الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
العناية الإلهية الكونية الخاصة .. يختص الله بها أحداً أو بعضاً من عباده منَّة منه وفضلاً، سواء جاءت ابتداء أو على أثر اللجأ والدعاء؛ فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، إلا أنَّ أثرها في النفس عميقاً، فهي تتجاوز الإقناع إلى الإشباع، وتتخطى الإعجاز إلى الإبهار والإبداع، ويتعدى أثرها في النفس والوجدان ليبلغ النخاع، ولن يلامسك شك أو يلابسك ريب إذا طالعتها أنَّك مرشح للنيل من فيضها إذا مددت إليها يداً.
ولكي تكون على يقين وتبلغ من الخير ما تريد ومن المنى ما تتمنَّى خذ إليك هذه الأخبار، عمَّن منَّ الله عليهم بخاصِّ رعايته وعنايته، فهذا عبد الله ورسوله نوح عليه السلام، عندما لم يكن هناك بد من نزول العذاب العام؛ يأتيه النداء من العلياء: (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (هود 41) ووسط سحائب الأهوال، بينما التقى الماءان فصارت الأمواج كالجبال، وعمَّ الطوفان الغاضب الوديان والتلال؛ ترى سفينة نوح بمن فيها من المؤمنين في يد العناية تحملها فوق الأمواج: (وهي تَجْري بهم في مَوْجٍ كالْجِبالِ) (هود 42) ثمّ ها هي الأهوال تنقشع، وبينما يتطلع المؤمنون إلى الجديد المجهول في ترقب واستشراف يأتيهم الأمر الإلهي الذي يفيض رحمة وحناناً ويتفجر عطفاً وامتنانا: (قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) (هود 48)
أمَّا إبراهيم عليه السلام فقد بلغت العناية الإلهية معه حدَّ التحدَّي للأهوال العظام: (قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الأنياء 69) لذلك فهو على هذه الثقة وهذا اليقين من دوام عناية رب العالمين: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)) (الشعراء 78- 82).
وإن تعجب فعجب شأن موسى عليه السلام مع هذه العناية الإلهية الخاصة، التي لَفَّته في مهده وأحاطته في رحلته من بطن أمّه إلى مستقره في قصر الطاغية: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)) (القصص 7-9)
ولم تكن مريم أقل من موسى حظوة بهذه العناية الخاصة؛ فها هي تُكْفَلُ وتُرْزَقُ وتَرْفُلُ في عناية ورعاية أبهرت عبد الله (زكريا): (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران 37)، ثمَّ تأتي المحنة في طياتها المنَّة، وحولها ترفرف رايات العناية معلنة عن كفالة تامّة ورعاية كاملة: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)) (مريم 25-26).
وغيرهم وغيرهم من أنبياء الله ورسله، وإذا أردت مزيداً فدونك كتاب الله فاقرأ وتزود وتوكل واعتمد، ولا تنس أن تمر بآخر ربع في سورة الأنبياء؛ لتنبهر بعناية الله بأنبيائه واستجابته لدعائهم وكشفه للضر عنهم.
فإذا أسلمك البحث والتنقيب إلى النبيّ الخاتم صلى الله عليه وسلم فستجد من مظاهر العناية به الكثير والكثير، وحسبك منه هذه الإشارات: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8)) (الضحى 6-8) (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال 30).
ولم يكن الأمر خاصاً بالأنبياء وحدهم، وإنما نال المؤمنون منه كل بحسب حظوته، وقد مرّت الإشارة إلى المؤمنين مع نوح، وهذه أمثلة أخرى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) (سبأ 15) (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الأنفال 26)
وإذا كانت المعيَّة العامَّة في شقٍّ منها تمثل مظهرا من مظاهر العناية العامّة؛ فإنّ المعية الخاصة تمثل ذروة العناية الإلهية الخاصة، وحسبك مثالاً على هذا: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة 40)
إنَّها العناية الإلهية الكونية الخاصة، إنَّها أشد ملامسة وملابسة للإنسان؛ فعجيب أن يظل الإنسان على موقفه هذا من الرحمن، وعجيب كذلك أمر أولئك الذين يجحدون من يحوطهم بعنايته آناء الليل وأطراف النهار !!