بسم الله الرحمن الرحيم
الإنسان والأرض في كتاب الله (2)
د. عطية عدلان (مدير مركز محكمات)
الحمد لله .. الصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
قطعاً لا يجوز أن ننتقل إلى المحور الآخر من كلامنا عن علاقة الإنسان بالأرض قبل المرور بهذه (المحطة) المركزية، تلك التي يجب أن ينطلق منها الحديث إلى جميع الآفاق المستوعبة للنشاط البشريّ وغاياته ومقاصده، ألا وهي (الاستخلاف)؛ فمن الْمُسَلَّم به – باستقراء الآيات والأحكام استقراء تامَّاً – أن الإنسان مخلوق لغايتين، أولاهما تشتمل على الثانية وتحتويها، وهما: عبادة الله وعمارة الأرض، أمَّا الأولى فهي أن الإنســان مخـلوق لعبـادة الله تعالى؛ قـال الله عزَّ وجــلَّ: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات 56) وأمَّا الثانية فهي أن الأنسان مكلف بعمارة الأرض على وفق منهج الله تعالى؛ قال الله عزَّ وجلّ: (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة 30).
فالإنسان له وظيفة مرتبطة بمركزه في هذا الكون، وداخلة في إطار عبوديته لربه ودينونته لمولاه، هذه الوظيفة هي عمارة الأرض على مقتضى منهج الله تعالى؛ على وجه النيابة والوكالة من الله عزَّ وجلَّ، وهذا هو ما فهمه كثير من العلماء والمفسرين من قول الله تعالى: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، فقالوا: إن معنى قوله تعالى “إني جاعل في الأرض خليفة” أي: خليفة عنِّي يخلفني في إجراء أحكامي في أرضي وبين خلقي.([1])
وفهموا أن استخلاف الله للإنسان ليس لحاجةٍ به تعالى إلى ذلك، وفهموا – كذلك – أن نزول الإنسان من الجنة إلى الأرض كان للغاية التي أعلن الله تعالى عنها قبل أن يخلقه؛ ” لكن حكمته اقتضت وجود الأسباب، فكان أكله ســــــببًا في نزوله للخلافة والرســــالة وعمارة الأرض، فهو نزول حسًـــــا، ورفعـة معنى”([2]).
ولا يضر أن يكون العلماء قد اختلفوا في تفسير الخلافة في الآية الكريمة: أهي خلافة عن الله أم عمَّن سبق الإنسان في عمارة الأرض؛ لأسباب، أهمها أنَّ الراجح الصحيح من التفسيرين هو أنها خلافة عن الله، ونيابة ووكالة عنه سبحانه وتعالى؛ لأنَّ السياق كله في اتجاه اختصاص الإنسان بوظيفة عالية، واحتكاره لوضع كريم له اتصال بهذه الوظيفة، فالآية التي سبقتها تقرر أن الله تعالى خلق للإنسان ما في الأرض جميعاً: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (البقرة 29) فإذا كان هناك من سبق الإنسان على هذه الأرض فلا يمكن أن يكون وجوده وتمكينه فيها على النحو الذي جعله الله للإنسان؛ ومن ثم فالإنسان – حتى وإن سبقه غيره – له شأن أصيلٌ مبتدأ؛ وخلافته لمن سبقه أمر ثانويَّ بجانب هذا الابتداء الأصيل الهام، ثم جاءت هذه الآية وفيها طمع الملائكة الكرام وتمنيهم هذه الوظيفة لأنفسهم: (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) (البقرة 30).بما يعني أنَّ الخلافة هذه أمر أعلى من خلافة قوم لقوم أو خلق لخلق، وبعدها تأتي الآية التي تذكر مؤهلاً من المؤهلات التي اختص بها الإنسان لاختصاصه بوظيفة تمنَّاها الملائكة فلم يظفروا بها ولا بالمؤهل الذي اختص به الإنسان: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة 31).
ثم إنَّ الأمر الذي حمل بعض المفسرين على العدول عن هذا التفسير إلى تكلف القول بأن الخلافة هنا عمَّن سبق الإنسان هو التحفظ من إطلاق هذا اللفظ؛ بدعوى أنه لا يستخلف إلا من يموت أو يغيب، وهذا تحفظ ينم عن ورع، لكنه في غير موضعه؛ لأن الله تعالى ليس كالإنسان، فهو يستخلف في الشهاده على وجه التكليف والابتلاء، ليس عن احتياج، وإنما لحكمة يعلمها؛ لعل منها ما سبق إيراده عن بعض المفسرين، ولعل منها ابتلاء الإنسان بما تحمل من الأمانة.
ولقد اضطربوا في تحديد من سبق الإنسان، فتارة يقولون: الجنّ، ومن المعلوم أن الجن لا يزالون في الأرض مكلفين مثلنا، فكيف خلفهم آدم وهم مزاحمون له في الوجود على الأرض، وتارة قالوا الملائكة، لكن ما الذي قصَّر فيه الملائكة الكرام البررة حتى يستخلف الله بعدهم من يعمر الأرض ؟!
وقد يكون التشويش قد دخل على البعض بسبب الخلط بين معنى هذه الآية ومعنى آيات أخرى تتحدث عن ظاهرة كونية، وعن آية من آيات قدرة الله تعالى وفعله في كونه، وهي آية تتابع الخلق جيلاً بعد جيل، مثل قول الله تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (يونس 14) وقوله عزَّ وجل: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) (فاطر 39) وقوله سبحانه: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) (الأنعام 165) وغير ذلك من الآيات التي تظهر قدرة الله وهيمنته وحكمته في جعل الأمم يخلف بعضها بعضاً في الوجود أو في التمكين والسيطرة، وتلك قضية أخرى مختلفة.
يضاف لذلك أنَّه لو سلمنا – على سبيل التَّنَزُّل – بأن المقصود أن الله جعل الإنسان خليفة لمن سبقه؛ فإن هذا لا يضر بما قررناه من أن الله تعالى استخلف هذا الإنسان، أي جعله يخلف من سبقه في الأرض؛ وبموجب هذا الاستخلاف كان تعميره للأرض، وحتى لو – جدلاً – أخرجنا الآية كلية من سياق الاستدلال فلن تتأثر القضية؛ لأنه لا خلاف في أن الإنسان مكلف من الله تعالى بعمارة الأرض على وفق منهجه وعلى نور من شريعته، وهذا التكليف وثيق الصلة بالأمانة التي تحملها، والتي لا تخرج عن الأمر الشرعي الواجب تطبيقه في الأرض، فيثبت التكليف والتفويض ويبقى النزاع على التسمية، وعندئذ إن استمسكت بلفظ الاستخلاف يكون المخالف منازعاً في لفظ؛ ويكون له الحق في استبداله بما يؤدي معناه.
الآن وقد – استبان لنا وضع الإنسان في هذا الكون – يسوغ لنا أن نمضي إلى المحور الآخر في كلامنا عن موضوع الإنسان والأرض في كتاب الله تعالى. (يتبع)..