قد لا يكون مبالِغاً ولا ذاهباً مذاهب الشطط مَن علم قيمة وأهمية وخطر الخطاب الدعوي فاعتقد أن الإسلام لم يصب بمثل ما أصيب به من جهة الخطاب الدعوي المعاصر، وربما لا يكون حالماً أو سابحاً في لجج الخيال مَن شاهد ما تزدحم به الساحة الدعوية من تناقضات واختلالات فأيقن أن لا سبيل إلى التمكين لدين الله إلا بإعادة هيكلة الخطاب الدعوي بما يتناسب ومعطيات الواقع، ويتلاءم ومتطلبات العصر، ويتجاوز الأخطاء التي أفضى تكرارها إلى استمرارها واستقرارها.
إننا – بحق – أمام تحدٍّ كبير، وتجاه واجب عظيم، نستطيع بيسر أن ندرك خطورته إذا استدعينا من وعاء البدهيات في خزان الذاكرة تلك الحقيقة الساطعة اللامعة، وهي أن البيان هو المرتكز الأول والمعتصم الأكبر الذي ينبني عليه التكليف والمسؤولية، ويترتب عليه الحساب والجزاء، ويعوّل عليه في تحقيق المقاصد العليا لهذا الدين؛ البيان الذي تقوم به الحجة، ويتم به البلاغ، ويصل به ما في خطاب الله لعباده من الهدى والبينات؛ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: ٤]، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ 193 عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْـمُنذِرِينَ 194 بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء:194-195]، {وَأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} [النحل: ٤٤]، {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138]، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]، {رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].
ولست أعني بالخطاب الدعوي ما قد يتبادر إلى أذهان البسطاء من أنه الخطبة وما في معناها، وإنما أعني به ما هو أوسع وأشمل، أعني منظومة البيان بكل قوالبها وقنواتها، أعني ما يشمل الخطبة والدرس والفتوى والكتاب والمقال، وما يتسع لغيرها من كل قوالب العرض لمضامين الإسلام، ولا شك أنه سيدخل في هذا المعنى – إلى جانب الأطر والقوالب والأساليب والوسائل – الأسس والمنطلقات والمقاصد والغايات التي ترسم ملامح منهجية الخطاب، وتحدد وجهة المنظومة البلاغية.
كما أنني لا أقصد بتجديد الخطاب ما قصده الخبثاء – من مروّجي الفكر العلماني – من تغيير لخطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين وأفهامهم، ومن تحديث لحقائق الدين وأحكامه بما يتماشى مع أهواء العابثين.. كلا، فتلك دعوة لتفريغ الإسلام من مضمونه ومحتواه، وإعادة شحنه بمضامين حداثية شيطانية؛ ليبقى مسخاً مشوهاً لا نبض فيه ولا حياة؛ فالمستهدف بالتجديد ليس خطاب رب العالمين، وإنما خطاب الموقعين عن رب العالمين؛ المستهدف ليس المضمون الذي جاءنا من الله، وإنما الوعاء الذي نقدم فيه هذا المضمون للناس.
ولكي لا نجنح إلى التنظير بعيداً عن نداء الواقع الملحّ، أرى أن نبدأ بمشكلات الخطاب الإسلامي المعاصر، فما هي أهم وأبرز هذه المشكلات؟
إننا إن تجاوزنا مشكلات الفئات التي تُحسب – في الجملة – على التيارات البدعية والفرق الضالة، كالشيعة ومعتزلة العصر – ممن يسمون أنفسهم أو يسمّيهم غيرهم العصرانيين أو العقلانيين – وغلاة الصوفية وعتاة المتكلمين، وغيرهم ممن لا يضر خطابهم – مهما اشتط – ما استقام خطاب أهل السنة، وحاز من السبق وامتلاك المبادرة ما يجعله الخطاب المعبّر عن الإسلام؛ وممن لا نتوقع أن يؤثر فيهم توجيه أو يثنيهم عن طريقهم إرشاد إن تجاوزنا مشكلات هذه الفئات وانحصرنا ببحثنا وتنقيبنا داخل إطار المنتسبين إلى أهل السنة؛ فسوف نفاجأ بحشد هائل من المشكلات التي تجعل الخطاب الإسلامي – لولا رحمة ربي ثم إخلاص المخلصين – كفيلاً بأن يهدم بعضه بعضاً وأن يحرق بعضه بعضاً.
تأتي على رأس هذه المشكلات مشكلة التزوير الناعم المقنع للمضامين الإسلامية، أجل.. التزوير، التزوير الذي تجاوز الأساليب القديمة الفجّة كوضع الأحاديث، إلى أساليب ناعمة خفية لا تقل خطورة عن وضع الأحاديث واختلاق الأكاذيب. من صور هذا التزوير سوق النصوص الصحيحة في غير ما وردت فيه، وحملها على معان بعيدة عنها كل البُعد، وتحميلها ما لا تحتمل من الدلالات والمعاني، بل.. والأحكام، فلا تعجب إذا رأيت – على سبيل المثال – من يبدعون ويخطئون ويفسقون الشعوب الإسلامية التي ثارت على الطغاة الظلمة، لا تعجب إذا رأيتهم يحشدون من النصوص الصحاح ما يدعمون به دعواهم، ثم لا يزداد ادعاؤهم – رغم ما حشدوا – إلا شذوذاً عن الحق وصدماً للفطرة ومجافاة للواقع والشرع معاً، ولا تعجب كذلك إذا وجدت أصحاب الهفوات من أهل الجهاد والكفاح والرباط يصنَّفون ضمن الفرق النارية – إي والله.. النارية – وتساق الأحاديث الصحاح لدعم هذا التصنيف الظالم العجيب.
ومن صور هذا التزوير التهوين والتهويل؛ التهوين من شأن الأمر الكبير الهائل، والتهويل في شأن الأمر الصغير الهين، ولا أدل على ذلك من وجود أجيال بتمامها في بعض القطاعات الدعوية تستبشع وتستفظع التصوير والإسبال وحلق اللحية، وترى – في ذات الوقت وبذات العين – أن تنحية الطواغيت لشريعة الله أمر هين قد لا يتم تناوله إلا في إطار الرد على (الفلانيين!) ببيان أن هذا كفر دون كفر. والتزوير بهذا الأسلوب غاية في الخطورة؛ لأنه يعيد ترتيب أمور الإسلام على غير ما رتبها الشارع الحكيم؛ فتختل الصورة العامة، ويضطرب المشهد الحركي تبعاً لهذا الاختلال.
وتأتي بعد مشكلة التزوير المقنع مشكلة أخرى لا تقل عنها خطورة، وهي مشكلة تعري الخطاب من وصف المناسبة والملاءمة؛ متى وأين ولمن يوجه خطاب معين؟ ولماذا وبماذا؟ وفي أي ظرف وبأي وسيلة؟ كل هذه وغيرها أسئلة يجب أن يجاب عنها بوضوح ومصداقية قبل إنشاء الخطاب، وإلا فالهدم هو النتيجة الحتمية لمن رام البناء، والفساد هو الأثر المحتوم لمن قصد الإصلاح، وسلوا الواقع الدعوي الذي نحياه فستجدون عنده الخبر اليقين عما حدث للدعوة من فواجع بسبب انعدام شرط المناسبة والتعري من غطاء الملاءمة، سلوا القنوات الفضائية، وسلوا مواقع التواصل الاجتماعي، سلوا كل هذه الأوساط المملوءة مما تعافه الفطرة ويأباه الطبع وينفر منه الذوق الإسلامي المستقيم.
إننا في كثير من الأحيان لا نفرق بين ما يقال وما يطرح على موائد خواص العلماء وبين ما يذاع وما ينشر في الفضائيات على رؤوس الدهماء، فضلاً عن التفريق بين ما يصح تناوله في الدرس العام والخطبة وما شابه ذلك وبين ما لا يصح تناوله إلا بين أروقة الدراسات الأكاديمية المتخصصة، وإن الكثيرين ممّن تفقهوا منا في الفروع وحفظوا المذاهب والمتون لم تتوافر لديهم ملكة الفقيه العملي الذي يعرف متى يجب عليه أن يخبر بما علم ومتى يجب عليه السكوت، وإن إطلالة سريعة على سنة المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم لتؤكد لنا أننا جافينا سنته التي نتغنى باتباعها ليل نهار.
فها هو صلى الله عليه وسلم يخبر بخبر حق ثم يمنع المخبَر من الإخبار به لكون الناس قد يسيئون فهمه ولا يدركون مرماه، ولولا التأثم وتوقع زوال المانع من النشر ما بلغنا هذا الخبر من الأساس، أخرج البخاري ومسلم عن معاذ رضي الله عنه، قال: كنتُ ردفَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على حمارٍ يقال له عفيرٌ، فقال: «يا معاذُ، هل تدري ما حقَّ اللهِ على عبادِه، وما حقّ العبادِ على اللهِ». قلت: اللهُ ورسولهُ أعلمُ. قال: «فإنّ حق اللهِ على عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً، وحقّ العبادِ على اللهِ أن لا يعذبَ من لا يشرك به شيئاً». فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أفلا أبشر به الناسَ؟ قال: «لا تبشِّرهم فيتّكلوا»[1].
وقريب من هذا أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة دخوله الحائط على رسول الله صلى الله عليه وسلم: “….. فَقَالَ «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ» – وَأَعْطَانِى نَعْلَيْهِ – قَالَ «اذْهَبْ بِنَعْلَىَّ هَاتَيْنِ فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُسْتَيْقِناً بِهَا قَلْبُهُ فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ » فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيتُ عُمَرُ فَقَالَ مَا هَاتَانِ النَّعْلاَنِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ. فَقُلْتُ هَاتَانِ نَعْلاَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَنِى بِهِمَا مَنْ لَقِيتُ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُسْتَيْقِناً بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ. فَضَرَبَ عُمَرُ بِيَدِهِ بَيْنَ ثَدْيَىَّ فَخَرَرْتُ لإسْتِى، فَقَالَ: ارْجِعْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَجْهَشْتُ بُكَاءً، وَرَكِبَنِى عُمَرُ فَإِذَا هُوَ عَلَى أَثَرِى، فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَا لَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ». قُلْتُ لَقِيتُ عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِى بَعَثْتَنِى بِهِ فَضَرَبَ بَيْنَ ثَدْيَىَّ ضَرْبَةً خَرَرْتُ لإسْتِى، قَالَ: ارْجِعْ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «يَا عُمَرُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ». قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ – بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى – أَبَعَثْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ بِنَعْلَيْكَ؛ مَنْ لَقِىَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُسْتَيْقِناً بِهَا قَلْبُهُ بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ فَلاَ تَفْعَلْ فَإِنِّى أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا؛ فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «فَخَلِّهِمْ»[2].
والأمثلة على ذلك من السنة ومن كلام السلف ومواقفهم أكثر من أن تخضع للإحصاء في مثل هذا المقال المعتجل.
أما المشكلة الثالثة فهي: مجافاة الواقع، هذه المجافاة للواقع تساوي في عالم الجِدّ التغريد خارج السرب، وفي عالم اللهو تعدل ركل الكرات في المرمى قبل إطلاق صافرة البداية أو بعد إطلاقها لختم المباراة، ومن المجافاة الجهل بالواقع أو تجاهله، ومنها كذلك الجهل بالسنن الإلهية في الشعوب والأمم ووضع خطط التغيير بمنأى عنها.
إن الدعوة الإسلامية تستهدف الواقع البشري بالإصلاح والتغيير؛ فلا بد حتماً من معرفة هذا الواقع وفهمه الفهم الصحيح، وإذا كان العلماء قد قرروا أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره؛ فإن الحكم على الواقع واختيار الأسلوب الأمثل للتعامل معه بناء على هذا الحكم متوقف على تصوره تصوراً سليماً مبنياً على علم وإحاطة وفهم عميق دقيق، ولو أن الدعوة تجاهلت الواقع ولم تعتنِ بفهمه وتحليله، لكان هذا المسلك اختياراً منها لنفسها أن تمضي في طريقها معصوبة العينين، ولكان هذا الصنيع تنكباً طريقَ النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي كان يعرف ويحرص دوماً على معرفة الواقع الذي يتحرك فيه بدعوة الحق، إلى حدّ أنه كان يعرف عن كل ملك من ملوك الأرض ما يجعله يحسن اختيار من يرسله إليه ويجيد تحديد ما يكتب له، وكان يعرف على وجه أدق من معرفة عقارب الساعة لطريقها متى يحارب ومتى يهادن، ومتى يقدم ومتى يحجم.
ومن آثار مجافاة الواقع اعتماد الخطاب الدعوي المجرد دون الربط بواقع المجتمع، ودون التعرض لمشكلاته ومتطلباته، ما جعل تلقي الناس له مقطوعاً عن الاستجابة والعمل، وجعل خطبة الجمعة – مثلاً – واحة للاسترواح والاستجمام النفسي على أحسن تقدير. إن المجتمع لا يمكن أن يتفاعل مع خطبة الجمعة أو غيرها من أدوات الخطاب الدعوي حتى يشعر فيها بالطابع العملي التفاعلي، وحتى ترتبط بهمومه وطموحاته، وحتى يكون فيها العلاج لمشكلاته وأزماته، أما أن تظل المواعظ المجردة محلقة في سماء الروحانيات فهذا يعني أنها ستظل في عليائها محلقة مرفرفة دون أن تحرك الواقع أو تؤثر فيه.
ومن آثار ذلك أيضاً النقل من كتب أهل العلم دون مراعاة حال المخاطبين، فكثير من الخطباء والوعّاظ والدعاة في الدروس والخطب ينقلون من كتب أهل العلم دون أن يراعوا حال المخاطبين، فيقع التنافر الشديد بين الطرح وبين عقلية المتلقي، فمما لا شك فيه أن الثقافة العقلانية المعاصرة لها تأثير كبير على عقول كثير من الناس في هذا الزمان تجعلهم ينفرون بشدة مما يتنافى مع معطيات الثقافة المعاصرة، وهذا لا يتطلب منا إخفاء الحقائق السمعية أو التنكر لما قد يتنافى مع مفاهيم بعض الناس من حقائق الدين، وإنما يتطلب منا ألا نستغرق مع البعض فيما استغرقوا فيه من تفسير للنصوص التي أخبرتنا بالغيوب والسمعيات، لا سيما ما كان منها معتمداً على روايات ضعيفة أو إسرائيليات، ومصدر الخلل عند كثير من المتصدرين للدعوة هو الخلط بين ما هو مقدس وشرعي وبين ما هو محاولة بشرية اجتهادية قد تكون خطأ وقد تكون صواباً.
وفي كثير من الأحيان ترى بعض الدعاة والخطباء يتقمّصون شخصية أحد العلماء القدامى، فإذا تكلم أحدهم في موضوع ما فلا بد أن يأتي بكل الروايات التي تتعلق بهذا الموضوع، إما تقليداً محضاً أو إظهاراً لغزارة العلم وسعته!!
وإن كثيراً من التفاسير وكتب التاريخ التي تحمل الكثير من الخير والحق والصدق، تغصّ بكثير من الروايات الضعيفة والحكايات السقيمة والأخبار الغريبة والأحوال العجيبة، من مثل ما يقوله أحد رواة التفسير القدماء من أن (ق) هو جبل يحيط بالأرض، وما يرويه بعضهم في قصة بدء الخليقة، وغير ذلك مما لا يمكن أن يصدقه عقل.
إن الداعية العاقل يميز الصحيح من السقيم، وينقي كلامه من الروايات الهزيلة التي يلوّن بها البعض كلامهم؛ فيخرج كلامهم كثير الألوان، لكن دون أن يكون بين هذه الألوان الكثيرة انسجام أو توافق، فتبدو نشازاً مستهجناً عند أكثر الفاهمين المتذوقين.
بل إن الداعية الواعي الحكيم يتوجب عليه أحياناً أن يكتم بعضَ ما يعلم أو يسكت عن بعض ما قرأه أو سمعه، وألا يسارع إلى تبليغه وإذاعته؛ لعلمه أن الوقت أو الظرف لا يناسب، أو أن المخاطب لا يرقى إلى فهم ما يطرح، وعلى هذا يأتي قول الإمام البخاري في صحيحه في كتاب العلم: باب من خصَّ بالعلم قوماً دون قوم كـراهية أن لا يفهموا، وقال علي: “حدثوا الناس بما يعرفون. أتحبون أن يكذب الله ورسوله”. وأخرج مسلم عن ابن مسعود: “ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة”. ويؤكد ابن القيم هذا فيقول: “من أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم، فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب واحد من كتب الطب على أبدانهم“[3].
وينشأ عن تجاهل الواقع عدم قدرة الخطاب الدعوي على التكيّف مع المتغيرات، وعدم التفريق بين المراحل فيما يناسب كلاً منها من الخطاب، وهذا من أكبر أسباب الخلل والشلل.
وفي مقابل مشكلة تجاهل الواقع تقوم مشكلة موازية لها وإن كانت تنطلق في الاتجاه المعاكس، وهي مشكلة الخضوع لضغط الواقع والانسحاق تحت سطوته، الأمر الذي حدا بالبعض من الناس لأن يفسر الشرع في ضوء الواقع البشري المتقلب، ومن ثم فهو يخضعه لتقلباته، ويجعله تابعاً له، وهذه آفة معيبة وسوأة مشينة. إن الشرع نزل ليصحح الواقع البشري، وإنه لجدير بالعلماء والدعاة أن يخضعوا الواقع للشرع ويحددوا درجة انحرافه أو استقامته بمقاييس الشرع، قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْـحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213].
ومن هنا أضحت الديمقراطية النظام السياسي الإسلامي في أبهى حلله وأرقى صوره بعد أن كانت الاشتراكية في الستينيات من القرن المنصرم ثمرة تعاليم الإسلام وخلاصة مبادئه السياسية والاقتصادية، وغدت معاهدات الإذعان والاستسلام من صميم ما جاء به الشرع المنزّل، ولم يعد جهاد الطلب المجمع على فرضيته يمت إلى ديننا بأدنى صلة، وبات التجنس بجنسيات الدول الكافرة أمراً مباحاً بإطلاق وإن أدى إلى إلزام المسلم بالالتحاق بالخدمة العسكرية في جيوش المحاربين للمسلمين.
ويأتي بعد هذه المشكلات الأربع مشكلة خامسة ألا وهي ســيطرة المذهبية الفكرية والفقهية على عقلية الداعية، واحتباسه في تعاليمها، وعدم قدرته على الخروج عن إطارها، ما يعطي خطابه صبغة حزبية تضطر المخاطب إلى التبكير باتخاذ موقف نفسي من طرحه، وتقلل من قناعة الجمهور بما يقول، الأمر الذي يؤدي حتـماً إلى تخلف الاســتجابة.
ونحن لا نمنع الانتماء إلى أي حزب أو جماعة أو طائفة ما دام في الجملة على منهج أهل السنة، ولا نرى غضاضة من العمل تحت أي لواء من هذه الألوية، بل نرى أن واجب التمكين للدين لا يتم إلا بعمل جماعي منظم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ فالعمل ضمن أطر دعوية ضرورة دعوية، بشرط عدم التعصب، وعدم نبذ الآخر، أما الذي نحذر منه فهو أن يتحول خطاب الداعية في البلاغ العام بدعوة الإسلام، وفي الخطب والدروس العامة؛ إلى بوق لحزبه؛ لأن هذا المسلك يضيق على المخاطبين بالدعوة ما وسعه الدين عليهم، فتنفر منه فطرهم، وتأباه طباعهم، ومن ثم لا يتأثرون به، بل ربما يكون لديهم موضع تهمة.
والمشكلة السادسة الاختلاف الكثير بين الدعاة في كثير من القضايا والأحكام، بشكل يثير الاضطراب والارتباك لدى الجمهور، ما يؤدي إلى ما يشبه الفوضى الفكرية والفقهية، وهذا بلا شك يؤدي إلى نتائج سيئة تبدأ من تأخر القناعات، وتنتهي بتخلف الاستجابة.
وإذا كان الخلاف في جانب من جوانبه أمراً مقدراً لا مفر منه؛ لكون العقول تختلف في طرائق التفكير، ولكون النصوص حمّالة ذات وجوه؛ فإننا نستطيع أن نضيق من دائرته، ونخفف من حدته، ونجعله مقصوراً على الفروع دون الأصول، ونضطره إلى أن يكون محصوراً في دهاليز البحث العلمي وأروقة الدراسات الأكاديمية، ونحفه بكوكبة من آداب الاختلاف، ونجتهد في التماس الحق والتجرد له بقطع النظر عن هوية قائله، وهذا يستلزم إخلاصاً شديداً وتجرداً فريداً.
أما أن نفرح بالخلاف أو نفتعله، ثم نصوغه في مساجلات ومناظرات، ثم نذريه في سماء الدعوة وفضاء الإعلام؛ فهذا هو الخطر الأسود الذي يرتدي ثياباً بيضاً.
صحيح أن الداعية قد يضطر إلى الرد والدفع، وذلك إذا ما كان هناك من يعبث بحقائق الدين عبثاً لا يصح السكوت عليه، ولكن ليكن هذا بقدر الضرورة؛ إذ الضرورة تقدر بقدرها، ولا يكونن ذريعة لتلبية داعي الهوى في النقد والتجريح والتهجم على الناس.
سابع هذه المشكلات – وليست بالأخيرة – مشكلة التركيز على قضايا غير معاصرة مما قد سبقت معالجتها في الماضي، وترك وتجاهل القضايا المعاصرة، وهو لون من ألوان الهروب من المواجهة، وصورة من صور النقل من كتب العلماء دون تمييز بين ما نحن بحاجة إليه وما لسنا بحاجة إليه، ولا يفعل هذا إلا من لا يتحمّل المسؤولية الدعوية، ومن يعيش الماضي ولا يكترث بالحاضر، ومن يضيع رسالة الدعوة في كلام غير مفيد يبدو وكأنه مفيد.
إن السابقين يوم أن بالغوا في الاهتمام بمسائل الصفات وبالرد على الأشاعرة ومن شابههم، كانت تلك المسائل يومها تمثل فتنة عصرهم وقضاياه الساخنة، ونحن أيضاً لدينا قضايا معاصرة تحتاج منا لأن نتصدى لها ونعالجها بنفس الاهتمام الذي عالج به السابقون قضاياهم، مثل قضايا تطبيق الشريعة، والدفاع عن المسلمين المستضعفين، وتحرير الإنسان من الآلهة الجديدة التي استعبدته دهراً طويلاً.
ولا يعني هذا ترك القضايا القديمة تركاً كلياً، وإنما المقصود هو ألا تأسرنا وتستولي على اهتمامنا على حساب قضايا أكثر منها خطورة.
هذه المشكلات وغيرها (التزوير الناعم المقنع – تعري الخطاب عن وصف الملاءمة والمناسبة – تجاهل الواقع من قبل البعض – الخضوع لضغط الواقع من قبل البعض الآخر – سيطرة المذهبية والحزبية – الاختلاف الكثير بين الدعاة – استدعاء قضايا قديمة هروباً من المواجهة بالقضايا النازلة – الارتجال والانطلاق من ردود الأفعال – الغرق في الجزئيات وإهمال الكليات – التردد بين الاستجداء والاستعداء – الخلط بين الخطاب النخبوي الخاص والخطاب الشعبوي العام… إلخ)؛ كل هذه المشكلات وغيرها تحديات ضخمة في طريق الوصول إلى المأمول. فما هي الأسس التي ينبغي – مع تلافي تلك المشكلات – أن نراعيها وأن ننطلق منها إلى تجديد الخطاب الدعوي بما يحقق لنا الآمال الكبار؟
لا شك أن هناك أسساً ترسم ملامح وسمات الخطاب الدعوي المنشود، وتمهّد لتحول كبير في الخطاب الدعوي؛ تحول يبشر بنهضة كبرى ووثبة عظمى في أداء الواجب الكبير، الواجب الذي لا يقدم عليه واجب ولو كان قيام الدولة الإسلامية أو تحقيق سيادة الشريعة، ألا وهو واجب البلاغ والبيان لهذا الدين، وإقامة الحجة على وجهها الصحيح؛ بما يسقط العذر، ويقطع اللجاج، ويميز بين الخبيث والطيب تمييزاً يجعل مآل الفريقين عن بينة، سواء من هلك ومن نجا.
يأتي على رأس هذه الأسس: التنظيم الشرعي للخطاب الدعوي، بمعنى أن يتم إخضاع وتطويع الخطاب الدعوي للخطاب الشرعي الممنهج، ولا أقصد بهذا مجرد التوصية – ولا حتى التربية – لكل قائم بواجب الدعوة أن يتفقه في الدين – وإن كان هذا مطلوباً بوجه ما وبقدر ما –، لكن أقصد ما هو أجمع وأوسع وأدق وأعمق، أقصد ما يحقق نوعاً من الولاية العلمية الممنهجة على الخطاب الدعوي، وهذا يمكن أن يتحقق بأمرين، أزعم أن التجربة المعاصرة أثبتت أنه لا غنى عنهما.
الأمر الأول: أن يتم تأسيس مرجعية شرعية موحدة للعمل الدعوي الإسلامي تضم نخبة من خيرة العلماء والدعاة المشهود لهم بالتجرد والرشد والوعي مع العلم الشرعي، ممن يحملون هَمَّ هذه الدعوة، وممن لهم تاريخ من النضال في هذا الميدان الشريف، يكون لهذه الهيئة الشرعية الدعوية نوع ولاية على كافة الجماعات والهيئات العاملة للإسلام؛ كولاية أهل الحل والعقد على الأمة، تستمد نفوذها من قناعة جمهور الدعاة وطلبة العلم بها قناعةً تجعلهم يقدمون رأيها على رأي قادتهم عند الاختلاف، وتضطر القائمين على الجماعات إلى عدم مخالفتها لئلا تخسر جمهورها وتفقد مصداقيتها؛ تفصل في كل نزاع يطرأ، وتقول كلمتها في كل ما يستجد من المواقف والأحداث؛ بما يحقق وحدة الوجهة ويعفي من الاضطراب في المسيرة، فيكون توجيهها تارة كصوت الحادي الذي يوحد سير القافلة ويجمع شتاتها، وتارة كعصا الراعي يهش بها على الشاردة ويزع بها الركب.
أَعلمُ جيداً أن قيام هذه المؤسسة أمر تكتنفه صعاب جمَّة، لكننا نوقن بأنه واجب كبير لا يسع الأمة تركه مع القدرة عليه، ودليل وجوبه عموم الأمر بطاعة أولي الأمر، وعموم الأمر برد ما استشكل من الأمور إليهم، وذلك في آيتين أرى من تمام الفهم ألا نفصل بينهما في معرض الاستدلال، وهما قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59]، مع قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، وأولو الأمر هم العلماء والأمراء، ووجوب طاعتهم وردّ الأمر إليهم يستلزم وجوب إيجاد هيئتهم الجامعة التي لا يمكن أن تتحقق الحكمة من الأمر بطاعتهم وردّ الأمر إليهم إلا بها؛ إذ القاعدة المقررة أنَّ “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب“، ويقيناً لا يمكن أن يتم – فيما يتعلق بالشأن العام – واجب الطاعة لأولي الأمر من العلماء ولا واجب الردّ إليهم إلا بوجود جماعتهم؛ لأن تفرقهم مع اختلافهم لا يمكن أن يتحقق به ولا أن يناط به هذان الواجبان الكبيران؛ إذ ليست طاعة أحدهم بأولى من طاعة الآخر، وكذلك ليس أحدهم بأولى بالرد عليه من الآخر، وبالجملة: بغير هذا لن تتحقق الحكمة من الحُكم، ومن ثمّ لن يتحقق الرشد المنشود للحركة الإسلامية.
وهذا لا يستلزم بالضرورة حلّ عقدة الجماعات العاملة للإسلام، ولا صهرها ودمجها في كيان واحد، لا يستلزمه إلا إذا لزم من وجوب خضوع الكليات جميعها لإدارة الجامعة أن يتلاشى ما بينها من فوارق واختصاصات وتذوب جميعاً في كلية واحدة، لا يستلزمه إلا إذا لزم أن تتحول كل كتائب الجيش إلى كتيبة واحدة ليتحقق خضوعها جميعاً لقيادة موحدة، وأن تتحول كل الوزارات إلى وزارة واحدة لتدين بالولاء لرئيس واحد ينتظم به شمل الدولة، ومن رأى تعدد الجماعات على غير هذا النحو – الذي طاب للكثيرين أن يطلقوا عليه اختلاف تنوع لا تضاد – فليراجع التزامه من الأساس، وليعد في تعلمه للإسلام إلى نقطة الصفر وإلى مربع البدهيات الذي لا يصح تجاوزه إلى ما بعده إلا إذا كان هناك خلل في التربية وعوج في المنهجية العلمية.
ولا يستلزم كذلك جمع الناس كلهم على رأي واحد أو غلق باب الاجتهاد؛ كلا.. فلكل مسلم حقه في اعتناق مايتراءى له من الآراء، وكذلك حقه في التعبير عن رأيه بكافة الوسائل، ودور هذه المؤسسة لا يتوجه إلى الحجر على التفكير أو التعبير، ولا يتوجه كذلك إلى المسائل والمواقف الفرعية التي يشق إلزام الناس فيها برأي واحد، وإنما يتوجه إلى الترجيح واختيار الأوفق للشرع والأقرب لتحقيق المصلحة فيما هو من قبيل الخطط العامة والمسائل الكبار المتعلقة بمنهج التغيير، ثم الإلزام للكافة بالعمل وفق ما اختارته دون إلزام باعتقاد أنه الأصوب، ودون حجر على التفكير أو التعبير، وتترك بعد ذلك التفاصيل والخطط العملية والتنفيذية لاجتهاد كل فصيل.
كيف سيتم إنشاء هذه الهيئة، وما هو نظام عملها، وهل ستكون دولية أم إقليمية، وما معايير الاختيار، وكيف ستكون البداية ومن أين الانطلاقة؟ كل هذه الأسئلة وغيرها تحديات عظيمة، لكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تخور أمام التحديات ولا تنهار أمام العقبات، لا سيما إذا استعانت بربها وتوكلت عليه، وهي أمور تفصيلية موضع اجتهاد.
هذا هو الأمر الأول من الأمرين اللذين تتحقق بهما عملية التنظيم الشرعي للخطاب الدعوي، أما الأمر الثاني فهو: إنشاء مراكز بحثية متخصصة تحت إشراف هذه الهيئة الحكيمة؛ لتقديم الدراسات التأصيلية للنوازل المتعلقة بالدعوة ومناهج التغيّر والسياسة الشرعية وغيرها من المسائل الكبار، والأصل لهذا الواجب قول الله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، فالعاملون للإسلام والقائمون على الدعوة كالمجاهدين في سبيل الله، يحتاجون – لكثرة شواغلهم – إلى من يتخصص في بحث المسائل الكبار التي تحتاج إلى جهد زائد وأدوات اجتهاد لا تتوافر لأغلب العاملين؛ ليسترشدوا بها ويهتدوا بهداها.
أما الأساس الثاني فهو إحياء فقه الأولويات، وتربية العاملين للإسلام عليه، وفقه الأولويات هو فهم وإدراك رتب الأعمال والمشاريع الدعوية، ووضع كل شيء منها في مرتبته بالقسط، ثم تقديم الأَوْلى فالأَوْلى عند الازدحام، بناءً على ضوابط ومعايير شرعية صحيحة يهدي إليها العلم بالشرع والفهم للواقع، على نور من العقل السليم المسترشد بالوحي المعصوم، فلا يقدم غير المهم على المهم، ولا المهم على الأهم، ولا المرجوح على الراجح، ولا المفضول على الفاضل، بل يقدم ما حقه التقديم، ويُؤخّر ما حقه التأخير، ولا يهول الصغير، ولا يُهوِّن الخطير، بل يوضع كل شيء في موضعه بالقسطاس المستقيم، بلا بخس ولا طغيان، ولا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا جفاء.
والأصل لفقه الأولويات استقراء الشريعة؛ فإن الاستقراء التام للشريعة يثبت تقديمها للمهم على الأقل منه أهمية عند التزاحم، ومن هنا كانت القاعدة الفقهية العامة: “إذا تعارضت المصالح قدم الراجح منها على المرجوح”، وقاعدة: “إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما بارتكاب أخفهما”، وقاعدة: “الضرر الأشد يُدفع بالضرر الأخف”، وغير ذلك من القواعد التي تنظم فقه الأولويات، ويمكن أن يستدل عليه باستقراء السيرة النبوية التي تعتبر خطة الإسلام في الانتشار المتدرج الذي يقدم في كل مرحلة الأهم على المهم، وهناك أدلة جزئية كحديث عبدالله بن عباس أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بعَثَ معاذاً إلى اليمَنِ فقالَ لَه: “إنَّكَ تأتي قوماً أهْلَ كتابٍ فادعُهُم إلى: شَهادةِ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنِّي رسولُ اللَّهِ فإِن هُم أطاعوا لِذلِكَ، فأعلِمهُم أنَّ اللَّهَ افتَرضَ عليهم خمسَ صلواتٍ في اليومِ واللَّيلةِ فإن هُم أطاعوا لذلِكَ، فأعلِمهُم أنَّ اللَّهَ افترضَ عليهِم صدَقةَ في أموالِهِم تؤخَذُ من أغنيائِهِم وتُردُّ علَى فُقرائِهِم، فإن هُم أطاعوا لذلِكَ فإيَّاكَ وَكَرائمَ أموالِهِم واتَّقِ دَعوةَ المظلومِ، فإنَّها ليسَ بينَها وبينَ اللَّهِ حجابٌ“[4].
أما الأساس الثالث فهو الاسترشاد بطريقة القرآن الكريم وبخطابه: فالقرآن هو كتاب الله الذي نزل لإسعاد البشرية وهدايتها، وهو خطابُ مَن خلق الإنسان ويعلم أسراره وأحواله وما ينفعه وما يضره، ويعلم مداخل نفسه ومساربها، فلا شك أن طريقته في خطاب الناس ودعوتهم أسلم طريقة وأقربها لفطرة هذا الإنسان؛ فينبغي على الداعية أن يسترشد بطريقة القرآن في مخاطبته للفطرة، وفي ربط الإنسان بالكون وما فيه من آيات، وفي طريقته في الإقناع، وفي جمعه بين مخاطبة العقل ومخاطبة المشاعر، وفي بنائه على قاعدة الربوبية المتمثلة في الخلق والرزق والإنعام، وغير ذلك مما تميز به الأسلوب القرآني.
فإذا رأينا – على سبيل المثال – أن القرآن الكريم له طريقة مميزة في معالجة الأحداث وفي تربية عباده بها، وهي أنه يربطها بسننه التي يمضيها في خلقه؛ علمنا أن تحليل الأحداث ودراستها بمنأى عن السنن الإلهية تخبّط لا ثمرة من ورائه، واجتهدنا في تعلم السنن الربانية وفي ربط كل ما يجري من وقائع وأحداث بهذه السنن، وهذا من تمام فقه الواقع الذي لا غنى عنه.
وإذا رأينا القرآن الكريم – رغم إثباته في كثير من الآيات أن الكافرين المعاندين مسَلِّمون ابتداء بالربوبية – إذا رأيناه مع ذلك يتوسع – بشكل لافت للنظر – في الحديث عن مظاهر ربوبية الله تعالى من خلق ورزق وإنعام ورعاية وعناية وتصريف وتدبير؛ علمنا أن اللطيف الخبير العليم البصير سبحانه وتعالى يعلم أن تركيبة هذا المخلوق تركن إلى هذا النوع من الخطاب، وأن نداءه بهذه الطريقة يؤثر في فطرته، وأن هذا الباب يُعَدّ أوسع الأبواب التي يُدخَل منها على العباد؛ فلم يقصر عنه خطابنا ولم تهمله دعوتنا، واتخذناه مدخلاً إلى التأثير في الناس.
وهذا الطرح يقودنا إلى القول بأهمية الدراسات المعنية باستخراج كنوز القرآن الكريم – لا سيما ما يتعلق بصلب رسالة القرآن وهو هداية الإنسان – وإسقاط إشاراته ودلالاته على الواقع الذي نحياه ويحياه الناس، وأشير هنا إلى ضرورة الاستفادة من تجربة الأستاذ الشهيد سيد قطب – رحمه الله تعالى – بشكل موسع وبطريقة مؤسسية تعظم من الإيجابيات وتتلافى السلبيات وتتحقق بها صورة من صور الاجتهاد الجماعي المنظم.
أما الأساس الرابع فهو صبغ الخطاب الدعوي المعاصر بالصبغة العامة لخطاب القرآن والسنة، وذلك لا يتحقق إلا بأن يتسم بذات السمات، ويقوم على ذات المعالم، وينطلق من ذات المنطلقات، ويتغيّا ذات الغايات. ومن أهم سمات الخطاب في القرآن والسنة: وضوح الدلالة، والإقناع وقوة الحجة، وكفاية التبليغ بشمول الخطاب وعمومه. ومن أهم معالم هذا الخطاب: العالمية، والإنسانية، والمصداقية، والوسطية، والتوازن. ومن أهم منطلقاته: مسؤولية البلاغ، والإحسان والرحمة والإشفاق على الناس، والغيرة على حرمات الله. ومن أهم الغايات: تعبيد الخلق للخالق، وتحقيق سيادة الشريعة.
وفي سبيل تحقيق ذلك – وكذلك لتحقيق قدر كبير من الوحدة الفكرية والفهم الكلي للإسلام -، لا بد من تنشيط جملة من العلوم المهمة بشكل مؤسسي واسع التأثير، على رأسها: التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، والدراسة الموضوعية للسنة النبوية، ودراسات للسيرة النبوية تربط بينها وبين تاريخ التشريع وتاريخ النزول، وإحياء الفقه المقاصدي، وبعث الدراسات المقاصدية الكلية للشريعة، واستخراج النظريات العامة والنظم الكبرى في الشريعة الإسلامية، وجمع القواعد الكلية والضوابط العامة لأبواب الفقه الإسلامي، إضافة إلى الاجتهاد في بلورة الجمل الثابتة وتمييزها عن موارد الاجتهاد، مع إذاعة فقه الاختلاف وآدابه، إلى غير ذلك من العلوم التي تسهم في رسم الصورة العامة للخطاب الإسلامي كله.
هذه الأسس (التنظيم الشرعي للخطاب الدعوي – إحياء فقه الأولويات وتربية العاملين للإسلام عليه – الاسترشاد بطريقة القرآن الكريم وبخطابه – صبغ الخطاب الدعوي المعاصر بالصبغة العامة لخطاب القرآن والسنة…) وغيرها مما قد تجود به قرائح المهتمين بهذا الشأن – ولا أزعم أنني أحصيتها –؛ يجب علينا أن نسعى جاهدين إلى تفعيلها، مع الاهتمام الشديد بالإخلاص؛ لأن الله تعالى لا يبارك في عمل مهما بلغ تمامه إلا بالإخلاص، والاهتمام بالتربية الجادة على التضحية وعلى بيع النفس لله، وأدعو العاملين في حقل الدعوة إلى الاهتمام بهذا الملف الخطير، وإلى أن يكون لكل داعية إسهام في إنضاجه، والموضع مورد اجتهاد، ومثلي ليس أهلاً للاجتهاد، لكنني أحببت – فقط – أن أشارك في فتح باب هذه الدراسة المهمة، وإطلاق شرارة هذا التحرك الفعال.
والله أسأل أن يتقبل منا صالح العمل، وأن يلهمنا الرشد والإصابة، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.