الذي صاروا من أنصاره؟ أسئلة كثيرة طُويت وطُويت معها الحقيقة.
هل أخطأت المقاومة في قرارها؟
سؤال مشروع وليس بممنوع، والمقاومة -على الرغم من براءتها من خذلان القضية- ليست معصومة، فمن الوارد أن تكون قد أخطأت في قرارها، من حيث التوقيتات وحجم العمليات، أو من حيث المراهنة على أمور قد تقع وقد لا تقع، كالمراهنة على “التوريط الواعي” لبعض الأنظمة، أو على تَعَوُّقِ العدوِّ وإحجامِهِ عن التدخل العنيف خوفًا على الرهائن، أو غير ذلك من الرهانات التي تخضع للتقدير العسكريّ والأمني والاستراتيجيّ، كلّ هذا وارد وبقوة، ووارد كذلك -بنفس القوة أو أشدّ- أن يكون القرار بالغًا غاية الصحّة والسداد؛ بالنظر إلى الدوافع الواقعية، وإلى المآلات المتوقعة، ولكنّ الأطراف الإقليمية والظروف العالمية حالت دون تحقّق ذلك، فإنّ الدوافع قد اجتمعت على ضرورة فعل شيء كبير؛ فالعدوّ يتقدم في مشروعه كلّ يوم إلى مراحل مخيفة، من حيث التوسع في الاستيطان وتكرّر الانتهاكات للأقصى، ومن حيث تنامي حلم الصهيونية الدينية مع الصعود السياسيّ لليمين المتطرف الحاكم، ومن حيث اتساع رقعة التطبيع والتهامها لكافّة الأنظمة سرًّا أو علانية، وإنّ فرصة الأنظمة المحيطة -في التخلص من التطويق المحيق وفي التخفيف من قسوة القبضة الصهيونية- قائمة؛ فلو أنّها إذْ نفَّذتْ المقاومةُ صفعتَها للكيان وأفقدته هيبته؛ تحركتْ سياسيًّا فعرضت حلولًا سياسية، وهددت إسرائيل بتعليق اتفاقات التطبيع إذا هاجمت غزة؛ لكان ذلك -بالقطع- سببًا في حصول الأنظمة على قدرٍ من الاستقلال تجاه الهيمنة الصهيونيّة؟ لقد كان ذلك كلُّه ممكنًا، ولكنّه لم يقع لأنّ الأنظمة لا تريد ذلك؛ فكيف يقول برهامي في جوابه على (المحاور!): إنّ خطأ المقاومة هو الاحتمال الوحيد؟
هل يمكن أن تصح المعاهدات وتسقط شروطها الظالمة؟
أتى الشيخ برهامي ببدعة لا وجود لها في الفقه الإسلاميّ كلِّهِ، ولاسيما الفقه السياسيّ، حيث يدعي -بإطلاق- أنّه بالإمكان بقاء المعاهدة مع فساد شروطها، وذلك بحذف الشروط الباطلة، وموضع الابتداع -وهو ذاته موضع التضليل- هو عدم التفريق بين شروط صحة العقد والشروط في العقد، فأمّا الأولى فهي شروط شرعية، أي من وضع الشارع، ولا دخل لطرفي العقد فيها، وأمّا الثانية فتسمى الشروط الجَعْلِيَّة، وهي التي يضعها كل طرف من طرفي العقد لنفسه، وهذه الثانية هي التي وقع الخلاف فيها إذا كانت مخالفة للشرع أو لطبيعة العقد، بين قائلٍ: تَبْطُل وتُبْطِل العقد، وقائلٍ: تَبْطُل ولا تُبْطِل العقد، وقائلٍ: بالتفريق بين ما خالف الشرع وما خالف طبيعة العقد، أمّا الشروط الأربعة لصحة عقد (الهدنة) فهي من النوع الأول، ولا يجهلها برهامي ولا غيره ممن تصدوا لانتقاد المقاومة؛ فهل يستطيع أحدٌ في وجهه قطرة من ماء أو مسحة من حياء أن يثبت أنّ شرطًا واحدًا منها قد تحقّق؟ فلماذا المراوغة والتضليل؟
الإرجاء السلفيّ الأكثر خطرًا
والحلُّ من وجهة نظر “الشيخ برهامي” هو الانتظار حتى يأتي الفرج وتتغير موازين القوى، يا له من حلٍّ لذيذٍ جميلِ النَّكهة، ولكنْ لأعدائنا وليس لنا، وهل كان المخذِّلون المثبِّطون لحركات المقاومة يقولون للمقاومين أكثر من هذا؟ فلو أنّ عمر المختار أو المهدي أو الخطابي عملوا بقولهم لما كان لنا تاريخ حديث نفاخر به، ولكان الفيتناميون -مثلًا- أجدر من أمة الإسلام بحفاوة التاريخ، والغريب هو استشهاده بقول الله تعالى: (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)؛ فليفسر لنا (إنّا عاملون)، وليجتهد في الخداع على طريقته؛ ليُخرج الجهاد والإعداد من العمل، لماذا يجتزئ بهذه الطريقة المكشوفة، لماذا لا يذكر الآيات التي تأمر بالجهاد والإعداد؟
ما مدى اشتراط المصلحة والاستطاعة؟
لستُ مؤيدًا للإطلاقات التي صدرت من بعض العلماء المؤيدين للمقاومة فيما يتعلق بالمصلحة والاستطاعة، أمّا الاستطاعة التي اعتبرها العلماء بتوقع الظفر فهي شرط عندهم لجهاد الطلب، وأمّا جهاد الدفع فيكفي فيه -لتحقق شرط الاستطاعة- الإعداد قدر الطاقة، وأمّا المصلحة فلا يستطيع أحدٌ أن ينكر دورها في التنزيل، أمّا في الوجوب فقد حسمها القرآن: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ)، وحسابها يكون بتقدير أهل والمقاومة، لا أهل المناورة والمساومة.
اقرأ أيضا