إنها – بحقٍّ – ظواهر تستلفت النظر، وتستثير التأمل والتفكير، تلك التي لا تقلُّ في إبهارها وإعجازها وأخذها بمجامع القلوب عن كثيرٍ من الآيات الكونية الرائعة، وكثيرٍ من البراهين الشرعية الساطعة!
كيف وقعت مثلُ هذه الأمور على هذا النحو من الإبهار والإعجاز؟!
كيف استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثٍ وعشرين سنة فقط، ووسط ذلك المحيط الضخم من الجاهليات العاتية العادية؛ أن يبنيَ أمةً عقِمت أرحامُ القرون والدهور أن تلدَ مثلها، وأن يشيد حضارة لم ولن تسعدَ البشرية بمثلها منذ مولدها إلى أن تُطوى صفحة هذه الحياة الدنيا؟!
وكيف استطاعت هذه الأمَّة الأمِّية التي خرجت من قاع الصحراء بأقل جيوش أمم الأرض عدداً وعُدة، أن تُسقط الإمبراطوريات العتيقة، وأن تَبسط سلطانها في أقل من ربع قرن من الزمان على المعمورة، من حدود الصين إلى شواطئ الأطلسي؟!
وكيف استطاع علماءُ هذه الأمة أن يصنعوا مثل هذه المعجزات الباهرة، إلى حد أن الواحد منهم – في عمر قصير – يكتب من المؤلَّفات ما يحتاج منَّا إلى أعمار مديدة لقراءتها وتعلُّم ما فيها؟!
هذه الظواهر – وأمثالها كثير – ليس لها إلا تفسير واحد؛ إنها البركة.
أجل إنها البركة..
البَرَكَة التي إن وُجدت وحلَّت، اتسعت الأوقاتُ، وتضاعفت الطاقات، وتحققت الإنجازات، ووقعت المعجزات، وإن فُقدت أو رحلت، فربما خرج الإنسانُ من هذه الحياة – مهما طال عمره، وكثُر سعيُه – بلا زاد قدَّمه، ولا أثر خلَّفه.
والبَرَكَة تعني تكاثرَ الخير ونمائه واستقراره واستمراره[1]، ومصدرها الذىي تُلتمس منه واحد، إنه الله تبارك وتعالى، فهو وحده الذي (تَبَارَك) أي: كثُرت بركاتُه وتزايد خيره[2]، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: ١]، وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْـمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: ١]، وقال: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 64]، وقال: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْـخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14].
لذلك علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نلتمس البَرَكَةَ من الله وأن نسأله إياها، فها هو – على سبيل المثال – كان إذا رأى باكورة الثمر دعا الله تعالى وسأله البركة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى الثمر أُتي به فيقول: (اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَفِي ثِمَارِنَا، وَفِي مُدِّنَا، وَفِي صَاعِنَا؛ بَرَكَةً مَعَ بَرَكَةٍ) ثُمَّ يُعْطِيهِ أَصْغَرَ مَنْ يَحْضُرُهُ مِنَ الْوِلْدَانِ[3].
هذه البَرَكَة الربانية حلَّت على هذه الأرض قبل أن يستخلف اللهُ الإنسان فيها بملايين السنين، قال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ 9 وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ} [فصلت: ٩ – 10]، وبارك فيها أي: جعلها مباركةً قابلة للخير والبذر والغِراس[4].
لكنْ يَنتَفِعُ ببركات الله في هذه الأرض الذين اتَّقوا ربَّهم وعَمَرُوها بمنهج الله عز وجل، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]. وعلى العكس من هذا فإن التغيير والتبديل والإعراض عن منهج الله تعالى سبب لزوال البَرَكَة وذهاب الخير؛ وقد قصَّ الله تعالى علينا نبأ (سبأ) الذين أُبدلوا من بعد البركات والنماء محقاً؛ قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ 15 فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ: 15- 16]، وبيَّن الحق تبارك وتعالى أن هذه الأرض التي بارك فيها قد مُلئت فساداً بسبب ما اكتسبت أيدي العباد، فقال سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
وإذا كانت البركات الربانية قد سبقت بني الإنسان إلى هذه الأرض؛ إنعاماً من المولى على عباده، فإنها كذلك قد تبِعَتْهم وتداركتهم في كتبه المنزلة وشرائعه المحكمة؛ لتتمَّ عليهم النعمةُ بالهداية والرشاد، قال تعالى عن القرآن الكريم: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29]، وقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام: 92]، وقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 155]، ومعنى مبارك أي: كثير المنافع والفوائد[5]، وقد وصفه الله بالبَرَكَة لأنه يبارك من اتبعه وعمِل به[6].
فالذين يتَّبعون كتاب الله، ويعملون به، ويتلونه آناء الليل وأطراف النهار؛ يُبارَك لهم في قلوبهم وإيمانهم وأعمالهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّـمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ 57 قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57 – 58]، ويبارَك لهم في أرزاقهم ومعايشهم، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} [المائدة: ٦٦]، والمقصود بما أنزل إليهم من ربهم: القرآن[7].
ولقد أشارت نصوص القرآن والسنة إلى أسبابٍ تُلتَمَسُ بها البَرَكَةُ من الله عز وجل، وفيما يلي بيان لبعض هذه الأسباب:
1- تقْوَى الله عز وجل والتوكُّل عليه: يقول الله عز وجل: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً 2 وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: ٢ – ٣]، فليس هناك أعظمُ بركة من أن يأتيَ للإنسان رزقُه من حيث لا يحتسب ولا يتوقَّع، وأن يكون الله عز وجل هو حَسْبه وكافيه في تحقيق ما يؤمِّل ودفْعِ ما يحاذر، وأن يجعل الله تعالى له من كل همٍّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً؛ إنها أسباب البركة الواسعة، والعافية السابغة، والخير الكثير المتنوع المتعدد، تجتمع وتتكاثر حول من يتَّقي اللهَ ويتوكَّل عليه، ويمتلئ قلبُه بخشيته وتفويض الأمر إليه.
2- الاستغفار مع ترك الإصرار: إن ذنوبَ الإنسان ومعاصيَه لتَحجُب عنه البركاتِ التي أودعها الله عز وجل في هذه الأرض، والتي بثَّها في وحيه المعصوم، وشريعتِه المحكَمة؛ فإذا به يسعى ولا بركة في سعيه، ويجمع ولا بقاء ولا قرار لما يجمعه، فإذا ما ثاب إلى رشده، وآبَ إلى ربِّه، ولهج لسانُه بالاستغفار؛ فإن هذا الاستغفارَ الحارَّ يمزِّق الحُجُبَ، ويحرق الأستار، التي كانت تَحول بين العبد وما ساق اللهُ له من البركات، فإذا بالخير يتدفَّق من كل جانب، وينحدر من كل صَوْب، على هذا النحو الذي صوَّره القرآن، قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّاراً 10يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً 11 وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} [نوح: 10 – 12]، وقال جلَّ شأنه: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: ٣].
3- الدُّعاء بالبركة: فمما لا شكَّ فيه أن الدعاء هو أقربُ الأسباب لنيل ما عند المولى عز وجل من الخير، فمن دعا الله تعالى بالبَرَكَة فاستجاب الله دعاءه؛ فإنه يحصِّلُ البَرَكَةَ من أخْصَرِ طرقها؛ لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعطيها من يحب، فعن أنس قال: (مَاتَ ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ، مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقَالَتْ لِأَهْلِهَا: لَا تُحَدِّثُوا أَبَا طَلْحَةَ بِابْنِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا أُحَدِّثُهُ. قَالَ: فَجَاءَ فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ عَشَاءً، فَأَكَلَ وَشَرِبَ، فَقَالَ: ثُمَّ تَصَنَّعَتْ لَهُ أَحْسَنَ مَا كَانَتْ تَصَنَّعُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَوَقَعَ بِهَا.
فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهُ قَدْ شَبِعَ وَأَصَابَ مِنْهَا، قَالَتْ: يَا أَبَا طَلْحَةَ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ قَوْماً أَعَارُوا عَارِيَتَهُمْ أَهْلَ بَيْتٍ، فَطَلَبُوا عَارِيَتَهُمْ، أَلَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ؟ قَالَ: لَا، قَالَتْ: فَاحْتَسِبِ بما كان ابْنَكَ.
فغضِب أبو طلحة وانطلق حتى أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بَارَكَ اللهُ لَكُمَا فِي غَابِرِ لَيْلَتِكُمَا). قال: فحَمَلَتْ وأنجبت بعد ذلك عشرةَ أولادٍ كلهم يقرؤون القرآن[8].
4- سلوك السبيل السَّويِّ في الكسب والاسترباح وطلب الرزق الحلال والتعفُّف عن الحرام وعن الشُّبُهات: فإذا كان المسلم ينشُد البَرَكَةَ في رزقه وفي صحته وفي ولده؛ فعليه بتحرِّي الحلال في التكسب، وبالترفع عن كل ما لا يحِلُّ له من المال والمتاع، وعليه بالصدق والأمانة والعِفَّة والصيانة، وألا ينغمس في الرِّبا أو الغشِّ أو ما شابه ذلك من المحرمات التي فيها أكلٌ لأموال الناس بالباطل، فإنه إن سار على منهج الله فإن البَرَكَة ستحِلُّ في كسبه ورزقه وحياته كلها.
وهذه نماذجُ متفرقة من النصوص النبوية تقرِّر وتؤكد هذه الحقيقة:
عن حَكيمِ بنِ حِزامٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، – أَوْ قَالَ: حَتَّى يَتَفَرَّقَا – فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا)[9].
وعن ثوبان قال: (جاء حَكِيم بن حِزام فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، فقال: (يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى).
قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لاَ أَرْزَأُ أَحَداً بَعْدَكَ شَيْئاً حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَدْعُو حَكِيماً إِلَى العَطَاءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئاً، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَداً مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تُوُفِّيَ)[10].
وقال الله تبارك وتعالى عن الربا ومَحْقِه للبركة: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276].
5- البر والصلة وحُسن المعاملة مع الخَلق:
عن أنسٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)[11]، والمقصود بقوله يُنسأ له في أثَرِه: أن تحصُلَ له البَرَكَةُ في عُمره، وأن يوفَّق للطاعات، ولعِمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة[12].
وعن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (صِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسْنُ الخُلُقِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ، يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ، وَيَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ)[13].
6- حُسْن تنظيم الوقت والمبادرة إلى اغتنامه: فالوقتُ هو رأس مال المسلم، ومسؤولياتُه في هذه الحياة تضيق بها الأوقات، وتفنى فيها الأعمار؛ لذلك كانت المبادرةُ إلى اغتنام الوقت وحُسن تنظيمه واجباً من الواجبات الكبار؛ لأن واجباتِ المسلم لا تتمُّ إلا بهذا، وما لا يتم الواجبُ إلا به فهو واجبٌ، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بالبَرَكَة في بكورها؛ لأن البكور مبادرةٌ إلى اغتنام الوقت، وتبكيرٌ إلى حسن استغلاله وتنظيمه؛ فعن صَخْر بن وَدَاعَة الغامِدِيِّ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا)، وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشاً بَعَثَهُمْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَكَانَ صَخْرٌ رَجُلاً تَاجِراً، وَكَانَ يَبْعَثُ تِجَارَتَهُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَأَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ[14].
7- الجود والكرم والتكافل: يقول الله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِين} [سبأ: 39]، ويقول: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِـمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كُلُوا جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا؛ فَإِنَّ طَعَامَ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ، وَطَعَامَ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الثلاثة والْأَرْبَعَةَ، كُلُوا جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا؛ فإن البَرَكَة في الجماعة)[15]، وقال صلى الله عليه وسلم: (فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ)[16].
8- الجهاد في سبيل الله: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: الْأَجْرُ وَالمَغْنَمُ)[17]، فالجهاد خيرٌ وبركة على هذه الأمَّة إلى يوم القيامة، فيه الأجر الكبير والثواب الجزيل، وفيه الرِّزق الواسع الشريف الذي هو أشرفُ الأرزاق، والذي هو رزق أشرفِ الخلق محمَّد صلى الله عليه وسلم (وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي)[18]، وفيه – إلى جانب ذلك – قيامُ الدين، وتحقيقُ مصالح العباد في الدارَيْن.
إن البَرَكَةَ نعمةٌ من نِعَم الوهاب، ونَفْحَةٌ من الواسع العليم، والكيِّس الفطِنُ هو الذي يلتمسها من المولى الكريم، ويدخل بالتماسه على ربه من الأبواب التي رضِيها وشرَعها، والتي ذكرْنا بعضها كأسبابٍ لتحصيل البركة، وإن المسلم – وبخاصة في هذه الأزمان – لفي مسيس الحاجة إلى نيل البركات؛ ليصلَ إلى ما يريد من خيرَي الدنيا والآخرة من أقصر الطُّرق وأخصرِها.
[1] انظر مختار الصحاح (ص: 49)، والمعجم الوسيط (ص: 52)، والمفرادات في غريب القرآن (ص: 24)، ومعجم مقاييس اللغة (ص: 230).
[2] انظر المحرر الوجيز (6/416)، إعراب القرآن الكريم وبيانه (5/325).
[3] رواه مسلم (1373).
[4] تفسير ابن كثير (4/90).
[5] تفسير النسفي (2/23).
[6] تفسير ابن كثير (2/185).
[7] تفسير ابن كثير(2/73).
[8] صحيح مسلم (2144).
[9] متفق عليه: رواه البخاري (2079)، ومسلم (1532).
[10] متفق عليه، رواه البخاري (1396)، ومسلم (2434).
[11] متفق عليه: رواه البخاري (2067)، ومسلم (2557).
[12] انظر: فتح الباري (10/429).
[13] ( (رواه أحمد (25259) وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (3767).
[14] أخرجه أبو داود (2606) ، والترمذي (1212) وقال: حديث حسن، وابن ماجه (2236)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1693): صحيح لغيره.
[15] رواه ابن ماجه (3287)، وحسَّنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2691)، وصحيح الجامع (4501).
[16] أخرجه أحمد (16078)، وأبو داود (3764) ، وابن ماجه (3286)، وقال الأرنؤوط: حسن بشواهده.
[17] متفق عليه: رواه البخاري (2852)، ومسلم (1873).
[18] أخرجه أحمد (5114)، وأورده البخاري تعليقاً في باب الجهاد من صحيحه (4/40)، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (2831) والإرواء (1269).