تحكيم الشريعة.. التدرُّج لا التسويف

كم هي عظيمة تلك التضحيات التي بُذلت في تاريخ أمتنا المعاصر من أجل تحقق ذلك الحلم الكبير؛ (تطبيق الشريعة الإسلامية).

لكم أنفق المخلصون التائقون إلى بسط ظلال الشريعة الغراء من جهدهم وحرياتهم ودمائهم ومُهجهم!!

ولكم توارت خلف جدران السجون أنفسٌ تعشق الحرية، وعُلقت على أعواد المشانق قامات تطلَّعت إلى تحرير البشرية، ولكم جأرت الأرض إلى السماء بالشكوى لكثرة ما هزَّ ضميرها من آهات وصرخات، وضمَّخ ترابها من دموع ودماء.

كل هذا على ضخامته وجلالته ليس بكبير إذا قيس بالغاية الكبرى: (تطبيق الشريعة الإسلامية).

تطبيق الشريعة الإسلامية، وتحكيم شرع الله، وإقرار منهج الله؛ غاية ما أنبلها وأشرفها وأعظمها تهون في سبيلها الدماء والحريات والمهج والأرواح.

ولقد سنحت للمسلمين فرصة كبيرة لتحقيق حلمهم الكبير، وذلك إثر تفجر واندلاع الثورات وتوسع وامتداد الربيع العربي، ثم توفر الفرصة لوصول الإسلاميين بنسبة كبيرة إلى البرلمانات.

هنا، وعلى رأس هذا المنعطف الحاد في مسيرة العمل الإسلامي؛ وقف الطامحون في تطبيق الشريعة الإسلامية حائرين..

أهذا أوان تطبيق الشريعة الإسلامية جملة واحدة وحمل الكافة على الخضوع لها والدينونة بها؟

أم أنه لا بد من المرحلية والتدرج الذي ينقل الناس إليها على هون دون إزعاج أو ردود أفعال عنيفة؟

وأصبح السؤال عن مدى جواز التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية مُلحاً، لا سيما بعد أن أفصح المشهد الثوري والسياسي عن هويته، وأبان عن طويته، فالمشهد ليس إسلامي الهوية، وإن كان الإسلاميون ليسوا بعيدين عنه، وإنما المشهد وطني وحسب يضم مسلمين ومسيحيين، إسلاميين وليبراليين، اختلفت خلفياتهم، وتباينت مرجعياتهم.

هذا بالإضافة إلى حالة الاستقطاب السياسي الحادة، وحالة التربص الشديدة، والوضع الداخلي والخارجي والمحلي والدولي الذي يحتم اعتماد الأناة والتؤدة ويرجح ترك التهور والاندفاع.

كل هذا جعل السؤال عن مدى مشروعية التدرج في تطبيق الشريعة سؤالاً مُلحاً وملحفاً في إلحاحه وطلبه.

بداية: وقبل أن ندخل إلى صلب الموضوع، ينبغي ألا نغفل عن أمورٍ الغفلةُ عنها تخلق انحرافاً في الفهم لهذه القضية المهمة:

الأمر الأول: أن الأصل هو وجوب تطبيق شريعة الله كلها دون تعطيل ولا تأجيل، لأن الدين كمل نزولاً، ولم يعد من حق أحد أن يعطل شيئاً فيه، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3].

والأخذ بمبدأ التدرج استثناء من هذا الأصل، فإذا لم يكن هناك ما يبرر الاستثناء؛ فإنه لا وجه للقول بالتدرج.

الأمر الثاني: أن التدرج ثلاثة أنواع:

الأول: التدرج في التشريع:

بمعنى أن يكون مقصود المشرع تشريع صورة معينة سينتهي إليها لكن بعد تشريع مؤقت يقصر عن الصورة المقصودة؛ مثلما حدث في تحريم الخمر وتحريم الربا وغير ذلك من التشريعات.

فهذا النوع من التدرج لا يجوز اعتماده الآن؛ لأنه لا يمكن أن يقع إلا في عهد النبوة.

الثاني: التدرج في البلاغ والبيان:

وذلك مثل ما ورد في حديث ابن عباس في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له «إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب؛ فادعهم إلى شهادة ألا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب».

وهذا النوع من التدرج جائز لهذا الحديث، وصورته أن الداعية يسعه السكوت عن بعض الحق دون تصريح بخلافه توصلاً إلى التدرج في البلاغ.

الثالث: التدرج في التطبيق والتنفيذ:

وصورته أن يُسكَت عن الصورة التشريعية المعلومة دون إنكار لها ولا تغيير لحكمها إلى أن يأتي الوقت المناسب لتطبيقها.

وهذا هو النوع من التدرج الذي يدور الكلام حوله.

الأمر الثالث: أن مسألة التدرج في تطبيق الشريعة كي يتم طرحها من حيث المبدأ لا بد من توافر عدة شروط:

1 – الإيمان الكامل بوجوب تطبيق الشريعة، والإيمان بصلاحية تطبيقها في كل مجالات الحياة.

2 – وجود نية ورغبة صادقة لتطبيق الشريعة الإسلامية.

3 – وجود خطة لمراحل تطبيق الشريعة ولو أنها قابلة للتعديل جزئيّاً.

4 – وجود عجز حقيقي وليس مجرد توهم.

5 – ألا يؤجل تطبيق الحكم الذي يقدر على تطبيقه.

حكم التدرج في تطبيق الشريعة:

من المهم أن نتأمل مأخذ ومنبع القول بعدم جواز التدرج في تطبيق الشريعة، وكذلك مأخذ ومنبع القول بالجواز، وأن نجيل النظر في كلٍّ منهما قبل أن نذكر القول الذي ننتهي إلى رجحانه.

أولاً: مأخذ القول بعدم جواز التدرج في تطبيق الشريعة:

القول بعدم جواز التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية ينبني على أصل كبير ثابت، وهو أن الدين قد كمل، وأن التشريع قد تم، وأن الأحكام قد استقرت بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وامتناع النسخ، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3].

ونحن من ثم مأمورون بأن ندخل في شرائع الإسلام كافة وأن نطبق جميع أحكامه، وهذا هو معنى قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة: 208].

وكذلك نحن منهيون عن أن نكون كهؤلاء الذين فرَّقوا كتاب الله فآمنوا ببعض وكفروا ببعض وجعلوا القرآن عضين؛ فطبقوا منه ما يروق لهم، وأهملوا ما لم يتفق مع أهوائهم، وهذا بعض ما يدل عليه قول الله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ خِزْيٌ فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85]، وقوله تعالى: {كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى الْـمُقْتَسِمِـــينَ 90 الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:90-91].

وقد فهم الصحابة هذا الفهم وعملوا به، فهذا أبو بكر – رضي الله عنه – لم يعتمد على التدرج في موقفه من مانعي الزكاة، ولو شاء لاعتمد عليه فقبل منهم إيمانهم وصلاتهم وأخَّر مسألة الزكاة إلى حين، لكنه قال بحسم: «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه»، عندئذ قال عمر: «فو الله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق»[1].

وانعقد إجماع الصحابة على ذلك بعد ذلك الخلاف اليسير الذي وقع بين أبي بكر وعمر.

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حَذّر تحذيراً بالغاً من ترك بعض ما أنزل الله إليه، فلا يسعنا أن نترك بعض ما أنزل الله على رسوله بدعوى التدرج، قال تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ} [المائدة: 49].

فالتدرج إذاً ليس هو المنهج الذي يستقيم مع طبيعة هذا الدين بعد تمامه وكماله، بل المسارعة والمسابقة والمبادرة واستباق الخيرات، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، {فَاسْتَبِقُوا الْـخَيْرَاتِ} [البقرة: 148].

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم».

والشأن في حقيقة الأمر شأن عقيدة ودين، فإذا صحت عقيدة الناس ودانوا لله الواحد القهار، لا يصح لهم أن يتبعوا آلهة شتى وأرباباً متفرقين؛ بأن يطبقوا بعض شرع الله مع شرائع عن غير الله تبارك وتعالى.

ثانياً: مأخذ القول بجواز التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية:

القول بجواز التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية ينبني على أصل كبير ثابت وهو أن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، فإنه سبحانه وتعالى لا يكلف العباد إلا بما أمكن علمه والعمل به، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]. لذلك فإن الاستقراء التاريخي لعملية التشريع يثبت بيقين أن الشارع الحكيم أخذ الناس على تؤدة وأناة، فعلمهم الإيمان والتوحيد وأصول الأخلاق وبعض الشعائر التعبدية ثم نقلهم شيئاً فشيئاً وصعد بهم في درج التشريع حتى بلغ تمامه قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} [الإسراء: 106]، وفي صحيح البخاري عن عائشة: «…. إنما نزل أول ما نزل سور من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبداً، لقد نزل بمكة على محمد – صلى الله عليه وسلم – وأنا جارية ألعب {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُ}، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده…»[2].

وإذا كان التدرج في التشريع الذي وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم غرضه وقصده التمكين للشريعة بتثبيت أحكامها على تؤدة وروية لئلا ينقلب الناس عليها وينفروا منها؛ فإن ذات الغرض والقصد يستدعي التدرج في التطبيق إذا وجدت نفس الظروف ونفس الأسباب في أي زمان أو مكان لا يوجد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي أن التدرج في التشريع دليل على مشروعية التدرج في التطبيق؛ لأن العلة في الحالتين واحدة والقصد فيهما واحد.

يقول ابن تيمية: «فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما، كان بيانه لما جاء به الرسول شيئاً فشيئاً بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئاً فشيئاً. ومعلوم أن الرسول لا يبلّغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأتِ الشريعة جملة، كما يقال: إذا أردت أن تُطاع فأمر بما يُستطاع. فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلّغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقَّن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها. وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد، لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجباً عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداءً، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان؛ كما عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه»[3].

لذلك لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال له: «إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب…» (الحديث ورد سابقاً)، وهذا في حقيقته تدرج في التطبيق وليس في البلاغ وحسب؛ لسببين، الأول: أنه قال له في آخر الحديث «… فإياك وكرائم أموالهم…»، وهذا يدل على أنه لم يأتِ مبلِّغاً فقط، الثاني: أن التوقف عن بلاغ شيء من الشريعة يعني التوقف عن التطبيق؛ لأنه لا تطبيق قبل البلاغ والبيان.

بل إن التدرج في التطبيق وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلة ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بايع ثقيفاً اشترطوا عليه ألا صدقة عليهم ولا جهاد، فقبل منهم وقال: «سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا».

ويؤكد هذا المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم حثَّ على التؤدة والرفق في العمل بهذا الدين فقال: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق»، وقال: «القصد القصد تبلغوا».

الترجيح:

من خلال النظر في الأصلين وما انبنى عليهما يمكن أن نخرج بالنتائج التالية:

1 – أن الأصلين ثابتان راسخان لا جدال فيهما، الأول أن الدين قد كمل وتم وأننا مأمورون بالدخول في شرائعه كافة، الثاني أن الله تعالى لا يكلف العباد إلا بما أمكن علمه والعمل به.

2 – أن كل قول من القولين انبنى على أصل من الأصلين، فالقول بعدم جواز التدرج انبنى على الأصل الأول، والقول بجواز التدرج انبنى على الأصل الثاني، ولا سبيل إلى ترجيح أحد القولين عن طريق الترجيح بين الأصلين.

3 – أن كل قول له وجاهة في ذاته، لا سيما إذا ارتبط بالأصل الذي انبنى عليه، وأنه لا سبيل إلى رد أي من القولين بتضعيف أو تزييف، وأن الجمع بينهما بحمل كل منهما على حال هو المسلك الرشيد السديد؛ بحمل القول الأول على حال القدرة والاختيار، والقول الثاني على حال الضرورة والاقتهار.

4 – أنه في حال الضرورة والاقتهار إذا اعتمدنا القول الأول أهدرنا الأصل الثاني الذي انبنى عليه القول بجواز التدرج، أما إذا اعتمدنا القول الثاني فإنه لن يأتي على الأصل الأول بأدنى ضرر أو إنقاص، وذلك للتالي:

– أن التدرج في التطبيق لا ينتقص الدين بعد تمامه وكماله، لأنه – من حيث العلم – لا يعتمد على إنكار أو جحد لما تأخر تطبيقه من الشريعة، ومن حيث العمل لا يرفع حكماً كان مطبقاً من قبل ولا يؤخره، فالتدرج – إذاً – لا يلزم منه إنقاص للدين بعد تمام وكمال ولا عودة بالأحكام إلى صورتها قبل استقرارها.

– أن التدرج في تطبيق الشريعة لا يخل بمبدأ الاستسلام لشرع والدينونة بأحكامه كلها، لأن تطبيق بعض الأحكام وتأجيل بعض ليس تحكيماً للهوى على حساب الشرع، وإنما هو خطة لتعظيم الشرع والتمكين له في النفوس والمجتمعات، وحماية له من ارتداد الناس وخروجهم عليه، ونفرة للعامة من الالتزام به.

– أن التدرج في تطبيق الشريعة ليس تعطيلاً لما تأخر تطبيقه من الأحكام، وليس رفضاً للدخول في جميع شرائع الإسلام، وإنما هو تهيئة وإعداد للمجتمعات لتستقبل الأحكام برضا وتسليم، فيحدث التوقير للشرع والتعظيم لأحكامه.

وعليه؛ فإن الراجح هو جواز التدرج في تطبيق الشريعة إذا توافرت الشروط التي تقدم ذكرها، مع مراعاة أن التدرج يختلف في سرعته وتقارب مراحله وأولويات الابتداء وغير ذلك من مكان إلى آخر.

ومما يدعم القول بالجواز ما يلي:

أولاً: يمكن أن يكون القول بالتدرج مؤسَّساً على المرتكزات التالية:

1 – نصوص الشرع الدالة على إيذان الإكراه بارتكاب بعض المحرمات وترك بعض الواجبات.

2 – نصوص الشرع الدالة على إيذان حالة الضرورة بارتكاب بعض المحرمات وترك بعض الواجبات.

3 – نصوص الشرع الدالة على أن الوجوب منوط بالاستطاعة والقدرة.

4 – نصوص الشرع الدالة على أن الحاجة تؤذن بارتكاب بعض المنهيات وترك بعض الواجبات.

5 – نصوص الشرع وقواعده الدالة على الموازنة بين المصالح والمفاسد ودرء المفسدة الغالبة ولو بترك بعض الواجبات وفعل بعض المنهيات التي دونها في المفسدة.

6 – نصوص الشرع الدالة على الرفق بالناس.

ثانياً: نزول القرآن الكريم منجماً على 23 سنة أبلغ دليل على اتباع الشريعة هذا المنهج في تثبيت الأحكام، قال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} [الإسراء: 106]، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32]، وفي الصحيح من حديث البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها «إنما نزل أول ما نزل…» (الحديث ورد سابقاً).

ثالثاً: القواعد الشرعية العامة وقواعد السياسة الشرعية القاضية بأن افتقاد القدرة على السعي المباشر لا يلغي وجوب السعي التدريجي؛ فما لا يدرك كلُّه لا يترك جلُّه، والميسور لا يسقط بالمعسور، واستعمال آليات الديمقراطية والتشريع البرلماني في ذلك جائز من باب الحاجة والضرورة.

رابعاً: ورد عن بعض الفقهاء ما يدل على تطبيقهم مبدأ التدرج في التطبيق، من ذلك أن الإمام مالك – رحمه الله تعالى – سئل عن الرقيق العجم يُشترون في شهر رمضان وهم لا يعرفون الإسلام ويرغبون فيه لكن لا يفقهون ما يُراد منهم، فهل يُجبرون على الصيام أم يُطعمون؟ فقال: أرى أن يُطعموا ولا يمنعوا الطعام ويرفق بهم حتى يتعلموا الإسلام، ويعرفوا واجباته وأحكامه[4]. ويقول ابن القيم رحمه الله:

«وتأخير الحدّ لعارض أمر وردت به الشريعة، كما يؤخر – أي الحد – عن الحامل والمرضع، وعن وقت الحر والبرد والمرض. فهذا تأخير لمصلحة المحدود، فتأخيره لمصلحة الإسلام أولى»[5].

لذا فجديرٌ التدرج بـ:

1 – عدم التصريح بما يمنع مستقبلاً من الانتقال إلى الخطوات التالية، فالتدرج في البيان لا يعني النطق بالباطل.

2 – ألا نسرف في مراعاة الواقع بما يفضي إلى التعطيل بطريق التسويف.


[1] أخرجه الجماعة إلا ابن ماجه، لكن في لفظ مسلم والترمذي وأبي داود: «لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه» بدل «العناق».

[2] صحيح البخاري.

[3] (الفتاوى 20/59 – 61).

[4] (البيان  والتحصيل 1/291).

[5] (إعلام  الموقّعين 3/18).