وكما أنَّ للرزق أسباباً جالبة، هناك أسباب سالبة وحاجبة، قد بينها الكتاب العزيز؛ لنكون منها على بينة، ولنقف منها على حذر واحتراز، وعلى نفس المنهج المعهود في كل قضايا الإسلام نجد أن ما أجمله القرآن تفصله السنة، وإن كان الإجمال في قضايا المحكمات ولاسيما قضية الرزق قليل وعلى وجه الاستثناء، والأصل هو التفصيل والبيان، والفروع القليلة التي تفصل فيها السنة لا تكون في القرآن مجملة إجمال الإبهام والغموض الذي يفتقر إلى البيان، وإنما هو إجمال الإيجاز الذي يزيده تفصيل السنة بيانا واتساعاً في تطبيقاته، وهذا المعنى من الإجمال هو الذي قصدناه في كل موضع نتناول فيه المحكمات من خلال التفسير الموضوعيّ لكتاب الله فنقول إنَّ القرآن أجمل ما فصلته السنة.
موانع الرزق وأسباب المحق
فما هي الأسباب التي تحجب الرزق وتمسكه وتضيقه؟ لا ريب أنَّ ترك الأسباب الجالبة للرزق يأتي على رأس الأسباب الحاجبة له، وهذا منطقيٌّ؛ إذ السبب ما يلزم من وجوده الوجود ويلزم من عدمه العدم، لكن مع ذلك هناك أسباب نص عليها القرآن الكريم، أهمها وأبرزها ما يلي:
أولاً: الكفر بعد الإيمان: وقد نص القرآن على هذا السبب نصاً في صورة مثل ضربه الله تعالى لمن غير الله ما بهم من نعمة إلى نقمة بسبب أنهم غيروا ما بهم من إيمان إلى جحود وكفران، فقال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل 112)، وهذه القرية هي مكة، وقد كانت قريش تسكنها في موطن آمن وعيش رغيد، فلما جاءهم الحق من ربهم كفروا به؛ فبدل الله حالهم من الأمن إلى الخوف، ومن رغد العيش إلى الجوع والفقر.
ثانياً: الإعراض بعد الإقبال: وأوضح مثال قرآنيّ على هذا قصة سبأ: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)) (سبأ 15-17).
ثالثاً: البطر والأشر وكفران النعمة، قال تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) (القصص 58) أي: (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها) عاشوا في البطر وكفران النِّعمة (فتلك مساكنهم) خاويةً (لم تسكن من بعدهم إلاَّ قليلاً) لا يسكنها إلاَّ المسافر والمارُّ يوماً أو ساعةً” الوجيز للواحدي (ص: 823)
رابعاً: استثمار الغنى والثراء وكثرة الأموال في الفساد والإفساد، فكم من غرَّ مغرور أغناه الله وابتلاه بكثرة العرض، فأغراه هذا بإشاعة الفساد وإذاعة الفسوق، وقد ضرب الله لهذا الصنف مثلا في كتابه، وهو قارون، حيث قال له عقلاء قومه: (وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص 77)، لكنه أعرض عن الذكرى وتولى واستكبر واستمر في ممارسة الفساد والإفساد بماله؛ فكانت النتيجة وكان المصير: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)) (القصص 81-82).
خامساً: الإسراف والتبذير وإهدار مقررات الأمة ومقدرات العباد، وهو كثير ذائع في المسلمين ولاسيما في البلاد التي رزقها الله تعالى رزقا سهلا كالبترول والغاز، وقد بين القرآن أنّ هذا المنهج المنحرف يورث الحسرة والندامة وكثرة التلاوم، فقال: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء 29).
سادساً: الربا الذي صار الآن نظاماً عالمياً يدار به المال ويقوم عليه الاقتصاد، قال الله عزَّ وجلَّ: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) (البقرة 276).
سابعاً: أن تفقد الأمة الحاملة لمنهج الله جزءً من قيمتها وقدراً من مبرر اصطفائها؛ بنقضها للعقود ونكثها للعهود وإهدارها للمواثيق الموثقة، حتى تغدو بصنيعها هذا قدوة سيئة تصد عن سبيل الله؛ فتذوق السوء بصنوفه التي منها الفقر والجوع، قال تعالى: (وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)) (النحل 94- 96).
شبهات ومعضلات
فإن قيل: ها هي الأمم الكافرة المكذبة ترفل في النعيم وتسبح في الخيرات؛ فإين هذا مما قرره القرآن الكريم من أسباب الرزق وموجبات المحق؟! كان الجواب على النحو التالي:
أولاً: يجب علينا – بما أننا مسلمون – التسليم بما قرره كتاب الله تعالى؛ إذ إنَّ الحقيقة الكبرى والمسَلَّمَة العظمى هي أنَّ الله تعالى أصدق القائلين وأنَّ قوله صدق ووعده حق: (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) (النساء 122)، فما علينا إلى التسليم، وهو مقتضى الإيمان بالله، وكما قال الطحاويّ في متن العقيدة: “ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام”.
ثانياً: هذه الأسباب سواء منها الجالبة أو الحاجبة هي في حقيقتها قوانين ونواميس وسنن إلهية، تعمل بمحاذاتها قوانين ونواميس وسنن إلهية أخرى، والتداخل والتعقيد بين مسارات وأفلاك عمل هذه القوانين والسنن يحجب الرؤية إلا على الراسخين في العلم، بل إن هنالك مناطق لا يصل إليها الراسخون في العلم وأغلبها من مسائل القدر التي احتفظ الله بعلمها، ومما يظهر من ذلك سنة يغفل عنها كثير من الناس: “إنَّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً” فهؤلاء الكفار برغم أنَّهم لم يحسنوا الأعمال التعبدية أحسنوا الأعمال الدنيوية، فسبقوا المسلمين إلى البحث العلمي، وإلى العمل الجاد، وإلى الأخذ بأسباب الحضارة والعمارة، وإلى حسن إدارة الوقت والمال والعقول؛ فاقتضى عدل الله أن لا يضيع أجرهم على إحسانهم وإتقانهم في هذا الجانب، فلكونهم ليس لهم حظٌ من الآخرة وَفَّاهم الله نصيبهم في الدنيا؛ (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ) (هود 15)، وفي المقابل نجد المسلمين يهدرون الأسباب التي وضعها الله تعال لأخذ المجرمين، وهي بالتحديد: كل وسائل الدفع والمقاومة والمجاهدة من المؤمنين للكافرين، وقد قضى الله تعالى بأن يكون أخذ الأمم المعاندة لأمة الإسلام وكسر شوكتهم بأيدي المسلمين؛ إذ بعد أن بين الله تعالى مصارع المكذبين المجرمين قال عن هؤلاء المجرمين المعاندين للإسلام: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)) (القمر 43-45).
ثالثاً: هذه قوانين يقع بينها التدافع كسائر القوانين، والعبرة عند التدافع بما غلب، فقد يكون من المسلمين من يوصفون بالتقوى والصلاح في أنفسهم ومن يمارسون الدعاء والاستغفار والتوكل، فيستحقون بقوانين إلهية الرزق الوفير، لكنهم دخلوا مع الجماعة في الإعراض عن منهج الله تعالى؛ فلم يقاوموا ولم يأمروا بالمعروف ولم يحتسبوا؛ فيحق عليهم قانون التبديل والإمحال، فيقع التعارض فيكون الأمر لما غلب، وهذا التدافع عمل في الكون أراده الله تعالى؛ لحكمة، ولم يقع عن نسيان أو غفلة؛ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
رابعاً: قد لا يكون المحق متمثلا في ذهاب المال ووقوع الفقر والإمحال، ويكون متمثلا في ذهاب البركة وفقدان الطمأنينة، وهذا – لعمر الحق – يجعل المال في يد مالكه كالطعام الشهيّ في يد العليل العَيِيّ، وقد لا تنحصر البركة في صورة الثراء وكثرة العرض، فكم من بسيط بُسطت له السعادة بسطاً، وكم من قابض لمفاتيح الخزائن قد وقع قلبه في قبضة الهم الواصب، ولذلك جاء في بعض الآيات ما يشير إلى البديل عن الثراء والغنى عندما تتعارض الأسباب الموجبة لهما مع نواميس أخرى لله تعالى، مثل: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97).
خامساً: لا تهن؛ فالمسألة أهون من كل ما يذهب إليه الخيال ويتوهم، المسألة في جانب كبير من جوانبها على هذا النحو: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)) (الزخرف 31-35)، أي: لولا أن يكفر الناس جميعاً؛ بسبب ميلهم إلى الدنيا وتركهم الآخرة، لأعطيناهم في الدنيا ما وصفناه؛ لهوان الدنيا عند الله، وقال بهذا أكثر المفسرين فتح القدير للشوكاني (4/ 635).
وبهذا الذي قدمنا تكون مسألة الرزق واضحة جلية؛ وكيف لا تكون واضحة وهي من المحكمات، وقد ازدادت وضوحاً من خلال التفسير الموضوعيّ؛ فهو أحد أدوات الاستدلال على المحكمات، والحمد لله أولاً وآخراً. (تمَّ)