بسم الله الرحمن الرحيم
العناية الإلهية (1)
د. عطية عدلان (مدير مركز محكمات)
الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
قد يبدو للبعض أنَّ طرح موضوع العناية الإلهية لا يأتي إلا في سياق التربية الوجدانية وترقيق القوب، ونحن لا ننكر أنَّ هذا مقصوداً وأنَّه على درجة من الأهمية عالية، غير أنَّ هذا المقصد – على أهميته – يأتي في هذا الطرح تابعاً لا أصلياً؛ وأحسب أنَّه في كتاب الله جاء على هذا النحو، فالقرآن الكريم عندما تناول قضية العناية الإلهية بنى من خلالها معتقداً وتصوراً ينبني عليه منهج حياة وطريق نجاة، والعناية الإلهية مظهر من مظاهر الربوبية، غير أنَّها المظهر الأبرز والأكثر التصاقاً بالإنسان، وإن كان من حيث الترتيب هو فرع عن الربوبية وتابع لها.
ولكي تدرك إلى أيّ حدٍّ يعدُّ هذا الموضوع أصلياً في بناء التصور العام الذي ينبثق منه منهج الحياة، وإلى أيِّ مدى كان القرآن الكريم يرتب عقلية المسلم ونفسيته بما يمكنه من مواجهة التحديات مهما تجددت وتوالدت؛ عليك أن تطالع الفلسفة القديمة والجديدة في الجانب الذي يتعلق بمركز هذا الإنسان في الكون ووظيفته في الحياة؛ لتخرج بنتيجة واحدة غاية في العجب، وهي الالتقاء بين المحدثين والقدماء على فكرة عزل الإله عن الكون والأحياء، ومن باب أولى عزله عن الإنسان الذي هو مركز هذا الكون ومحوره.
فقد تدرجت الفلسفة القديمة صعداً في درج الجدل المنطقيّ الخَلَّاب؛ لتصل إلى قمة (أرسطو) ومن فوقها تعلن عن إيمانها بإله منعزل عن الكون والحياة، منشغل فقط بكمال ذاته؛ فلا حاجة بنا نحن البشر إلى إله لا يعتني بنا؛ فليعبد الناس ما شاءوا من آلهة يخلقونها، أو ليهجروا العبادة هجر هذا الإله للكون والحياة، وليقيموا حياتهم على هدي عقولهم وتجاربهم، وليتعاملوا مع الطبيعة وما وراء الطبيعة تعامل النِّدّ المكافح والقِرن المناطح.
ولم تبتعد الحداثة كثيراً عن ذلك التصور، وإذا كانت في بداية أمرها قد استفزها الحماس مع إرثها الصدامي الكئيب مع الكنيسة لتعلن في رعونة موت الإله؛ فإنّها لم تلبث إن استعادت توازن المنطق الآرسطيّ؛ لتقرر أنّ الإله – لا لسبب معقول تبديه – لا شأن له بهذا الكون ولا بهذا الإنسان، ولا سيادة له عليه، فالإنسان هو السيد، وهو وحده الذي يقرر طبيعة علاقته مع كل شيء في هذا الوجود، بما في ذلك (الله) .. تعالى الله عمَّا يقولون.
وعلى قاعدة العقيدة الحداثية قام منهج الحياة العام المسمى بالعلمانية، والتي ألقت بظلالها على كل شيء في الحياة، فلا شأن للدين بالسياسة ولا الحكم، ولا دخل له في النشاط الاقتصادي وطرق الكسب وأساليب الحياة، وحتى الأخلاق العامّة والنظم الاجتماعية هي كذلك بمنأى عن الدين حتى ولو كان بعض واضعيها متأثرين على نحو ما بالدين، أمَّا الدين فهو مجرد سلوك ارتضاه ناس لأنفسهم؛ فليمارسوه كما يحلو لهم داخل صوامعهم أو في قعر الوجدان الغامض.
أمَّا الإسلام فهو منهج حياة وطريق نجاة، يقوم على أساس الاتصال بالله؛ ومن ثمَّ كان تركيز القرآن على قضية الربوبية، وعلى قضية العناية الإلهية، فالإنسان ليس وحده على هذا الكوكب، وليس كذلك متروكاً لشأنه، والله تبارك وتعالى الذي خلقه وسواه وأنعم عليه وحباه لا يزال يحوطه بعنايته ورعايته، والله الذي استخلفه على هذه الأرض لم يتركه سدى، وإنَّما وضع له المنهج القويم وحدد له الصراط المستقيم، ولا يزال يهدي خطاه في هذه الحياة.
إنَّها – إذن – مسألة محورية وقضية مفصلية، ومن هنا فإنّ تناولها وطرحها من خلال آيات القرآن – قبل كونه ملبياً لحاجة الشعور ورغبة الوجدان – يؤسس عقدياً وفكريا لمنهج حياة متميز متفرد، هو في حقيقته الكاملة: الصراط المستقيم.